24/09/2025
خالتي"صفية" جارتنا عيالها مهاجرين أمريكا من سنين، بس آخر سنة بقا حاولوا كتير عشان تروح تعيش معاهم لكنها ماسمعتش كلامهم، أو يمكن ما سمعتهومش أصلًا، بس الأكيد إنها ما كانتش عايزة تسيب بيتها اللي اتجوزت فيه وقضت أجمل أيام حياتها بين جدرانه.
بيتها اللي سمع أول صر*خة من "مصطفى" ابنها الكبير يوم ما اتولد على ايد الداية "هنية"، واللي سمع أول جملة في حكاية حب بتحكيها ليها "سمية" بنتها وهي بتحلفها إنها ما تحكيش لأبوها ولا تجيب له سيرة، وهو برضه البيت اللي اتنطط فوق سريره "مراد" لما ظهرت نتيجة الثانوية العامة وجاب المجموع اللي كان بيحلم بيه.
وهو نفس البيت اللي عاشت فيه مع جوزها الحاج "محسن" خمسين سنة، خمسين سنة وما شافتش منه فيهم غير كل خير رغم خصامهم اللي كان بيبقا من ورا القلب، واللي كانت بتتصنعه "صفية" بس عشان يصالحها "محسن".
أنا فاكرة كويس يوم وفا*ته من سنتين كأنه النهارده، اليوم اللي صحيت فيه على صوت مؤذن الجامع بيقرأ النعي بتاعه وهو بيعيط بصوت مخنو*ق، يومها لقيت نفسي بلبس وبجري عليها زي المجنو*نة، عشان ألاقيها قاعدة جنبه على السرير حاضنة ايده بين كفوفها وهي بتقولي:
- حبيبي سابني وراح يا" فاطمة".
الكلمة اتنفض لها قلبي، وارتعش لها جسمي كله، وجريت عليها حضنتها وأنا بسحب ايده من ايدها بايدي اللي لسه بتترجف وبحطها تحت الغطا من سكات، يومها ما قدرتش أنطق حرف، وكأن لساني اتخلى عن وظيفته.
ويومها برضه حاولت أتصل بولادها كتير لكن للأسف مفيش فيهم حد رد، يمكن فرق التوقيت بينا كان السبب، أو يمكن هما نفسهم ما بيردوش على حد أو حتى بطلوا يهتموا.
المهم رجالة الشارع عندنا كلهم قاموا بواجب جارهم وصاحب عمرهم وأكرموه ودموعهم بتغسل وشهم، أما الستات فكانت قاعدة في العزا جنب الحاجة "صفية" اللي كانت شاردة بخيالها كأنها في عالم تاني بكل جوارحها، عالم بتتغير فيه معالم وشها ما بين ابتسامة، حزن، وتجهم وكأنها بتعيش مواقف حياتها جوه شرودها ده.
عدت أيام العزا التلاتة واللي أنا ماسيبتهاش فيهم لحظة واحدة، لدرجة إني كنت ببات معاها، عشان في يوم ألاقي تليفونها بيرن باسم "مصطفى"، أخدت التليفون وناولته ليها وأنا بقولها:
- ده "مصطفى".
من غير ما تتلفت ناحيته لحظة واحدة داست زرار الباور وقفلت التليفون نهائي ومن سكات، وعدت أيام بتنام فيها الحاجة "صفية" ساعتين تلاتة، والباقي قاعدة على سجادتها تصلي وتقرأ قرآن، والأكل كنت بأكله ليها بالعافية، وفي يوم لقيت تليفوني بيرن برقم دولي، رديت وأنا متأكدة من هوية المتصل، واللي كانت "سمية"، اللي مجرد ما سمعت صوتي لقيتها بتقولي بلهفة:
- ماما فين يا "فاطمة"؟.. برن على رقمها وعلى رقم بابا بقالي شهر محدش بيرد، هما فين؟
ما كانش مني غير إني قولتلها بقسوة مقصودة يمكن أوجعها وبدون لحظة تردد:
- عم "محسن" اتو*فى من شهر، وخالتي "صفية" قافلة تليفونها عشان بتختم القرآن.
مش هنكر لهفتها وانهيارها وقتها، ولا لهفة "مصطفى" و"مراد" اللي أخدوا منها التليفون وهما بيسألوني باستنكار قوي:
- انتي بتقولي إيه؟!.. عم "محسن" مين اللي ما*ت؟!.. وشهر إيه؟!
جاوبتهم بنفس الجمود:
- عم "محسن" أبوكم، وأمكم مش هترد على تليفوناتكم، عايزين تكلموها انزلوا وشوفوها.
وقفلت معاهم السكة وأنا بدعي ربنا يحط في قلبهم الحنان واللهفة عشان ينزلوا يشوفوا أمهم ويقعدوا معاها.
