25/09/2025
نتذكر نحن المعنيين بتاريخ مصر الثقافى أن المنفلوطى الكاتب الموهوب كانت تترجم له الروايات الفرنسية ثم يقوم هو بصياغتها فى لغة عاطفية آسرة تصبح مؤثرة فى وجدانهم، ومازلت أتذكر كتبه العبرات والنظرات وروايات ماجدولين وفى ظلال الزيزفون وغيرها من روائع المنفلوطى المترجمة عن الفرنسية التى كان لا يجيدها، نتذكر ذلك جميعًا, وكيف أن المنفلوطى مات فى يوم محاولة اغتيال سعد باشا زغلول فطغت محاولة الاغتيال بأخبارها المثيرة حول زعيمٍ شد الانتباه وتعلقت به الجماهير على رحيل المنفلوطى، الذى مات فى نفس اليوم فلم يشعر الكثيرون برحيله حيث كان معظمهم مشدودين لمحاولة الاغتيال الآثمة لزعيم الأمة سعد زغلول.
ولاشك فى أن ما جرى للسودان عند بداية الحرب الأهلية وانقسام الجيش على نفسه حيث كان الجميع مشغولين بما يجرى بين أوكرانيا وروسيا، فضلاً عن الخلفية الاستفزازية التى كانت لدى الكثيرين حول النفوذ المتزايد لمجموعات الدعم السريع، ثم جاءت مأساة غزة لتحجب نسبيًا ما يجرى فى السودان، ولأنى أعرف ذلك البلد جيدًا ودرست قضاياه عبر تاريخه الحديث وما مر به من نوبات صعود وهبوط بين الديمقراطية الشعبية فى جانب، والحكم الفردى المتسلط فى جانب آخر، فإننى أرى أن مصر دائمًا هى الغائب الحاضر على مسرح الأحداث بين شطرى وادى النيل وتعاقب الحكام والحكومات على العاصمة السودانية منذ الاستقلال فى أول يناير 1956 حيث مضت مواكب الحكم وتغيرت الأطراف كلها وحاول الجميع الاتجاه نحو منطق جديد يدعو إلى التعامل بالتراث المشترك بين الدولتين وتنحية أسباب الخلاف جانبًا على اعتبار أن ما يجمع الدولتين التوأم أكبر بكثير مما يفرق بينهما، فالطبيعة والنهر والجوار والزرع والحصاد كلها طقوسٌ مشتركة عرفها المصريون والسودانيون على حد سواء، فبدأ الطرفان يتطلعان إلى نوع من التكامل بلغ ذروته فى ظل حكم الرئيس نميرى أقرب الحكام السودانيين إلى قلب مصر وأكثرهم إدراكًا لطبيعة العلاقة بين القطرين الشقيقين، حتى إنه عندما جرت القطيعة بين مصر ومعظم الدول العربية بسبب سياسات كامب ديفيد رفض سودان النميرى أن يمضى مع التيار الدبلوماسى العربى العنيف، ورأى أن العلاقات بين مصر والسودان أزلية بطبيعتها، قوية بفطرتها لا تخضع للأهواء السياسية ولا الانقلابات الوقتية.
وبالفعل بقى النميرى قريبًا من مصر حتى اتخذها فى النهاية منفى اختياريًا له بعد الثورة عليه، وقد جمعتنى به شهور من القرب الشديد والتواصل الدائم حين كنت مسئول الاتصال بين الرئيس الراحل حسنى مبارك والرئيس السودانى النميرى الذى كان يقيم فى قصر رئاسى صغير بشارع العروبة بمصر الجديدة، فكنت أزوره أسبوعيًا حاملاً رسائل شفهية من الرئيس مبارك حفاظًا على ودٍ قديم واعترافًا بعلاقات وثيقة، وقد يتحمل المصريون والسودانيون أيضًا خلافاتٍ عابرة بين البلدين مستمدة من عقد قديمة لا ذنب لأى منهما فيها، فالوزر يقع على الاحتلال البريطانى وسياساته القائمة على نظرية (فرق تسد) وما أكثر المرات التى تداعى فيها السودان للوقوف إلى جانب مصر ومواقف أخرى شعر فيها المصريون بأهمية الأخوة المشتركة بين الدولتين اللتين كانتا تحت مظلة عرش واحد ولو لفترات محدودة بسبب التدخلات الأجنبية والضغوط الخارجية.
ويشعر المصريون حاليًا بغصة شديدة لما آل إليه وضع السودان الشقيق، فالحرب الأهلية تدور على أرضه مدعومة من أطراف خارجية والشعب السودانى يدفع الفاتورة فى النهاية.
ولقد مر السودان بمراحل صعبة قبل انفصال جنوبه وبعدها، ومازلت أتذكر ذلك اللقاء الذى جرى ذات مساء فى أديس أبابا بين الرئيس الراحل مبارك وزعيم الجنوب السودانى وقتها جون جارنج، حيث قال الأخير صراحة إنه ضد تقسيم السودان بل يتطلع إلى دولة سيادية ينعم فيها الجميع بحقوق متساوية، بل زاد على ذلك قائلا إنه ليس ضد التعريب فى مدارس الجنوب السودانى إذا كان ذلك يخدم آمال ذلك الشعب العريق، وهنا تكمن المفارقة عندما نقارن بين ذلك وبين ما جرى بعده من محاولات لتقطيع أوصال قطر إفريقى عربى من أكبرها مساحة وأكثرها سكانًا، والذى يحفل بالمعادن النادرة، وفى مقدمتها الذهب الذى سطت عليه غربان المنطقة بعد ذلك، فالشعب السودانى يدرك جيدًا أن محاولات تفتيت أطرافه وتقطيع أوصاله هى نظرية قديمة يجرى إحياؤها لتحقيق أهداف معروفة تتربص بالسودان منذ زمن بعيد، ومصر تدرك الخطر الحقيقى لما يصيب السودان من محن، وتعرف جيدًا أن كل محاولات ضرب العلاقات الأزلية بين السودان ومصر هى محاولاتٌ لم تتوقف أبدًا وستبوء بالفشل دائمًا، ولذا فإن وعى الشعبين المصرى والسودانى يجب أن يطفو فوق كل الاعتبارات لتأكيد ذلك التضامن المشترك والأخوة الحقيقية بين الشعبين الشقيقين، ولقد اندمج اللاجئون السودانيون فى الأعوام الأخيرة وسط أشقائهم فى المجتمع المصرى دون تفرقة أو تمييز، لأن ما جمعه الله لا يفرقه بشر،
#