29/04/2024
رسالة الى صديق هناك...
متعب أنا يا صديقي بوطنيتي و عروبتي.. متعب يا صديقي بأخلاقي, كتعب الأرض من السيول الجارفة.. و تعب الغابات من الحرائق التي تحولها الى رماد, أثقلتني الشجون قبل الهموم حتى بات الدمع الذي استعصى سنيناً يكاد ينهمر مدراراً عند رؤية اي مشهد من غزة الذبيحة او حتى مسناً يتسول في شوارع بيروت..
ها أنا تجاوزت منتصف الستينيات من العمر.. و لم يبقى من حلاوة العمر الا بعضٌ من ذكريات الطفولة.. لا أعرف كيف تحولت حلاوة عمري في النضال الى مرارات مكدسة راسخة في العقل كالطين المبلول بالدم و ليس بالماء..
و ها أنا اتذكر خروجي في أول مظاهرة و لم أبلغ التاسعة من العمر رفضا لهزيمة 1967 و تمسكا بقيادة جمال عبدالناصر.. بيتنا لم ترفع فيه صورة لجدي أو جدتي انما صورة له وحده; عبدالناصر.. و كان الحديث في بيتنا ضاجا بخطاباته.. بالعروبة و الوحدة.. وبالنضال و الاصرار على مواجهة الإستعمار.. ترسخت تلك الصورة لتبني شخصيتي التي بدأ وعيها آنذاك و تراكم فوقها بالمقاومة الفلسطينية و الفدائي الذي خلق من جزمةٍ أفقا.
خرجت بعدها في مظاهرات عدة.. رفضا لمشروع روجرز, تشييعا لناصر قبل التحاقي بمدرسة عمر بن الخطاب (المقاصد) لتبدأ رحلة الالتزام السياسي بالاتحاد الاشتراكي العربي التنظيم الناصري.. وكان ذلك في العام الدراسي 1973.. 1974 .
كانت رحلة البحث عن الذات بالقراءات المتعددة والمترامية الاطراف في الثقافة.. حتى داهمنا اغتيال الشهيد معروف سعد فحملت السلاح لأول اول حماية للمجتمعين في نادي خريجي الجامعة العربية..
وبدأت الحرب.. كنا نتسابق على مقدمة الصفوف في القتال وكنا نتسارع للاستشهاد وخلف حلم الدولة الوطنية العربية ومن أجل فلسطين حرة من البحر الى النهر..
تنقلنا من متراس الى متراس.. في الشياح والصنايع وزقاق البلاط وعين المريسة والفنادق أم المعارك بدءاً من فندق فينيسيا ثم الهوليداي ان وصولا الى المرفأ..
وكنت مع اخوتي في النضال طليعة المتوجهين الى مدينة صور ابان الاجتياح 1978.. وأثناء حصارها ومع القصف لم نستنشق سوى رائحة التراب المغمس بالدم والممتزج مع رائحة الليمون والبحر.. كنا ملح الارض ولم نزل..
اذكر بعدها اشتباك مع حركة فتح في راس النبع واصابتي انذاك. وكانت صرخة الوجع اغنية لفلسطين والثورة بديلا عن الآخ.. كانت الاه تصدح بنشيد فتح وعناصرها من أطلق النار عليّ..
بعدها كانت معارك صنين ثم جاء إجتياح 1982.. حكاياته كثيرة و اوجاعه أكثر.. مع كل شهيد كان يسقط جذع من جسدنا لكن صمود الروح كان أساس المواجهة.. وها أنا اذكر صبرا و شاتيلا.. اغنية الموت تنشدها أشلاء الضحايا المبعثرة بين الركام.. لكن بيروت ابت إلّا ان تطلق طلقة المقاومة الأولى.. لتكر بعدها عمليات المقاومة في كل شارع و عند كل مفترق طرق و حيث تنتشر قوات العدو.. كانت نشوتنا كلما صدحت مكبرات الصوت لدى العدو بأنهم منسحبون.
هل تذكر قبلها زيارة السادات الى المغتصب.. وأول عملية ضد السفارة الأمركية ثم تدمير مركز جون كنيدي في الحمرا آنذاك.. هل تذكر خالد الاسلامبولي 1981 ثم خالد علوان 1982؟!
ماذا نتذكر و ماذا تنفع الذكريات سوى أحلام وأدتها سلطة الطوائف ومطامع الصديق و الشقيق قبل العدو.. أذكر يا صديقي انني تركت العمل الحزبي في العام 1987 مع الدخول السوري الى بيروت بعد المعارك بين حركة أمل و الحزبين الشيوعي و الإشتراكي.. وهل أذكر رسالة وصلت اليّ بعبوة ناسفة امام مدخل منزلي ثم محاولة اغتيال لم تكتمل فصولها.. رغم ذلك قررت الاستمرار بمقاومة الاحتلال. نفذت عدة عمليات بإسم مجموعة الشهيد عبدالمنعم رياض و عمليات اخرى بإسم أنصار ثورة مصر بعد انكشافها أمام النظام الساداتي..
كانت آخر عملياتنا في 18/11/1990.. استشهد من مجموعتنا اربعة شهداء و سقط للعدو ضابط برتبة كولونيل في ذلك العام مع خمسة من عناصره.. ولن أتحدثعن ظروف التوقف بعدها أو أسبابها المحلية و الإقليمية..
