06/09/2025
بفلم المحامي د. داني جعجع
منشور فيسبوك قد يقودك إلى السجن: دليلك لفهم جرائم النشر الإلكتروني في لبنان
مقدمة: العالم الرقمي ليس فضاءً بلا قانون
نعيش اليوم في عالم متصل، حيث أصبحت منصات مثل فيسبوك، واتساب، وX جزءاً لا يتجزأ من حياتنا. هي مساحتنا للتعبير عن الرأي، مشاركة الأخبار، وانتقاد الشأن العام. لكن، وسط هذا التدفق الهائل للمعلومات، يوجد خيط رفيع جداً يفصل بين حرية التعبير والجريمة.
هل تعلم أن تعليقاً غاضباً، أو "بوست" ساخراً، أو حتى رسالة في مجموعة واتساب، قد تكون سبباً كافياً لرفع دعوى قضائية ضدك تنتهي بعقوبة سجن وغرامة مالية وتعويض؟ لسنوات، كان هناك ضبابية قانونية حول كيفية التعامل مع ما يُنشر على الإنترنت، لكن قانوناً صدر عام 2018 غيّر كل شيء، وجعل المسؤولية القانونية عن كلامك الإلكتروني واضحة وحاسمة.
هذا الدليل المبسط يشرح لك كل ما تحتاج لمعرفته عن جرائم الذم والقدح والتشهير عبر الإنترنت وفقاً للقانون اللبناني، وكيف تحمي نفسك من تبعات قانونية لم تكن في الحسبان.
اولاً- ما الفرق بين الذم والقدح والنقد؟
يستخدم الناس هذه المصطلحات بشكل عشوائي، لكن القانون اللبناني يميز بينها بدقة، ولكل منها عقوبة مختلفة.
الذم (Defamation)
هو أن تنسب لشخص واقعة محددة تمس بشرفه وكرامته، حتى لو كان ذلك على سبيل الشك أو الاستفهام. هذا هو التعريف الوارد في المادة 385 من قانون العقوبات. الركن الأساسي هنا هو "الواقعة المحددة"، أي اتهام الشخص بفعل معين.
● مثال: كتابة منشور يقول: "فلان المحاسب يختلس أموالاً من الشركة التي يعمل بها". أنت هنا لا تشتمه، بل تتهمه بفعل معين. هذا هو الذم.
القدح (Slander/Insult)
هو أبسط وأكثر شيوعاً. هو كل لفظة ازدراء أو سباب أو أي تعبير أو رسم يهدف إلى التحقير، دون أن يتضمن نسبة أي واقعة محددة، وذلك وفقاً للفقرة الثانية من المادة 385 من قانون العقوبات.
● مثال: كتابة تعليق على صورة شخص يقول: "أنت كاذب" أو "أنت شخص سيء". هذا هو القدح، لأنه يطلق صفة مهينة دون تحديد واقعة.
النقد المباح (حرية التعبير)
هو حقك في تقييم عمل شخصية عامة (سياسي، فنان...) أو أداء مؤسسة. النقد يكون موضوعياً ويركز على الفعل وليس على الشخص.
● مثال: "أداء الوزير في إدارة هذا الملف كان ضعيفاً". هذا نقد مباح ومحمي كمبدأ عام.
لماذا منشور على فيسبوك أخطر من شتيمة في الشارع؟
قد تسأل: "لماذا عقوبة شتيمة على منصات التواصل قد تكون أشد من شتيمة في الشارع؟" الجواب يكمن في كلمة واحدة: العلنية Publicity))
إن الجريمة تكون أشد خطورة كلما كان انتشارها أوسع. والوسائل الإلكترونية تحقق شرط العلنية بشكل فوري وواسع الانتشار. المنشور الذي تكتبه يمكن أن يقرأه الآلاف في دقائق، مما يضاعف الضرر المعنوي على الضحية.
حتى الرسائل الخاصة ليست آمنة تماماً
من المهم أن تعرف أن القانون اللبناني يعاقب أيضاً على الذم والقدح غير العلني. فإذا أرسلت رسالة خاصة لشخص تتضمن ذماً أو قدحاً بحق شخص آخر، يمكن أن تُلاحق قانونياً. الفرق هو أن العقوبة في هذه الحالة تكون الغرامة المالية فقط دون الحبس، وذلك بموجب المادتين 582 و 584 من قانون العقوبات.
ثانياً- الوضع القانوني
قبل عام 2018، كان هناك جدل كبير في المحاكم اللبنانية. القانون الذي يحدد ما هو "نشر علني" كان قديماً جداً (المادة 209 من قانون العقوبات) ولم يذكر الإنترنت طبعاً. هذا الأمر أدى إلى انقسام الآراء:
1. رأي اعتبر ان منصات التواصل ليس "مكاناً عاماً" بالمعنى التقليدي، وبالتالي لا تنطبق عليه عقوبات النشر العلني المشددة.
2. و رأي آخر اعتبر انّ الإنترنت بطبيعته المفتوحة هو أكثر الأماكن علنية، ويجب أن يخضع للقانون، معتبراً أنه مكان عام ومعرض للأنظار ومباح للجمهور وفق ما اشارت المادة 209.
هذا التضارب خلق حالة من الفوضى، حيث كان مصير الدعوى يعتمد على القاضي الذي ينظر فيها.
