
23/09/2025
هل الوعي سر العقل أم وهم الكلمات؟
لقد ألف الناس حديثًا طويلاً عن "الوعي"، وظنوا فيه لباب العقل وملاذه الأوحد، فجعلوا منه قُطبًا تدور حوله كل الظواهر النفسية. ولكني أرى أن هذا التصور، وقد يكون من أقدم التصورات في الفكر الإنساني، قد جاء من يزعزعه اليوم، رجلٌ كبرتراند راسل، بعقله المتوقد، ليُعيد النظر فيما ألف الناس وما رسخ في أذهانهم.
ولست أدري أيُسلم القارئ بهذا الرأي أم يُعرض عنه، ولكني أراه رأيًا جديدًا يُعيد النظر فيما ظُن من الحقائق الأبدية. فهل الوعي ذاك الكيان الأوحد الذي لا يُدحض؟ أم هو ظل يتبع ما ألفنا من قول وفعل، نتاج عرضيٌّ لا يُصعد إلى رتبة الجوهر؟
راسل، أيها القارئ، يذهب إلى أن هذا الوعي ليس السمة المركزية للحياة العقلية، ولا هو ذاك المُحدد الذي نُقاس به جوهر البشر. إنه أقرب إلى أن يكون نتاجًا، أو قل عرضًا هامشيًا، للعادات اللغوية التي ألفناها وتطورت فينا عبر الأزمان.
وأنت تعلم أيها القارئ، كيف تتشكل الكلمات في أذهاننا، وكيف تصير هي نفسها قيودًا تظن أنها حقائق لا تمس. لقد ألف الفلاسفة والناس جميعًا أن يضعوا الوعي في صميم كل ما هو عقلي، يرون فيه الفارق بين الجماد والكائن الحي، وبين الفكر واللاشعور. ولكن راسل ينظر إلى الأمر نظرة أخرى، فهو يرى أن هذا الوعي الذي نُجلّه ونضعه في مكان الصدارة، إنما هو نتاج عرضي.
أجل، عرضي وهامشي، كما يصفه هو. إنه لا يمثل جوهر العقل، بل هو كالبخار الذي يتصاعد من قدرٍ يغلي : ليس هو الماء، ولكنه دليل على غليانه، وليس هو العقل، ولكنه أثر من آثار بنائه المعقد.وما هذا البخار، يا صاحبي، إلا صنيعة العادات اللغوية التي تشكلت فينا.
فالكلمات، وما تتبعها من تصورات، هي التي أوجدت هذا المعنى للوعي، لا أن الوعي كان موجودًا ثم أوجد الكلمات. ولقد نشأنا وتطورنا عن الحيوانات، ولست أدري أيُمكننا أن نقطع فجوة لا تُجسر بين إدراكنا وما يشبه الإدراك عندها.
إن الفجوة الحقيقية، كما يُلمح راسل، قد تكون أقل مما نظن، والوعي، بهذا المعنى، ليس إلا ثمرة متأخرة وشبه عرضية لتلك الرحلة الطويلة من التطور. كلامٌ قد يدهش السامع، وقد يجعله يتوقف متسائلاً.
أما أنا فأرى، مع راسل، أن هذا الوعي ليس قُطب الرحى، بل هو حبة في طاحونة أوسع، تُدار بأكثر مما نظن من آليات العقل والمادة. بهذا، يُعرّي راسل "الوعي" من هالته القدسية، ويُعيد موضعه في بناء العقل، بناءً أوسع وأعمق مما ألفنا.
فهل يُدرك الناس أن عقولهم أرحب من مجرد وعيهم؟ أم يظل الوعي أسيرًا لمفاهيم ألفوها، وظلال كلمات نسجوها بأنفسهم؟ ولست أدري إن كان هذا التحرر من سطوة الوعي، سيفتح لنا أبوابًا جديدة لفهم أعمق لماهية العقل، أم سيزيد الأمر تعقيدًا.
_ كتاب "تحليل العقل" لبرتراند راسل