انتقلت الى الميدان الثقافي, و أصبحت عضو اللجنة التنفيذية للمنتدى القومي العربي منذ تأسيسه و لدورتين انتهت في العام 1999 حيث قررت العمل مع الرئيس الشهيد رفيق الحريري..
و أذكر في لقائي الأول معه بصحبة الدكتور حسني المجذوب حين سألني "ماذا جاء بك و أنت من غلاة المعارضين, و أجبته:"سقطت احلام الثورة و بقيت أوهام الدولة, لعلنا معك نتمكن من إعادة بناء الدولة.."
التحقت بمكتبه في السادات تاور حتى اغتياله في العام 2005 فانتقلت الى مكتب مساعدات الحريري و انتسبت أيضا الى النادي الثقافي العربي حيث شغلت منصب أمين السر لعدة سنوات.. ثم عملت مستشاراً لتيار المستقبل في بيروت قبيل التأسيس و التحقت باللجنة التنظيمية المركزية في العام 2010 قبل عودتي الى إدارة المستوصفات مستشاراً أيضاً في بداية العام 2013 لما مثّلت من عبءٍ ثقيل على الهيئة و رئاستها و على الأمانة العامة التي بدأت تتطلّع الى بناء رعيتها الخاصة.. و كان الإفتراق النهائي 2016..
اشتركت في انتخابات 2018 دعما لبعض الأصدقاء و فشلت اللائحة في تحقيق اختراق حتى جاءت انتفاضة 17 تشرين.. شعرت حينها انها فرصة لبنانية بحتة لاستعادة الدولة من سلطة الطوائف واحزاب المذاهب, لكن التجربة سقطت حتى انتخابات 2022 حين إنتعشت الثورة في وجدان الناس ولأسباب مختلفة لا مجال لذكرها الآن.. شاركت بالإنتخابات و نجحنا – وهذا نجاح قيد المساءلة اليوم – في وصول 13 نائبا منهم ثلاثة نواب في بيروت الثانية..
أطلقت مع اصدقاءٍ "المظلة البيروتية" كإطار تفاعلي لبناء وعي وطني مستفيداً من إرث التجارب دون اعادة تكرارها.. ففيها من المرارات والإنكسارات الكثير..
يا صديقي..
غابت تفاصيل كثيرة لأنني لا أكتب لك مذكراتي او سيرة حياتي لا بل هي محاولة للولوج الى خلاصاتٍ تستفيد من كل أسباب الإنهيار.. لكل حقبةٍ او تجربة روايتها الخاصة قد أكتبها لك لاحقا لعل فيها ما ينفع الناس..
لكننا وبرغم صغرنا حينها كانت جذورنا ضاربةً عميقاً في الأرض و أحلامنا تطاول السماء.. ما يحركنا روح وثابة الى التغيير.. الى غدٍ متحرر فيه من رسوخ التقدم ما يدفعنا دائما الى صناعة التاريخ.
سلاحنا قيمٌ أخلاقية ووطنية وعربية..
متعب أنا يا صديقي.. ليس بتقدم العمر انما بما وصلت حالنا اليه.. من سقوط للقيم و من تفشي الفساد و العصبيات المذهبية.. عندما سقطت احلامنا الكبرى.. ظننا ان الدولة القطرية بمؤسساتها و فضاءها ملاذا آمنا لمستقبلٍ أصغر لكنه أفضل.. لكن بنيان الدولة الهشّ لم يتجاوز حدود الامنيات أيضاً..
كثيرا ما أتساءل.. هل سقط كل أولئك الشهداء سدى؟ هل العيب فينا ام في احلامنا الكبرى غير القابلة للتحقق في ظل متغيرات لم نحسن قراءتها؟! و هل نتجه لنقد تجربتنا للتطهر و التبرؤ منها رغم الدماء التي سالت و التضحيات التي بذلت؟! او يكون النقد مدعاةً لمقاربة اكثر واقعية..
الآن شخوص المسرح كثر.. منهم أصحاب المال و منهم زعماء الطوائف و المذاهب و الغالبية العظمى منهم رؤوس فارغة.. حتى إنها لم تقرأ تاريخ لبنان والمنطقة.. أتقنوا الكذب والنفاق ويبدعون في إنتاج صورهم على كل مواقع التواصل الإجتماعي..
المشكلة ليست فيهم, هم عنوان لها, مشكلتنا أن شعبنا لا يريد ان يكون شعبا.. ولا مجتمعا متماسكاً.. بعضهم تحركه الغرائز اوالمال, فيما البعض الآخر هم حزب الكنبة أو النرجيلة..
صار مخزوننا الثقافي و إرثنا السياسي نقطة ضعفنا لا قوتنا.. فالعقل لا يستقيم مع الجهل, والأنسنة لا تستوي مع العصبيات..
كنا بيتاً بمنازل كثيرة كما قا المؤرخ كمال الصليبي.. الآن بتنا سوقاً بمحلات و بسطات كثيرة تسوده الفوضى و يعمره النسيان..
نتحسر على وطن لم نعرف كيف نحافظ عليه.. و نتحسر على عمر قضيناه في معارك لم تحقق خرقاً واحداً في جدار العتمة..
يا صديقي..
أتعبتني فكرة ان يكون لي وطن و سحقتني محاولة ان اكون انساناً في وطن الشياطين و البراري...
بيروت في 29/04/2024
مروان الأيوبي