20/08/2025
#اسكريبت
عندما تعرفت عليها ظننتها مثالية ، لم أكن أعلم أنها فتات امرأة عصفت بها الأقدار على مدار سنوات عمرها الصغيرة ...
كانت تبكي لأتفه الأسباب ...كنت أظنها حساسةً بشكلٍ مفرط ، لكنها أخبرتني ذات مرة أنها تراكم رغبتها بحاجتها للبكاء لفترات تختتم بانفجارٍ لغددها الدمعية ، تبكي وتنتحب وكأن حبيبًا قد رحل ، لأقدِّر لها بعد ذلك هذا الأمر في كل شيء يحزنها ، أضمها لصدري ... ألثم جبينها وأسألها :
ـ أتريدين البكاء ؟ ابكي ،لا تكتمي رغبةً كهذه في داخلك سترتاحين .
كانت تبكي لفترة قليلة و احياناً تكتفي بدموعٍ دون صوت ، فهمت حينها ما نوع ماضيها الذي عاشته ، وما أشبه حالها بحالي لكني كنت أعرف كيف أتصرف مع نفسي بينما هي كانت تتفتت في داخلها و تظهر تماسكاً ومثالية لمن حولها .
أخبرتني مرةً في إحدى قعداتنا اللطيفة أنها تخاف المشاكل ، وبمجرد حدوث ذلك تتعرض لنوبة ارتجاف و تأخذ دموعها مجراها دون سبب ، ظننتها تمزح ، لكني وبعد حادثةٍ شهدتها تحت مرأى عيناها تأكد من صدق جلِّ ما تتفوه به .
شجارٌ أخوي معتاد بيني وبين أخي في بيت العائلة ، ارتفع صوتي قليلاً لتسمك بيدي فنظرت إليها لتدهشني نظراتها المتوسلة بأن نكفَّ الشجار .
لا أدري حينها ما حدث ، كيف نشب الشجار كنارٍ أضرمت بجنةٍ هانئة ، حيث تحول لعراك بالأيدي ، الجميع حولنا يحاولون فضّ الشجار أمي ... أبي ... وزوجة أخي ... وهي ... هي التي بدت ك كتكوتٍ مترجفٍ خلفي ، كانت تبكي بصمت ترتجف ، تحاول مد ذراعيها نحوي تسحبني إليها ، لكن لم أعيها .
ـ أرجوك توقف ... أنا خائفة ... أرجوك .
همسها الباكي جاءني من البعيد ، ابتعدت فجأةً بعد أن نجح أبي في تفريقنا لأوليه وجهي أمسحه بكفيّ المحمرين ، رفعتُ كفيّ لأراها أمامي مباشرةً تحتضن ذراعيها اللذين يرتجفان أسفل كفيها ، وعيناها غائرةً في دمعٍ صامت ، تذكرتُ حديثنا السابق تقدمتُ نحوها معتذراً ، طوقتها بذراعيّ أهدئ من رجفتها ، أكرر اعتذاري مراتٍ و مرات ، لأتعهد لها بعد ذلك ألا يرتفع صوتي في شجارٍ ولا أدخله قط .
ماضيها المشبع بالصدمات يثيرني كثيراً ، هذا الفتات سيعود لروحها بروحٍ جديدة .
كبرنا وكبر أولادنا ولا زلت ألتزم بعهودي أمامها تغيرت وتغيرتُ أنا معها ، بعد أن جاءت فارَّةً بدميةٍ قماشيةٍ شقراء ذات قبعةٍ و ثوبٍ أحمر ، دميةٍ تحمل لها العديد من الذكريات ، تعطيها لابنتنا الكبيرة ، ثم تعطيها للصغيرة المدللة ، لم تكن كذلك هي فقط ذات معاملةٍ خاصة من الجميع لأنها مريضة قلب .
في ذات مرة ذهبت الصغيرة لغرفة أختها تبحثُ عن الدمية العزيزة فوق طاولة مكتب أختها بعد أن وصفت الأخرى مكانها ... لم تنتبه و دون قصد أوقعت كوب ماءٍ كان موجوداً على الطاولة فوق إحدى الدفاتر المفتوحة لتبدأ الأوراق بالذوبان والكلام بالاختفاء .
شعرت الصغيرة بفداحة ما قامت به ، وليزيد الأمر سوءاً دخول الكبيرة في ذات الوقت ، لتثور ثائرتها ، غضبت وصرخت ثم أخرجت أختها بشيءٍ من القسوة وبيدها الأخرى الدفتر الغريق تشكوها لي ولأمها ، التي وقفت مندهشة لشجارٍ أول وغير معتاد منذ سنوات .