وعدى يوم والتاني، وشهر والتاني لحد ما عدت 8 شهور وفي يوم راجعة من شغلي لقيت عربية واقفة قدام العمارة ونازل منها "مصطفى"، ماعرفتوش بسهولة، ما هي غربة 25 سنة مش قليلة برضه، دي غربة سابت بصمتها على ملامحه اللي اتغيرت تمامًا لما شعره كله راح ، وكأن السنين داسته في طريق عمره.
وقفت لحظات أبصله وأنا مستغربة من نزوله من العربية بايدين فاضية، مفيش معاه شنطة سفر، يعني مش ناوي على قعدة هنا. دخل العمارة وطلع يخبط على شقة خالتي
"صفية"، فقربت منه وأنا بقوله بجدية:
- هفتح لك، خالتي ما بتقومش تفتح لحد.
وفتحت الباب ودخلت عليها أوضتها وأنا بقولها:
- فيه حد عايز يشوفك.
رفعت عينها عن مصحفها وشالت عنها نضارتها وهي بتقولي:
- اهلًا وسهلًا بيه.
بعدت عن باب الأوضة وسمحت له بالمرور وأنا بقوله:
- هسيبكم أنا، التلاجة فيها أكل وعصير، والشاي والسكر والقهوة في الدولاب اليمين من المطبخ اللي فوق.. بعد إذنك.
وسيبتهم ومشيت وأنا بدعي ربنا يخلف ظنوني ويكون جاي ناوي يستقر مع أمه، لكن تفكيري ما طالش كتير، يدوب ساعة واحدة بس ولقيت خالتي" صفية" بترن عليا التليفون عشان أروح لها.
في لحظة كنت قدام بابها اللي في وش بابنا، ولأول مرة من يوم وفا*ة عم "محسن" أخبط وأنتظر حد يفتحلي، عشان ألاقيها بترن عليا وبتقولي:
- افتحي وأدخلي يا "فاطمة" محدش هنا.
دخلت وأنا عينيا بتبص لكل ركن في الأوضة وأنا بقولها باستغراب:
- أومال "مصطفى" فين؟!
بصت على التسريحة جنب سريرها وهي بتقولي:
- ساب لي الفلوس دي ومشي.
برقت بصدمة وأنا بقولها:
- نعم!.. يعني إيه؟!
=يعني أشوف بيهم جليسة تقعد معايا كام شهر على ما يظبطوا حالهم ويشوفوا هيعملوا إيه معايا.
للحظة حسيت بغصة بتلجم حلقي، ودموعي بتتحجر في عيوني وأنا ببصلها بصدمة قوية عشان تكمل كلامها:
- قولته مش عايزة منك حاجة، لكنه سابها، وقالي هيعدي عليا بكره قبل ما يسافر، بيقولي إنه بالعافية جاب أجازة يومين من شغله ومش هينفع يتأخر عليه.
كنت بسمعها بذهول وكأني في دنيا تانية، وقدامي شريط حياتهم اللي شوفته من وهما أطفال، قدامي صورتهم وهما بيجروا عليها يحضنوها، صورتها وهي بتأكلهم بايدها، صورته وهو واقف على باب الشقة زي الغريب، عشان آخد نفس قوي وأنا بقولها:
-وإحنا مش عايزينه يجي تاني، مالوش حد هنا.. إنتي أمنا وإحنا معاكي ومش هنسيبك.
هزت راسها من سكات وكأنها كانت عايزة تسمع مني الكلمتين دول بس، عشان تاخد مصحفها وتفتحه وهي بتقولي:
- هستناكي الصبح يا بنتي.
قربت منها أبوس راسها وأحضنها بقوة وأنا بقولها:
- تليفوني جنبي رني عليا في أي وقت هتلاقي عندك.
وروحت شقتي وأنا قلبي مليان بحزن الدنيا على الست "صفية" اللي ولادها شايفين دورهم في حياتها فلوس وبس وكأنهم مسحوا شريط الذكريات من عقلهم، وكأن قلبهم اتفر*م وإتشال منه كل الحنية.
وعدى كام شهر كمان وابتدت مكالمات "سمية" ليا تزيد، "سمية" اللي طلبت مني أطلع لوالدتها جواز سفر وأبعت لها صورته عشان تخلص لها الاجراءات وتنزل تاخدها.
كنت برفض، وبرفض أوصل الكلام ده للحاجة "صفية" اللي ما بتردش على أرقام ولادها، لكني في يوم قررت أحكيلها من باب العلم بالشيء:
-أنا هقولك بس من باب إنك تعرفي مش أكتر من كده، ولادك عايزيني أعملك جواز سفر عشان ينزلوا وياخدوكي معاهم هناك، "سمية" بقالها كام شهر بتقولي.
بصت للمصحف وهي بتقولي:
- تعرفي يا "فاطمة" إن لسالي خمس أجزاء بس في القرآن وأكون ختمته حفظ وبالتجويد كمان.
