
20/08/2025
شيخ العميا.ن
في قلب القاهرة القديمة، تحت وطأة الاحتلال الفرنسي الذي اجتاح مصر كعاصفة في عام 1798، كان هناك رجل يُدعى سليمان الجوسقي، كفيف البصر لكنه يرى بعين الروح أبعد مما يرى الأصحاء. الشعب يلقبه بـ"سلطان العميا.ن"، فهو لم يكن مجرد شيخ في زاوية الشنواني، بل كان زعيماً يقود طائفة العميا.ن كما يقود ملك إمبراطوريته. تولى مشيخة الطائفة بعد الشيخ الشبراوي، وحولها إلى قلعة من القوة والثراء، يجمع الأموال والعقارات بذكاء تاجر ماكر، ويرسل أعوانه إلى قرى الصعيد ليعودوا بسفن محملة بالغلال والسمن والعسل والسكر والزيت. في أيام الغلاء، يبيعها بأسعار عالية في أسواق السواحل، ويحول الحبوب إلى دقيق يتاجر به في حارات القاهرة مثل حارة اليهو.د، بينما يصنع من النخالة خبزاً يطعم به فقراء طائفته. كان جيشه من العميا.ن يتحرك كظلال في الشوارع، يخشاهم الجميع، ويحسدهم على تنظيمهم العجيب.
لكن في عيون المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي، الذي سطر قصته في "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، كان الجوسقي رجلاً معقداً، مستبداً يجمع الثروة بيد من حديد، ويسيطر على أتباعه كقا.ئد جيش لا يرحم. أما في كتاب "المقا.ومة الحضارية" لهاني محمود، فهو بطل إصلاحي، شيخ استثنائي حوّل المهمشين إلى قوة مهابة، يرعاهم ويؤمن لهم الموارد، ويفتح خزائنه لإقراض التجار والأعيان، ليصبح لاعباً سياسياً واقتصادياً يُحسب له ألف حساب.
ثم جاءت اللحظة التي غيرت كل شيء: ثو.رة القاهرة، إما في 1798 أو 1800، حيث اندلعت النير.ان في الشوارع ضد الغزاة الفرنسيين. كان الجوسقي، العالم الأزهري الكفيف، في طليعة المقا.ومة. قاد رجاله العميا.ن في حشد الجماهير، ينظمون الكما.ئن والمظاهرات ككتيبة شعبية لا تُقهر. أدرك نابليون بونابرت، القائد الفرنسي الذي يُلقب بـ"الإمبراطور الصغير"، خطورة هذا الرجل، فأمر بالقبض عليه ليطفئ شرارة الثورة.
في غرفة مظلمة داخل القلعة، واجه الاثنان بعضهما. نابليون، ببدلته العسكرية اللامعة، حاول استمالة الشيخ بعروض مغرية: ثروة هائلة، منصب رفيع، وسلطة لا حدود لها. "سأجعلك سلطاناً على مصر تحت رايتي!" قال نابليون بصوته الجهوري. ابتسم الجوسقي ابتسامة ساخرة، قلبه يغلي كالبركان. تظاهر بالقبول، مد يده اليمنى للمصافحة، لكن يده اليسرى انطلقت كالبرق، صفعة مدوية على وجه القائد الفرنسي، تردد صداها في جدران التاريخ. كانت تلك الصفعة ليست إهانة شخصية فحسب، بل صرخة شعب يرفض الذل والخضوع.
غضب نابليون حتى احمر وجهه، وأمر بقتل الجوسقي فوراً. لكن القدر تدخل، فبدلاً من الإعدام، اقتيد الشيخ إلى سجن قلعة صلاح الدين. هناك، استجوبوه وحاكموه، ورغم إدانته، لم ينفذوا الحكم كما فعلوا مع غيره من قادة الثورة – ربما رحمة بعماه، أو خوفاً من غضب الشعب. قضى أشهراً في الزنزانة الحجرية الباردة، يتحدى الصمت بصمته، حتى فارق الحياة، تاركاً إرثاً يمزج الفخر بالألم.
كان سليمان الجوسقي تناقضاً حياً: كفيف يرى الحقيقة، عالم أزهري صار ثائراً، تاجر ذكي بنى إمبراطورية من لا شيء. بين نقد الجبرتي الذي رآه طامعاً، وإشادة هاني محمود الذي جعله رمزاً للإصلاح، يبقى دوره في المقاومة خالداً. حوّل إعاقته إلى سلاح، وطائفته إلى جيش ثوري، وقال "لا" للمحتل بصفعة ترددت أصداؤها عبر العصور. هكذا، يظل "سلطان العميان" حياً في ذاكرة مصر، قصة من قصص البطولة التي لا تنتهي.