كانت تدفع الصغيرة من شعرها الذي تبعثرت خصلاته حول وجهها نحونا ، لتتلقفها أمهما بحنو سائلةً عمَّ حصل فتجيب الكبرى بغيظ :
ـ أفسدت دفتري وهي تبحث عن الدمية ، كيف سأدرس للاختبار الآن .
نظرت لحبيبتي الصامتة تنظر للدفتر الذي أخذته أتفحص حالته ، ثم انخفضت مستوى الصغيرة تسألها عمَّ جرى فتجيب باكية :
ـ كنت سأحضر دميتنا ... لم أقصد .
تلقائياً وضعت كفها الصغير على قلبها فانذعرت الأم و أخذت تقبل كفها وقلبها تهدهدها محتضنة إياها .
ـ لا تخافي ... لن يحدث شيء ... هيا تعالي نعدل ربطة شعرك الذي فسد .
كنا ننتظر هدوء الصغيرة حتى نبدأ بقضية الدفتر الغريق ، لكن الكبيرة لم تصمت ارتفع صراخها و هتفت بغيرة :
ـ وأنا ، من سيعدل دفتري ؟ كيف سأدرس وكيف أعيد الدفتر كما سبق ؟
وقفتُ أحاول تهدئتها، لكنها اغتاظت من سكوت أمها الحزينة ، فهي تخاصمهم ولا تحدثهم عند خطئهم .
ـ تصمتين ... وكأني أنا المذنبة ..لا ترين فعلة بنتكِ المدللة .
جميعنا يعترف أن ما تقوله كان لشدة غضبها ، لكني حينها لم أتمالك نفسي صرخت بها لتدخل غرفتها ، كنت سألحق بها لتأنيبها لكن حبيبتي قالت :
ـ أحضر دفترًا جديداً وعلبة الأقلام من المكتب .
أنا ذهبت ، ثم عادت ابنتي تصرخ وسط صمت أمها وتقليبها للدفتر والتصاق الصغيرة فيها بخوف .
عدت بما طلب مني ، رميته فوق الطاولة ، وسحبت الفتاة إلى غرفتها لأتحدث معها ، كانت زوجتي تبكي ، حالها الخائف عاد إليها وكأن ما كنت أبدده من فتات عادٍ يتكوم في روحها .
صعدتُ للغرفة مع ابنتي ، أغلقتُ الباب بهدوء ثم أخذت أحدثها عما فعلته ، لم يكن عليها معاملة أختها الصغيرة والتي بتلك الحالة بهذه الطريقة ، ولم يكن عليها أن ترفع صوتها أمامنا وتصرخ بنا.
لتبكي بعد ندمها على ما فعلت ، تذكرتُ حال زوجتي السابق قبل سنوات ، ضمنت ابنتي و قلت :
ـ لم أرفع يدي عليكِ قط طوال سنين عمرك ولن أرفعها ، يكفيني أن أتركك لضميركِ بعد أن أريتكِ الصواب وخطأك ، والدفتر تعالي خذيه بعد قليل سيكون جاهزاً .
وقفت مغادرًا لينفتح باب الغرفة مجدداً ابني الوحيد كان قد جاء بشيءٍ من الغضب ، ليسكن حين رؤيته لي .
ـ ماذا حدث ؟ لمَ تبكي ؟ ولمَ تبكي أمي ؟
نظرت لابنتي بلومٍ لتخفض رأسها في خزيٍّ ، عدت ببصري لابني سألته عن أمه وأخته الصغيرة فيجيب بأنهما في غرفتنا .
ذهبت إليهما ، وتركت الابنين في جلسة تأنيب ثانية ، أوصد ابني الباب بقوة ، فضحكت ، هذا الولد عائلته خطه الأحمر .
دخلت لغرفتي لأجدها تجلس على السرير تنقل ما في الدفتر المبلول للدفتر الجديد وسط دموعٍ صامتة ، لا أدري كيف سأخفف عنها وماذا أخبرها لكني نظرت لابنتي التي تجلس كأرنبٍ خائف ، وقد كانت تحتضن الدمية التي بدت مائلة الرأس ، غمزتها مبتسماً ثم جلست إلى حافة السرير أحدثها :
ـ كل شيءٍ بسببك .
أخفضت الطفلة رأسها في الدمية بينما رفعت زوجتي رأسها تقول بحزن :
ـ لا تقل هكذا .
