02/11/2025
رزق الأم ورزق المولود
في أطراف مدينة صغيرة تتنفس الهدوء، وتغفو تحت ظلّ النخيل، عاش رجل بسيط يُدعى مصعب بن يونس، رجل لم يعرف الكِبر طريقاً إلى قلبه، وكان رزقه من عرق جبينه، يعمل خادماً في قصر تاجرٍ كبير يُعرف بالحاج ناصر، رجل ثريّ يملك من الأموال ما يكفي لإقامة سوق بأكمله.
كان مصعب يستيقظ مع أول ضوءٍ للفجر، يُصلّي، ثم يُقبّل رأس أمّه العجوز فاطمة قبل أن يغادر، ويقول لها في كل صباح بصوتٍ مفعم بالودّ:
ـ ادعي لي يا أمّاه أن يبارك الله في يومي.
فتردّ عليه وهي ترفع يديها إلى السماء:
ـ اللهم ارزقه من حيث لا يحتسب، واجعل في رزقه بركة، واغنه بفضلك عن خلقك.
كان مصعب يعيش في بيتٍ صغير على أطراف المدينة، سقفه من خشب وسعفه من النخل، لا يملك من الدنيا سوى قلبٍ راضٍ وزوجةٍ صالحة تُدعى هند، وطفلين جميلين، هما سالم وسُرى.
لم يكن يشتكي يوماً من حاله، بل كان يرى في كل لقمة يأكلها نعمةً تستحق الشكر.
وفي يومٍ من الأيام، تغيّب مصعب عن عمله، ولم يرسل إلى الحاج ناصر بخبر.
جلس التاجر في مجلسه الواسع وقال متجهّماً:
ـ ما بال هذا الرجل يغيب دون إذن؟ لقد كنت أظنه من المخلصين.
ثم فكّر لحظة وقال في نفسه:
ـ ربما طمع في زيادة الأجر، أو يرى أن عمله لا يُقدّر حقّ قدره. حسنٌ، سأزيده ديناراً لعلّها تكون سبباً في مواظبته على العمل.
وفي اليوم التالي، حضر مصعب إلى القصر متعب الملامح، لكن وجهه يفيض بسكينة غريبة.
قال له الحاج ناصر وهو يناوله الأجر:
ـ هذا راتبك يا مصعب، وقد زدتُك ديناراً جزاء إخلاصك في العمل.
ابتسم مصعب وقال بهدوء:
ـ جزاك الله خيراً يا سيدي.
لم يسأل عن سبب الزيادة، ولم يُبدِ دهشة ولا فرحاً ظاهراً، بل قبّل يده شاكراً وانصرف إلى عمله كعادته.
ومرّت الأيام، ثم تغيّب مصعب مرةً أخرى دون إذن أو عذر.
غضب الحاج ناصر وقال لنفسه:
ـ يبدو أنّ الزيادة جعلته يتهاون! سأخصم منه الدينار الذي زدته، فليتعلم الانضباط.
وفي المساء، عاد مصعب إلى العمل متعباً، وعيناه تفيضان بالحزن.
ناولَه الحاج ناصر أجره ناقصاً الدينار، وقال بلهجة صارمة:
ـ هذا جزاء الغياب يا مصعب.
انحنى مصعب احتراماً وقال:
ـ كما ترى يا سيدي، جزاك الله خيراً.
ثم انصرف دون أن يُجادل أو يُعلّق بكلمة واحدة.
استغرب الحاج ناصر من تصرفه، إذ لم يُبدِ الرجل أي امتعاض، لا في الزيادة ولا في النقصان، فدعاه بعد انتهاء يومه وقال له:
ـ يا مصعب، أريد أن أسألك سؤالاً يلحّ في نفسي، حين زدتك لم تتكلم، وحين أنقصتك لم تتكلم أيضاً، ألا يهمك المال؟ ألا تشعر بالفرق؟
ابتسم مصعب ابتسامةً هادئة، وقال بصوتٍ يملؤه الإيمان:
ـ يا سيدي، حين غبت المرة الأولى، رزقني الله مولوداً جديداً، ولما أعطيتني الزيادة قلت في نفسي هذا رزق المولود قد جاء معه.
سكت لحظة ثم تابع بصوتٍ متهدّج:
ـ وحين غبت المرة الثانية، كانت أمي في مرضها الأخير، ثم توفاها الله، فلما أنقصت الدينار، قلت هذا رزقها قد ذهب بذهابها.
ظلّ الحاج ناصر صامتاً، وقد غلبته الدموع، وأحسّ في تلك اللحظة أنه أمام رجل لم يعرف الدنيا كما يعرفها الناس، بل عرفها كما يريد الله أن تُعرف: دارُ زوالٍ، وميدانُ اختبارٍ، وسوقٌ لا يربح فيه إلا من رضي بما قسم الله له.
قال الحاج بصوتٍ خافت:
ـ رحم الله أمك، وبارك لك في ولدك، والله لقد علّمتني ما لم تعلّمني الكتب.
ابتسم مصعب وقال وهو ينظر إلى السماء:
ـ الرزق يا سيدي لا يأتي من يدك ولا يُنقص بذهابها، إنما هو من عند الله، إن شاء وسّع وإن شاء قبض، ونحن عباده بين شكرٍ وصبر.
ومنذ ذلك اليوم تغيّر الحاج ناصر، صار أكثر تواضعاً وأشدّ رحمة بعمّاله، وكان إذا سُئل عن سبب تغيّره يقول:
ـ علّمني خادمي درساً في الرزق والإيمان، لم أتعلمه في كل حياتي.
أما مصعب، فاستمرّ في عمله كما كان، راضياً مطمئناً، يعيش بقلبٍ مملوءٍ باليقين، ولسانٍ لا يفتر عن الذكر، وبيتٍ تسكنه البركة.
وكان كل من يراه يقول:
ـ ذاك رجلٌ لا يملك من الدنيا شيئاً، لكنه يملك أغناها: الرضا.
---
أيها القارئ الكريم،
إن الرزق لا يُقاس بكثرة المال، ولا تُعرف بركته بعدده، بل بمعناه في قلبك.
فكم من غنيٍّ لا يهنأ بما يملك، وكم من فقيرٍ يرى في كسرة الخبز جنةً لا تنتهي.
ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس، وكن كما كان مصعب، ترى في كل زيادة فضلاً من الله، وفي كل نقصٍ حكمةً منه، وتقول في كل حال: الحمد لله على كل حال....