
10/07/2025
هل فكرت يومًا في شيء خالص تمامًا؟ شيء لا يحمل في طياته أي ظل لنقيضه؟
هيجل، ببراعته الفكرية، يأخذك إلى مفهوم "الوجود الخالص". يقول إنه ليس سوى فكرة فارغة، تجريد لا يحمل مضمونًا. الوجود الخالص، في جوهره، يساوي العدم. لماذا؟ لأنه لا يحتمل تناقضًا، لا يشتمل على نقيض. هو شيء لا يمكن أن يوجد، لأن غياب النقيض يجعله مستحيلًا.
تخيّل شيئًا لا يحمل إلا صفة واحدة، بلا أي نسبة من عكسها. هل يمكن أن يكون؟
العلم يبدأ بسؤال : "ما هذا الشيء؟" يحاول أن يحدد الماهية. يقول : هذا ذكر، وذاك أنثى. هذا موجب، وتلك سالبة. يعتمد على منطق صوري، يقوم على مبدأ الهوية. شيء لا يمكن أن يكون نقيضه في الوقت ذاته. لكن، هل يكفي هذا؟
هنا يتوقف العلم إذا ظل أسير هذا المنطق. يحتاج إلى قفزة، إلى منطق جدلي يرى الماهية بشكل مختلف. الماهية ليست ثابتة، بل تحمل تناقضها في داخلها. الذكر ليس ذكرًا خالصًا، والأنثى ليست أنثى خالصة. في كل ذكر نسبة من الأنوثة، وفي كل أنثى نسبة من الذكورة.
انظر إلى فاطمة وعائشة. كلتاهما امرأة، لكن إذا كان هرمون التستوستيرون أعلى في فاطمة، ألا نقول إنها أكثر ذكورة نسبيًا؟ ليس مطلقًا، بل بالمقارنة. الفرق بينهما نسبي، لا يصل إلى الخلوص.
فكر في ذرة. نقول إنها موجبة إذا فقدت إلكترونات أكثر من بروتوناتها. لكن، هل يمكن أن تكون موجبة خالصة؟ مستحيل. إذا أزلت كل إلكتروناتها، لن تبقَ ذرة. ستصبح نواة، شيء آخر. الذرة الموجبة تحمل دائمًا نسبة من السلبية، والعكس صحيح. الموجب الخالص أو السالب الخالص مجرد فكرة، لا وجود لها.
كل شيء في الوجود نسبي. الذكر يحمل أنوثة، والأنثى تحمل ذكورة. الذرة الموجبة تحمل سلبية، والسالبة تحمل إيجابية. لا شيء يتحول إلى نقيضه إلا إذا كان يحمل هذا النقيض في داخله. التحول يفترض وجود النقيض كامنًا.
إذا أردت أن تفهم شيئًا، لا تبحث عن خلوصه. ابحث عن نسبته. كل صفة تحمل نقيضها. الذكورة نسبية، والأنوثة نسبية. الموجب نسبي، والسالب نسبي. حتى في أقصى التطرف، يبقى النقيض موجودًا.
فكر في العدالة. هل رأيت عدالة خالصة؟ ألا تحمل في طياتها ظلمًا خفيًا؟ والظلم، ألا يحمل بذرة عدالة تنتظر أن تنبت؟ الديمقراطية تحمل دكتاتورية كامنة، والدكتاتورية تخفي ديمقراطية ممكنة. الإيمان يحمل كفرًا خفيًا، والكفر يحمل إيمانًا ينتظر لحظته.
كل شيء يحمل نقيضه. هذا هو جوهر المنطق العلمي. بدون النقيض، لا تمييز. لا إدراك. لو كان كل شيء أسود، لما عرفنا الأسود. لو كان كل شيء أبيض، لما عرفنا الأبيض. النقيض هو ما يجعل الوجود ممكنًا.
ابحث دائمًا. في العدالة، ابحث عن الظلم. في الظلم، ابحث عن العدالة. في الحياة، ابحث عن الموت. في الموت، ابحث عن الحياة. في كل شيء، ابحث عن نقيضه. هنا تكمن الحقيقة. هنا يبدأ العلم.
ما الذي يمنعك من رؤية النقيض في كل شيء؟ هل تخاف أن تكتشف تناقضًا في نفسك؟ أم أنك تتشبث بخلوص لا وجود له؟
افتح عينيك. كل شيء يحمل نقيضه. وفي هذا التناقض، تكمن الحياة.
_ من مقال : هل رأيت يوماً ذكراً خالصاً؟ .. ادم عربي .. كاتب وباحث