نظرت لها ولحالتها التي بدت وكأنها فتاة صغيرة لتزيد بسمتي وقلت ساخراً :
ـ وأنتِ ، خير إن شاء الله ، ما هذه الحالة ؟ لمَ تبكين ؟ وكأنكِ الوحيدة التي تتناقر بناتها أمامها .
وضعت القلم ومسحت عن عينيها بكفيها ثم جلست بصمت مفكرة ، لم يكن بكائها لأجل شجارات ابنائها اللامتناهية ، بل كان خوفاً واسترجاعًا لماضٍ ظنت أنها نسيته.
ـ أنا خفت أن بصيب الصغيرة شيء.عندما رأيتها تحتضن بكفها صدرها ، لم أتمالك نفسي .
أجابتني هامسة فرفعت كفي امسح أثار الدمع التي لا زالت تظهر على وجهها.
ـ هذه ليست أول مرة ، لا تخافي ابنتنا أقوى منكِ ومني .
حملت الدفتر الجديد وأخذت أراقب ما كتبته وما تبقى لديها ، لأسمع صوتها الباكي مجدداً :
ـ لقد قطعت الدمية ...
ارتفع بصري إليها بدهشة ، كانت تبكي بحق ، الذكرى الوحيدة التي خرجت بها من آلامها اليوم انفصل رأسها عن جسدها ، نظرتُ لابنتي الصغيرة التي غفت على الكرسي الصغير والدمية مقطوعة الرأس بين ذراعيها ورأسها يتهاوى على الأرض .
نهضت العزيزة تحمل الصغيرة وتضعها على السرير ثم دثرتها وأخذت الدمية من بين يديها وعادت تلتقط الرأس عن الأرض تمشي نحوي كابنتيها عندما تتدللان إليّ ، مدتهما إليّ وقالت بصوتٍ مختنق :
ـ الشيء الوحيد الذي يذكرني بأن أبي شخص جيد رغم قساوته علينا وهديته الوحيدة لي طوال سنين عمري .
احتضنت كفاي كفيها بما تحمله ، وعادت بي الذكرى إلى لقاءتنا الأولى في مقهىً على الساحل .
ـ سأختار رجلاً قبل أن يكون أباً لأولادي يكون أباً لي ، لا يصرخ عليّ أبداً ، يعاملني بدلال أبٍ لابنته ، حنون و عطوف ، يكمل عقدة النقص عندي .
عدتُ للواقع على طرق الباب ليدخل ابني وخلفه البنية الخاطئة ، اقترب الولد كعادته يطوق كتفي أمه بذراعه ويلثم جانب رأسها بحب ، بينما الفتاة تتأرجح خطاها مترددة .
ضمت زوجتي الدمية لبعضها تخفيها و تخفي شكواها عنها.
ـ أمي ، أختي ستقول شيئاً.
نظرت لابنتي و ابني و زوجتي بشكل متبادل ثم لمحت ابنتي تقترب اكثر وتنكب على كف أمها ترجوها السماح معتذرة :
ـ لن أكرر فعلتي أبداً ، سامحيني ... لن يعلو صوتي عليكِ ...حتى عليكما مرةً أخرى ... سامحاني .
وقفتُ احتضنها لكتها بقيت جالسة تنتظر عفو أمها ، التي نظرت لي ولابنها بفخرٍ لتقف وتحتضن ابنتي التي عانقتها بقوة فطوقتهما بذراعيّ بسعادة ، لكن زوجتي ابتعدت وعادت ترفع الدمية بين كفيها تخبرني بحزن :
ـ لكن الدمية ...
ـ أنا ... أنا سأصلحها ، ستكون كسابق عهدها ، أعدك
هتفت البنت بسرعة تمحو أخطاءها واحداً تلو الآخر ، فناولتها أمها الدمية وسط بسمةٍ شاحبة ، لتصدح ضحكتي عندها :
ـ الآن تأكدت بأن أطفالي أربعة .
همستُ ساخراً من قول الناس عندما يروننا سوياً فيظننون أربعتهم أولادي ، ليهتف وحيدي ممازحاً :
ـ لكني الأكثر رجاحة بينهن ، هؤلاء الفتيات مشاكلهن لا تنتهي .
عادت الضحكات تعلو بعد توترٍ ليس بيسير فغمزت له مردفاً:
ـ تشبه أمك..
لتعلو الضحكات مجدداً ثم التفت ذراعي تضم الجميع في عناق أبوي دافئ لا مثيل له .