
23/03/2025
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ ﴾
عندما يريد الله أن يحيي قلبك، ينزل عليك روح من أمره فتجد نفسك منجذبًا نحو النور، صاعدًا إلى مشهد الحق، حيث لا خيار لك ولا إرادة، بل هي مشيئته وحدها التي تسوقك لتشهد ما لم تشهده من قبل. وكأنك تعيش حالة من الإسراء الروحي، وتُرفع عنك حجب الإدراك العادي، فيبصرك وترى ما كان مستترًا، وتدرك حقائق لم تكن تعلمها.
لحظات فارقة في الحياة، تزلزل الكيان وتغير الوعي إلى الأبد، ولا تترك خيارًا للعودة كما كان. إنها اللحظات التي يرتقي فيها الوعي، ويشهد ما لم يكن يدركه من قبل. ليست تجربة عابرة، بل ولادة جديدة، يخرج الإنسان منها مختلفًا تمامًا عن سابق عهده، كأنما رأى النور بعد طول مكث في الظلام.
﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى: 52]
وفي تلك اللحظة، يغيب الإنسان عن إدراكه الزماني والمكاني، يعيش بين الناس بجسده، لكن وعيه محلّق في عوالم أخرى. كأن قلبه أصبح على "الصراط"، حاضرًا في الحقيقة المطلقة، مستغرقًا في شهود النور، بينما يظنه من حوله أنه موجود، غير مدركين لما يجري في داخله.
وكما نزلت الروح، تعرج لحكمة لا تعلمها، وتتركك في الدنيا بعد أن رأيت ما رأيت. هنا تبدأ المحنة الحقيقية، حيث تجد أن العالم صار مظلمًا، والناس كأنهم سكارى لا يدركون. لا أنس، لا ونيس، لا شهوة، فقط شعور بالغربة في أرض لم تعد تنتمي إليها.
هذا هو الامتحان الأعظم، أن تعود للعيش بين من لم يروا، بين من يفرحون ويحزنون لأمور تبدو لك صغيرة بعد أن ذقت المعنى الحقيقي. فتشعر أن قلبك يعتصر ألمًا، وتسأل: لماذا عدت؟ لماذا لم تبقَ هناك؟
لكن يأتيك الجواب من الحق: لم تُترك هنا عبثًا، بل لتتأدب، لتتعلم، ولتفهم أن الروح لم تهجرك بل أتمّت دوره كاملة فيك. فالذي خلق الموت والحياة واحد، والذي جعل الظلمات والنور واحد، وكل شيء بميزان دقيق. فلا فرق بين الشدة والرخاء، الفقر والثراء، القوة والضعف، لأنك حين تكون مع الله، يصبح كل شيء سواء، والمطلوب منك أن تكون كما يريدك، لا كما تريد أنت.
هنا تدرك أن الغاية ليست النشوة، بل الحكمة، أن تعيش التجربة لتتعلم منها، أن تشهد النور ثم تعود إلى الأرض لا لكي تحزن، بل لتؤدي دورك، لأن رسالتك لم تنتهِ بعد.
عندما تصل إلى هذه المرحلة، يتحول الاضطراب إلى سكينة، والحزن إلى يقين، فلا تأسى على ما فات، ولا تفرح بما هو آت، لأنك تعلم أن كل شيء في هذا الوجود يجري وفق حكمة.
حينها، يتساوى لديك الظلام والنور، الفقد والوجود، لأنك تدرك أنك لم تكن يومًا وحدك، وأنه كان معك في كل لحظة: "وما كنا عن الخلق غائبين".
هذه التجربة ليست نهاية الطريق، بل بدايته الحقيقية. فمن ذاق هذا النور، لا يعود كما كان، بل يصبح شاهدًا، نورًا لمن حوله، حتى لو لم يدركوا ذلك.
والامتحان هو: هل ستظل على العهد حتى في غياب النشوة؟ هل ستظل مؤمنًا بما رأيت، حتى حين تعود لتعيش بين من لم يروا بعد؟
هنا المعنى الحقيقي ل أن تكون مع الله في كل الأحوال.