09/11/2025
العمارةرقم 23: صدى الصمت
في أحد شوارع الزرقاء القديمة، حيث تتشابك الأزقة وتتلاصق المباني كأنها تتبادل الأسرار، تقف "العمارة رقم 23". مبنى حجري قديم من ثلاثة طوابق، يعود بناؤه إلى أواخر السبعينيات. واجهته متآكلة، ونوافذه تبدو كعيون فارغة تراقب المارة بصمت ثقيل. لسنوات، كانت العمارة شبه مهجورة، لا يسكنها سوى عائلة "أبو أحمد" في الطابق الأرضي، وشقة الجدة "أم صالح" في الطابق الثاني التي كانت تزورها على فترات متباعدة.بدأت القصة الحقيقية عندما قرر "سالم"، حفيد الجدة أم صالح، العودة من غربته لقضاء إجازة في الأردن. كان شاباً في أواخر العشرينيات، لا يؤمن بالخرافات ويعتبر قصص الجن مجرد حكايات لتسلية الأطفال. أصر على المبيت في شقة جدته الفارغة، رغم محاولات والديه ثنيه عن ذلك بعبارات غامضة مثل "البيت قديم... وغير مريح في الليل".وصل سالم إلى العمارة عند الغروب. استقبله صمت موحش لم يقطعه سوى صوت الريح وهي تداعب النوافذ المخلعة في الطابق الثالث المهجور تماماً. فتح باب شقة جدته بصعوبة، فاستقبلته رائحة الغبار وركود الهواء. كل شيء كان مغطى بملاءات بيضاء، كأن المكان جثة تنتظر من يرفع عنها الكفن.في الليلة الأولى، بدأت الأصوات.لم تكن أصواتاً عالية، بل همسات خافتة تأتي من الجدران، كأن شخصاً يتحدث في الغرفة المجاورة. تجاهلها سالم في البداية، معتبراً أنها من خياله أو من شقة الجيران في الطابق السفلي. لكن الأصوات تحولت إلى خربشات واضحة على الحائط المجاور لغرفة نومه، صوت أظافر تجر نفسها ببطء على الحجر. نهض مفزوعاً، أضاء المصباح، فتوقف الصوت فجأة.في اليوم التالي، التقى بجاره "أبو أحمد" عند مدخل العمارة. كان رجلاً في الخمسينيات من عمره، بدت على وجهه علامات التعب والقلق الدائم. عندما علم أن سالم سيمكث في شقة جدته، نظر إليه نظرة غريبة وقال بنبرة خافتة: "لا تتأخر خارجاً في الليل... وأغلق بابك جيداً".لم يفهم سالم قصده حتى حلّت الليلة الثانية.كان يجلس في غرفة المعيشة يقلب في هاتفه، عندما سمع صوت خطوات واضحة في الطابق العلوي. خطوات ثقيلة وبطيئة، تتجول في الشقة المهجورة منذ سنوات. تجمد الدم في عروقه. من يمكن أن يكون هناك؟ تذكر أن الطابق الثالث مغلق ومفتاحه مع جده فقط. استمرت الخطوات لدقائق ثم توقفت فجأة فوق رأسه تماماً.لكن الرعب الحقيقي لم يبدأ بعد.في منتصف تلك الليلة، استيقظ على صوت بكاء طفل مكتوم. جاء الصوت من المطبخ. أمسك بهاتفه واستخدم ضوءه ككشاف، وتحرك ببطء نحو مصدر الصوت. كلما اقترب، زاد شعوره بالبرد، برودة غير طبيعية تتسلل إلى عظامه. وصل إلى باب المطبخ، دفع الباب ببطء... فتوقف البكاء. لم يكن هناك أي شيء، سوى ظل طويل أسود يقف في زاوية المطبخ، ظل لا يخص أي شيء في الغرفة. حدق سالم في الظل للحظة، ثم طرف بعينيه... فاختفى.عاد إلى سريره مرعوباً، ولم ينم حتى أشرقت الشمس.في اليوم الثالث، قرر سالم أن يواجه جاره "أبو أحمد" بالحقيقة. طرق بابه، ففتحت له زوجته "أم أحمد" التي بدا على وجهها شحوب واضح. عندما سألها عن الأصوات، ارتبكت وقالت بصوت مرتعش: "إنه القرين...".دعته للدخول، وهناك، روى له أبو أحمد القصة الكاملة. قبل سنوات، كانت العمارة تعج بالحياة، لكن الأحداث الغريبة بدأت تظهر تدريجياً. سكان الطابق الثالث رحلوا فجأة في ليلة واحدة بعد أن أقسموا أنهم رأوا نسخة من ابنتهم الصغيرة تلعب في الممر بينما كانت الطفلة الحقيقية نائمة في سريرها. ثم بدأت عائلة أبو أحمد تعاني. قال إن ابنه "أحمد" رأى والده يقف في الشرفة، بينما كان الأب الحقيقي يصلي في غرفته. وأقسمت أم أحمد أنها رأت ابنتها تدخل الحمام، لتجدها بعد دقيقة واحدة تخرج من غرفتها تسأل عن العشاء.كانت الكيانات في هذه العمارة لا تكتفي بالأصوات، بل كانت تقلد أصحاب المنزل، تظهر كنسخ باهتة منهم، تراقب بصمت وتختفي.في تلك الليلة، حزم سالم حقيبته. بينما كان يجرها نحو الباب ليغادر بلا عودة، سمع صوتاً مألوفاً يناديه من غرفة النوم التي كان ينام فيها. كان صوته هو. صوت نسخة طبق الأصل منه تقول بهدوء مخيف: "إلى أين أنت ذاهب؟ لقد وصلت للتو".لم يلتفت سالم خلفه. خرج من الشقة وركض على الدرج دون أن ينظر إلى الوراء، تاركاً خلفه العمارة رقم 23 تغرق مرة أخرى في صمتها المريب، وفي انتظار التالية.
#قصص #قصة #لايك #فولو