23/10/2025
في بلاط قرطبة،
حيث كانت الأحداث تتشابك والمؤامرات تُنسج في الخفاء، كانت الجواري، أو «أمهات الأولاد»، يلعبن أدوارًا لا تُنسى في تاريخ الأندلس. هؤلاء النساء، اللواتي أنجبن للأمراء، كنّ يمتلكن نفوذًا سياسيًا هائلاً، يتجاوز أحيانًا حدود الحريم إلى قلب السلطة. بين جدران القصر، كانت تُحاك الدسائس، وتُرسم خطط المؤامرات، وكثيرًا ما كانت النساء، سواء بطريق مباشر أو غير مباشر، يشعلن شرارة الأحداث أو يُشرفن على تنفيذها.ومن بين هؤلاء الجواري، برز اسم طروب، الجارية الإسبانية القادمة من أراضٍ تقع الآن في جنوب فرنسا. كانت طروب واحدة من أجمل نساء الأمير عبد الرحمن الأوسط (792-852)، وأكثرهن سلطانًا على قلبه. لكن جمالها ونفوذها لم يمنعاها من أن تكون الأقل وفاءً له. كانت طروب تطمح لأن ترى ابنها عبد الله على عرش الأندلس، رغم أنه لم يكن الأكبر بين أبناء الأمير. ولهذا، لم تدخر جهدًا في جمع الأموال واستمالة الناس، من عامة وخاصة، لدعم طموحها.في المقابل، كان محمد، الابن الأكبر لعبد الرحمن، هو المرشح الشرعي لولاية العهد. لم تُذكر المصادر اسم أمه، لكن يُرجح أنها توفيت بعد ولادته، تاركة تربيته لجارية أخرى تُدعى الشفاء، وهي امرأة جميلة، تقية، وحكيمة، تولت رعايته وإرضاعه. هذا الوضع أثار غيرة طروب، التي رأت في محمد عقبة أمام طموحها لابنها.لم تكتفِ طروب بالمنافسة العلنية، بل أقدمت على خطوة خطيرة. تحالفت مع نصر الخصي، حاجب القصر وأحد أصحاب النفوذ الكبير، لتدبير مؤامرة تهدف إلى التخلص من الأمير عبد الرحمن وابنه محمد بدس السم لهما. وفي تلك الأثناء، وصل إلى قرطبة طبيب عراقي يُعرف بـالحراني، نسبة إلى مدينة حران. استغل نصر نفوذه وطلب من الحراني إعداد سم زعاف، مُغريًا إياه بألف دينار. لم يستطع الطبيب الرفض خوفًا من بطش نصر، لكنه، في خطوة ذكية، أبلغ جارية تُدعى فجر بخطة المؤامرة. نقلت فجر الخبر إلى الأمير عبد الرحمن، الذي أخذ حذره.وفي لحظة حاسمة، قدّم نصر الشراب المسموم للأمير، لكن عبد الرحمن، الذي كان على دراية بالمؤامرة، أمر نصر بشربه. حاول الخصي التملص، مدّعيًا أن نفسه تعاف الشراب، لكن الأمير زجره بشدة وأصر. اضطر نصر لشرب السم، ثم هرع إلى منزله مستغيثًا بالحراني لإنقاذه. نصحه الطبيب بتناول لبن الماعز كترياق، لكن الموت كان أسرع، ففارق نصر الحياة في شتاء عام 850، قبل أن يصل اللبن.بعد أقل من عامين، وفي عام 852، توفي الأمير عبد الرحمن فجأة عن عمر ستين عامًا. لم تُثبت المصادر تورط طروب في وفاته، لكن الشكوك حامت حولها، خاصة أنها لم تتوقف عن السعي لتتويج ابنها عبد الله. ورغم ذلك، فشلت محاولاتها، إذ تولى محمد الإمارة بعد أبيه. مع تولي محمد الحكم، خفت نجم طروب، وضعف نفوذها، خاصة مع تقدمها في السن وموت الأمير عبد الرحمن، الذي كان مصدر قوتها. لم تُحاول بعدها المزيد من الدسائس، واختفى اسمها من سجلات الأندلس، تاركة وراءها قصة مليئة بالطموح والمكر.المصدر: هذه الأحداث نقلها المؤرخ الأندلسي ابن القوطية في كتابه تاريخ افتتاح الأندلس، وهو من أوائل من دوّن هذه الرواية التاريخية.
#الصين #ترامب #امريكا #تاريخ #مصر #شخصيات #العرب