28/10/2025
حوكمة التحالفات السياسية وآليات اتخاذ القرار: دراسة تحليلية مقارنة مع الحالة الإريترية
محمد عمر مسلم
الملخص التنفيذي :
تتناول هذه الورقة مفهوم حوكمة التحالفات السياسية وآليات اتخاذ القرار داخلها، بوصفها إطارًا تنظيميًا لإدارة التنوع الأيديولوجي والمصلحي بين الأحزاب والتنظيمات السياسية. تشير التجارب المقارنة في إفريقيا وآسيا وأوروبا إلى أن فعالية التحالفات لا تقاس بطول عمرها فقط، بل بقدرتها على بناء مؤسسات اتخاذ قرار مرنة وشفافة تحافظ على التوازن بين المصالح المشتركة والاختلافات البنيوية. من خلال تحليل الحالة الإريترية ومقارنتها بنماذج أخرى، تسعى الورقة إلى إبراز أن غياب الحوكمة المؤسسية يؤدي إلى هشاشة التحالفات وتحولها إلى أدوات ظرفية، في حين تمكّن الآليات التشاركية والرقابية من تحويلها إلى منصات استقرار سياسي نسبي.
الكلمات المفتاحية: الحوكمة السياسية، التحالفات الحزبية، اتخاذ القرار، الحالة الإريترية، التعددية السياسية.
المقدمة:
تشكل التحالفات السياسية أحد أهم مظاهر التفاعل بين القوى والتنظيمات التي تسعى للوصول إلى السلطة أو التأثير في القرار السياسي. وتنبع أهميتها من كونها أداة لإدارة التنوع الاجتماعي والسياسي، وتجاوز محدودية الأحزاب الفردية في النظم التعددية أو الانتقالية. غير أن التحالفات، بخاصة في البيئات غير المستقرة أو التي تعاني من ضعف الثقة المتبادلة، تواجه تحديات حقيقية في بناء مؤسسات حوكمة فعّالة، في هذا الإطار، تطرح الورقة سؤالها الرئيس: كيف يمكن تطوير آليات اتخاذ القرار داخل التحالفات السياسية بما يعزز استدامتها وفاعليتها، رغم اختلاف الأيديولوجيات وتعارض المصالح؟، وللإجابة عن هذا السؤال، تنقسم الورقة إلى أربعة محاور رئيسة: الإطار النظري لمفهوم الحوكمة، آليات اتخاذ القرار، تحليل الحالة الإريترية، ثم المقارنة واستخلاص الدروس.
الإطار النظري: مفهوم الحوكمة في التحالفات السياسية:
تُعرَّف الحوكمة السياسية بأنها منظومة القواعد والمؤسسات والعمليات التي تنظّم صنع القرار داخل الكيانات السياسية، بما يضمن الشفافية والمساءلة والتوازن بين المصالح (North, 1990)، في سياق التحالفات، تعني الحوكمة القدرة على تنظيم العلاقات بين الأطراف المشاركة بطريقة تقلل من النزاعات الداخلية وتزيد من الانسجام الاستراتيجي (O’Donnell, 2018)، أما في البيئات الانتقالية أو الهشة، كما هو الحال في العديد من الدول الإفريقية، فإن الحوكمة تصبح شرطًا لبقاء التحالف نفسه، إذ غالبًا ما تتفكك التحالفات بسبب غياب آليات اتخاذ القرار أو احتكار القيادة من طرف واحد (ICG, 2023).
آليات اتخاذ القرار في التحالفات السياسية:
تختلف آليات اتخاذ القرار باختلاف طبيعة التحالف، لكن الدراسات المقارنة تشير إلى أن الأنماط الأكثر فاعلية هي تلك التي تعتمد على:
1. التوافق المشروط: أي اتخاذ القرار عبر مشاورات واسعة تضمن تمثيل كل المكونات، مع تحديد آلية لفض النزاع في حال تعارض المواقف.
2. المأسسة التنظيمية: إنشاء لجان وهيئات دائمة تمثل الأطراف بالتناسب، وتعمل كقنوات مؤسسية لإدارة القرارات الحساسة.
3. الشفافية والمساءلة: إعلان القرارات وشرح منطقها لجميع الأطراف لتقليل الشكوك، وهو ما يعزز الثقة ويحد من الانقسامات (Levine, 2019).
4. التوزيع المرن للأدوار: حيث لا يحتكر طرف معين صنع القرار، بل يتم تبادل المواقع والمهام القيادية ضمن دورة زمنية محددة (Arriola, 2020).
الآليات المناسبة للتحالفات الهشّة وضعيفة الثقة:
في حالات التحالفات التي تتسم بضعف الثقة، وتباين الأيديولوجيات، وتعارض المصالح، والتنافس غير البنّاء، تكون الحاجة إلى آليات متوازنة ومقننة أكثر إلحاحًا. ومن أبرز هذه الآليات:
1. اعتماد مبدأ التوافق المرحلي: أي التوصل إلى قرارات مرحلية قابلة للتقييم الدوري بدل القرارات النهائية الجامدة. يتيح ذلك بناء الثقة تدريجيًا (Fukuyama, 2016).