حسيت بفرحة قوية في قلبي اللي ابتدى يرفرف بين ضلوعي وأنا بقولها:
- ما شاء الله.. ربنا يتقبل منك يا قلبي يارب.. ويعينك على ختمه ويجعله في ميزان حسناتك.
اتنهدت بقوة وهي بتقولي:
- كنت بدعي ربنا كل ليلة يمد في عمري بس لحد ما أحفظ كتابه، وبعدين ياخد أمانته وأروح لحبيبي اللي وحشني، واللي ريحته في البيت هنا هي اللي بتطمني.. تعرفي.. أوقات كتير بحس بنفسه جنبي، بحس بايده بتطبطب عليا عشان تصحينى لقيام الليل... بشوفه في كل ركن هنا.. وهما عايزيني أسيب كل ده وأسيب دفاه هنا وأروح معاهم أعيش في البرد.
حركت راسي بنفي وأنا بقولها:
- لأ طبعًا، مش مسموح أصلًا تمشي، دا إنتي وصية الغالية وعشرة عمرها، صاحبتها اللي فتحت عينيا لقيتها خالتي بجد، خالتي اللي كنت بجري عليها وأتحامى في حضنها لما كنت أعمل حاجة غلط، خالتي اللي كانت معانا في كل أفراحنا ومن قبلهم أحزاننا، مش هنسى وقفتك معايا أبدًا، ولا جدعنتك معايا لما روحتي لصاحب البيت خليته يجدد عقد الشقة دي عشان أقعد فيها بعد جوازي.. إنتي أمي يا "صفية".
حضنتني بقوة وكان حضنها عالم فيه كل حبايبي اللي فارقوني، عشان تروح عيني في نوم عميق لوقت قد إيه؟.. ماعرفش، لكن كل اللي أعرفه إني صحيت لقيت نفسي جنبها على السرير، وايدها على راسي وهي بتقرأ قرآن.
غمضت عينيا مستمتعة بصوتها العذب في التلاوة، عشان تصدق بعد ربع ساعة وهي بتقولي:
- قومي يلا روحي لجوزك وولادك، أنا كلمتهم وعرفتهم إنك بايتة معايا، بس أهو الفجر على وشك الأذان أهو.
قومت باطمئنان وراحة عجيبة روحت شقتي، وعدت الأيام واتصالات "سمية" وأخواتها بيا قلت كتير، يمكن عشان قولتلهم إن خالتي "صفية" رافضة الفكرة أساسًا، أو يمكن نفسهم كان قصير، المهم إنهم مابقوش يتصلوا.
وزي كل ليلة رجعت شقتي بعد ما عديت عليها ونمت وتليفوني جنبي، عشان فجأة ألاقي اللي واقفة قدامي بتبتسم لي ووشها كله نور وهي بتقولي:
- أنا ختمت القرآن خلاص يا "فاطمة" وخلاص رايحة لحبيبي.. ربنا كان معايا كريم قوي ومد في عمري لما خلصت، وإنتي كمان كنتي بنتي اللي ربنا رزقني برها، هدعيلك ربنا يرزقك بر ولادك وحفظ كتابه.. و ابقي قولي لولادي إني مسماحهم.. قوليلهم إني كنت زعلانة منهم قوي، زعلانة من قسوتهم عليا أنا وأبوهم، بس والله وهو موجود كنا بنصبر بعض، لكن بقا لما سابني كنت محتاجاهم يهونوا عليا فراقه، يقولولي إحنا جنبك ما تزعليش، يقولولي هو في مكان أحسن وكلنا هنروح له، يقولولي مش هنسيبك لتفكيرك لحظة ، قوليهم إني كنت زعلانة من قلبهم الحجر، زعلانة من جحودهم، بس طمنيهم برضه وقوليلهم على قد الزعل ده كله على قد ما سامحتهم وبدعيلهم إن ربنا يجعل ولادهم عليهم أحن منهم علينا.. بلغيهم إني سامحتهم يا "فاطمة".. وأشوف وشك على خير يا بنتي بعد عمر طويل.
شهقت بقوة وأنا بتنفض من السرير كأني بغرق، وشديت اسدالي ألبسه وأنا بجري وبصحي"علي" وبقوله بحسرة:
- خالتي "صفية" ما*تت.
جريت على شقتها اللي فتحت بابها وايدي بترتعش، عشان أدخل أوضتها ألاقيها نايمة بعبايتها البيضا وحجابها الأبيض وحاضنة المصحف على صدرها وابتسامة الرضا بتضوي وشها بالنور.
لحظتها ماكنتش عارفة أحزن على فراقها ليا ولا أفرح لحسن خاتمتها ولقاها بحبيبها بعد سنتين إلا سبع أيام، لكن مالقيتش غير رجليا واخداني ناحيتها أقعد على طرف السرير جنبها وأنا بحضنها ودموعي زي الشلالات نازلة في صمت.
#منقول