30/09/2024
"مهــــــــم للغايـــــــــــة".
فاظفر بذات الدين...
إن الفهم المغلوط للدين؛ خطر على الدين نفسه، وأحياناً يتناقل الناس فهماً معيناً ويروّجونه فيما بينهم، ويصبح هو الصورة التفسيرية المتبادرة إلى الذهن، عند تداول هذا الأمر، ثم يزداد الأمر خطورة عندما يبني الناس تصرفاتهم وقراراتهم بناء على هذا الفهم القاصر.
أقدم بهذا الكلام؛ لهذا الجزء من الحديث النبوي الشريف فيما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ)).
وأتوقف مع الفهْم الرائج "لذات الدين": أنها المرأة المصلية، الصائمة، العفيفة، المحافظة على لباسها وسترها، الذاكرة لله تعالى إلى آخر هذه المعاني المتداولة، وهذه صفات إيمانية مطلوبة شرعاً، ومحمودة طبعاً؛ لكن هل يقف معنى ذات الدين عند معاني التدين الذاتي الذي يقف أثره عند صاحبه، أم أن ذات الدين تفيض منها معاني التدين لتشمل جوانب كثيرة في حياتها ومعاملاتها وتصرفاتها.
فذات الدين: تقوم بما سبق لأن هذا مقتضى الإيمان بالله، والتسليم لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ وتشترك فيه مع غيرها من الفتيات المسلمات لا فضيلة لها ولا سبق، ولا تمايز؛ ولذا فثمة امتداد آخر لمعنى ذات الدين من النساء ينبغي أن نفطن إليه، وألا نجعل نظرنا وتقييمنا يقتصر على المعنى الضيق السابق:
فذات الدين: تؤمن برسالتها التربوية لأولادها، وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة والمثل والقيم والمبادئ، وتغرس فيهم الوقوف عند حدود الله، ومعالم الحلال والحرام.
وذات الدين: تدرك وظيفتها تجاه زوجها وتعرف حقوقه جيداً، وأن هذه الحقوق من الدين، وعبادة تؤجر عليها من الله سبحانه، وليست تفضلاً، أو مقايضة بين طرفين.
وذات الدين: لا تقع في الغيبة والنميمة، والحسد والحقد والكراهية تجاه أقارب زوجها أو المجتمع الذي تعيش فيه، وتعايره أهلي وأهلك، وأقاربي وأقاربك، وعائلتي وعائلتك.
وذات الدين: تعين زوجها على بر والديه وصلتهما، ووصل رحمه التي أمره الله.
وذات الدين: لا ترهق زوجها من أمره عسراً في النفقة والمعيشة والسكنى؛ فلا تتعدى إلى السرف والترف، بل تعينه على تحري الحلال في أمره كله .
وذات الدين: باسمة الوجه، طليقة المحيا، عفيفة اللسان، لا تلوث لسانها بالتطاول على زوجها أو النيل منه، أو التقليل من شأنه وقدره، أو التسلط عليه.
وذات الدين: تعتني بجمالها ورقتها وأنوثتها، لإشباع عاطفة زوجها، فلا تهمل زينتها، ولا تطفئ بريق جمالها، بل تعفه عن النظر إلى غيرها، فهي لباسه ودثاره.
وذات الدين: ملجأ زوجها عند الشدائد، ومستقر قلبه عند النوازل، ومهوى فؤاده عند المخاطر، كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها لنبينا صلى الله عليه وسلم: "كلا: والله لا يخزيك الله أبداً: إنك لتحمل الكلّ، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الدهر"
إذا كانت المعاني السابقة من المسلمات والبدهيات؛ فإن تجاهل هذا المعنى الواسع لذات الدين – في التطبيق والممارسة- سبب في بعض الخلافات الزوجية، وزيادة نسب الطلاق، وإن التوجيه النبوي الكريم: "فاظفر بذات الدين ...." لا أتصور أن يكون مراده المعنى الضيق الرائج عن ذات الدين، بل المعنى الشامل الكلي: تلك التي يحكم الدين سلوكها، ويضبط ممارساتها، ويحدد علاقاتها بزوجها وبالآخرين من حولها.
ولا تظن بي أيها القارئ الكريم ظن السوء بأنني أقلل من شأن المرأة الملتزمة، أو أقلل من قيمة فرائض الدين التي يجب الالتزام بها؛ فما لهذا قصدت، ولا هذا المعنى أردت، إن غيرتي على صورة المرأة المسلمة، والتشويش على سلوكها، وصولاً إلى لمز الملتزمات وتجريحهن، هي دافعي للكتابة والبيان، وممارسة النقد الداخلي بمعروف وإحسان. وإنني ألوم نفسي على تقصيرها في جنب الله وأسأله السلامة والثبات على طاعته.
إن واجبي ومنطلقي هو تصحيح المفاهيم، والخروج بالعقل المسلم من ضيق الفهم إلى سعة الوعي، ومن قيود اللفظ الرائج إلى بحبوحة العمل الجاد. إن واجبي يحتم علي أن أبصّر الطريق للمرأة المسلمة أن تكون منارة وقدوة، وأن تفهم دينها فهماً صحيحاً لا اعوجاج فيه، وأن تطبقه تطبيقا سليما لا غلو معه.
إن معاني الدين الحق عندما تكون مسرحاً للشكليات والمظاهر، فقطعاً سيكون هذا على حساب المعاني والجواهر، وسيكون أرضاً خصبة للإساءة إلى الدين، وإلى صورة المرأة المسلمة ذات الدين.
وإن صدمة الشباب بعد الزواج من ذوات الدين بالمعنى السائر الرائج جعلهم يتهمون الدين، والفارق واضح بين الدين والتدين، وبين ذات الدين بالمعنى السطحي الشكلي، وذات الدين بالمعنى الشرعي المطلوب، التي تجعل من تعاليم الدين صورة حية في تصرفاتها وأفعالها، ومن توجيهه لباساً يغطي حياتها، ومن أوامره ونواهيه سياجاً لحركاتها وسكناتها.
ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماماً
أ.د. إبراهيم طلبة.
أستاذ الثقافة والفكر الإسلامي.