2. اللجان المشتركة المتخصصة: إنشاء لجان فرعية لمعالجة القضايا الخلافية (مثل تقاسم الموارد أو تحديد المواقف السياسية)، بما يمنع انتقال الخلاف إلى كامل التحالف.
3. العقود السياسية المُلزِمة: صياغة وثيقة مكتوبة تحدد الأهداف المشتركة، وآليات اتخاذ القرار، وإجراءات الانسحاب أو الانضمام.
4. إدارة الخلاف عبر الوسطاء الداخليين: استخدام شخصيات تحظى بثقة الأطراف كضامنين أو ميسّرين في حالات الخلاف.
5. آلية المراجعة الدورية: تقييم مدى الالتزام والإنجاز بشكل شفاف، لضمان استمرار التحالف على أسس موضوعية لا عاطفية.
هذه الآليات تساعد في الانتقال من منطق الولاء، إلى منطق الشراكة، وتمنع تغلّب الأيديولوجيا أو المصالح الفردية على الأهداف الجمعية، وهي من أبرز معايير الحوكمة السياسية الرشيدة في التحالفات (Diamond, 2021).
التحديات البنيوية والسياسية:
تواجه التحالفات السياسية في الدول النامية أو الانتقالية تحديات هيكلية، أهمها:
1. غياب الثقافة المؤسسية داخل التنظيمات الحزبية.
2. ضعف الانضباط التنظيمي والتمويل المستقل.
3. تغليب الولاءات الشخصية أو القَبَلية على المعايير المؤسسية.
4. تدخل القوى الإقليمية أو الدولية في تشكيل التحالفات أو توجيه قراراتها، وقد أظهرت دراسات مقارنة في إفريقيا الشرقية أن التحالفات التي لم تنشئ أطرًا واضحة لتقاسم السلطة أو اتخاذ القرار انتهت بانشقاقات أو مواجهات داخلية (Lynch, 2022).
الحالة الإريترية: نموذج التحالفات المغلقة:
تُعد الحالة الإريترية مثالًا واضحًا على التحالفات ذات الطابع المغلق، حيث تهيمن القيادة المركزية على القرار، ويغيب التنوع السياسي الحقيقي، منذ الاستقلال، ظلت الجبهة الشعبية للديمقراطية والعدالة (PFDJ) تمثل الإطار السياسي الوحيد تقريبًا، ولم تسمح بقيام تحالفات تعددية ذات طابع مؤسسي، لكن في أوساط المعارضة الإريترية في الخارج، ظهرت تحالفات متكررة بين التنظيمات السياسية والإثنية، غير أنها فشلت في الاستمرار بسبب غياب الحوكمة الداخلية، وتعارض الأيديولوجيات، وانعدام الثقة المتبادلة (Tronvoll, 2020)، لم تنجح هذه التحالفات في تطوير آليات مستقرة لاتخاذ القرار، إذ غلبت عليها الحسابات الشخصية والارتباطات الإقليمية، مما جعلها هشّة وغير قادرة على بلورة مشروع وطني جامع.
مقارنة تحليلية:
بالمقارنة مع التجارب في إثيوبيا أو السودان أو كينيا، يتضح أن التحالفات التي طوّرت هياكل اتخاذ قرار واضحة كانت أكثر قدرة على البقاء، حتى مع الخلافات الأيديولوجية، في كينيا مثلًا، أسهمت "هيئة التنسيق المشتركة للتحالف الوطني" في ضمان التمثيل المتوازن داخل التحالف الحاكم (Cheeseman, 2018)، بينما في إريتريا، أدّى غياب مثل هذه الآلية إلى احتكار القرار وإضعاف التفاعل السياسي الداخلي، وعليه، فإن حوكمة التحالفات لا تتعلق فقط بوجود اتفاق سياسي، بل بوجود منظومة إدارية ومؤسسية قادرة على إدارة الخلاف وتنظيم المصالح.
الخاتمة والتوصيات:
ختاما التحالفات السياسية لا يمكن أن تكون فعالة أو مستدامة ما لم تُبنَ على أسس حوكمة مؤسسية واضحة، تضمن التوازن بين الأطراف وتحول دون سيطرة طرف واحد على القرار، في ضوء التجربة الإريترية، يمكن استخلاص ثلاث توصيات مركزية:
1. ضرورة المؤسسية: تأسيس هياكل دائمة لاتخاذ القرار تُلزم جميع الأطراف وتضمن الشفافية والمساءلة.
2. إدارة التنوع: تحويل الاختلاف الأيديولوجي إلى مصدر إثراء لا صراع، من خلال اللجان المشتركة والحوارات، المنتظمة.
3. إشراك الوساطة الإقليمية والمدنية: لتقوية الثقة وتوفير ضمانات تعاقدية لاستمرار التحالفات.
تبيّن المقارنة أن التحالفات التي تنجح في بناء نظام اتخاذ قرار تشاركي ومستقل تكون أكثر قدرة على الصمود أمام الضغوط الداخلية والخارجية، مما يجعلها ركيزة أساسية في مسار التحول الديمقراطي وبناء الدولة.