17/09/2025
مجزرة البيجر: حين تحوّلت التكنولوجيا إلى سلاح إبادة
بقلم جهاد محمد جابر
١٧ أيلول لم يكن يومًا عابرًا في ذاكرة وطنٍ يعرف معنى الشهادة والجرح. كان يومًا غُسلت فيه طرقاتنا بدماء الطهر، يومًا ارتقى فيه خيرة الشباب والأبطال، ونزف فيه الأطفال والنساء، بعدما حوّل العدو الصهيوني أداة مدنية بسيطة، هي أجهزة النداء (البيجر)، إلى قنابل موقوتة.
البيجر، جهاز صغير صُمم في الأصل للتواصل البشري البسيط، تحوّل بيد العدو إلى أداة قتل جماعي. لم تكن ساحة حرب، ولا مواجهة عسكرية، بل تفجير غادر في قلب المدنيين. أصابع بُترت، عيون أطفئت، أرواح صعدت… لكن البصيرة لم تُطفأ.
إنها جريمة العصر، جريمة تكشف إلى أي مدى يمكن أن يصل إجرام الصهيوني حين يُمنح العلم والمال والسلطة. فالتكنولوجيا التي اخترعتها العقول لخدمة الناس، جرى تسخيرها في يد الطغيان لإبادة الناس.
ولعلّ كلمات نتنياهو تكشف العقلية نفسها، حين قال بوقاحة أمام الإعلام: «كل من يحمل هاتفًا ذكيًا فهو يحمل قطعة من إسرائيل». لم يكن كلامه مجرّد استفزاز سياسي، بل تهديد مبطّن للعالم أجمع: أن هذه المنظومة قادرة على تفخيخ ما بين أيدي البشر من أدوات يومية، وأنها لا ترى في المدنيين سوى أهداف قابلة للإبادة. والأدهى أن هذا التصريح جاء عشية ذكرى مجزرة البيجر، وكأنه اعتراف ضمني ورسالة رعب متعمدة.
لكن، كما في كل مرة، فشل العدو في تحقيق غايته. لم تنكسر الناس، ولم يتوقفوا عند الخوف. بل ارتفعت من بين الركام أصوات الصبر والعزيمة. ولعل ما قاله سيد شهداء الأمة في خطابه الأخير والتاريخي يلخص المعادلة:
"هذه الضربة الكبيرة والقوية لم تُسقطنا ولن تُسقطنا إن شاء الله." وفي كلماته التي حُفرت في وجداننا "يوم لنا من عدونا، ويوم لعدونا منا. يوم الثلاثاء والأربعاء كانا بالنسبة لنا يوميين ثقيلين وسنتمكن إن شاء الله من تجاوزه بشموخ."
هكذا تتحوّل المجزرة إلى محطة جديدة في مدرسة المقاومة. فكما علّمتنا كربلاء أن الدم ينتصر على السيف، فإن البيجر اليوم يعلّمنا أن الجرح يمكن أن يتحوّل إلى رسالة، وأن البصيرة يمكن أن تضيء حتى لو انطفأت العيون.
لقد أراد العدو أن يقتل الإرادة، لكنه لم يدرك أن كل دم يسقط على هذه الأرض، ينبت حياة. وأن كل جرح يُفتح في الجسد، يُغلق في الروح بعهد جديد: عهد العزة والإباء.
١٧ أيلول سيبقى شاهدًا على وحشية الاحتلال، لكنه أيضًا سيبقى شاهدًا على صمود الناس، على أمّ تبكي وهي صابرةٌ محتسبة وندائها من كربلاء زينب: "ما رأيت إلا جميلًا"، وعلى جيل يكبر على أن المجزرة ليست نهاية، بل بداية لمسير أطول نحو الفجر.
ولأننا أبناء كربلاء، فإننا نعرف كيف نحوّل الألم إلى أمل، والجراح إلى رايات.
ولأننا أبناء المقاومة، فإننا نردّد من بين الدم والدمع: هيهات منّا الذلة.