القانون رقم 81/2018 حسم الموضوع
لوضع حد لهذا الجدل، صدر القانون رقم 81/2018 المتعلق بالمعاملات الإلكترونية. هذا القانون قام بتعديل جوهري وحاسم:
لقد عدّل المادة 209 القديمة من قانون العقوبات، وأضاف عبارة بسيطة لكنها غيّرت كل شيء: "بأية وسيلة كانت، بما فيها الوسائل الإلكترونية".
ماذا يعني هذا التعديل عملياً؟
1. لا جدال بعد اليوم: أصبح النشر على فيسبوك، واتساب، أو أي منصة رقمية أخرى، يعتبر "نشراً علنياً" بشكل رسمي ومباشر بموجب القانون.
2. عقوبات أشد: هذا يعني أن جرائم الذم والقدح عبر الإنترنت تخضع للعقوبات المشددة المخصصة للنشر العلني، والتي قد تصل إلى الحبس والغرامات المرتفعة.
متى يتم تشديد العقوبات؟
لا يعامل القانون جميع ضحايا الذم والقدح بالطريقة نفسها. فالعقوبة تشتد وتصبح أقسى بكثير إذا كان الكلام المسيء موجهاً إلى شخصية عامة أو هيئة رسمية. على سبيل المثال:
● القدح بحق مواطن عادي (المادة 584 عقوبات): عقوبته الحبس من أسبوع إلى 3 أشهر أو غرامة.
● القدح بحق رئيس الدولة (المادة 388 عقوبات): تصل العقوبة إلى الحبس من شهر إلى سنة.
● الذم بحق مواطن عادي (المادة 582 عقوبات): عقوبته الحبس حتى 3 أشهر و/أو غرامة.
● الذم بحق رئيس الدولة) المادة 386 عقوبات): تصل العقوبة إلى الحبس من شهرين إلى سنتين.
● الذم أو القدح بحق قاضٍ أو محكمة أو الجيش أو الإدارات العامة أو أي موظف ممن يمارسون السلطة العامة من اجل وظيفته او صفته. (المادتان 386 و 388 عقوبات): تتراوح العقوبة بين الحبس حتى 6 أشهر في حالة القدح، وتصل إلى سنة في حالة الذم.
هذه الحماية المشددة للمسؤولين والمؤسسات العامة هي من أكثر النقاط التي تثير انتقادات المنظمات الحقوقية.
مفارقة قانونية خطيرة
هذا التعديل وضع مستخدمي الإنترنت في وضع أسوأ من الصحفيين. فالصحفي الذي يكتب مقالاً في جريدة ورقية يُحاكم أمام "محكمة المطبوعات"، وهي محكمة خاصة تمنع "التوقيف الاحتياطي" بموجب المادة 28 من قانون المطبوعات. أما المواطن العادي الذي يكتب نفس الكلام على منصات التواصل الاجتماعي، فيُحاكم أمام المحاكم الجزائية العادية، حيث يمكن توقيفه احتياطياً. أصبح القانون يعامل نفس الكلمة بشكل مختلف فقط بسبب الوسيلة التي نُشرت بها.
ثالثاً: الإجراءات: تعرضت للتشهير.. ما هي الخطوات القانونية؟
إذا تعرّضتَ للذمّ أو القدح عبر الإنترنت، لديك ثلاث طرق جزائية متوازية، واختر الأسرع لمصلحتك:
1. شكوى أمام النيابة العامة الاستئنافية
تقدّم شكوى خطية مفصّلة. تحرّك النيابة دعوى الحق العام وتحيل الملف للتحقيق غالباً عبر مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية.
2. الادعاء المباشر أمام القاضي المنفرد الجزائي
تتقدّم بدعوى مباشرة وتتّخذ صفة الادعاء الشخصي. تُسجَّل الدعوى فوراً وتبدأ المحاكمة من دون مرحلة تحقيق أولي. يكلّفك القاضي سلفة معجّلة للرسوم والنفقات.
3. شكوى مباشرة أمام قاضي التحقيق الأوّل
تتقدّم مباشرة إلى قلم قاضي التحقيق وتتّخذ صفة الادعاء الشخصي لفتح التحقيق فوراً وسماع الشهود وضبط الأدلة الرقمية. تُدفع سلفة معجّلة للرسوم والنفقات.
في كل الحالات، من الضروري توثيق الأدلة (أخذ صور للشاشة Screenshot، الاحتفاظ بالروابط..).
رابعاً- مناطق رمادية ومسؤوليات غير واضحة
رغم أن القانون رقم 81/2018 حسم مسألة "العلنية"، إلا أنه ترك أسئلة هامة عالقة، مما يضع المستخدمين في حيرة من أمرهم.
هل أنت مسؤول عن "إعادة النشر" (Share/Retweet)؟
عندما تقوم بعمل "Share" لمنشور مسيء، هل تصبح شريكاً في الجريمة؟ القانون اللبناني صامت تماماً في هذه النقطة . الأمر متروك لتقدير القاضي، الذي قد يعتبرك:
● ناشراً أصلياً: لأنك ساهمت في نشر الكلام المسيء لجمهور جديد.
● شريكاً او متدخلاً في الجرم: إذا ثبت أن نيتك كانت المساعدة في إيصال الإساءة.
وفي رأينا، نعم تقوم المسؤولية الجزائية عن إعادة النشر، لكون المشاركة الإلكترونية تُعدّ نشراً بالمعنى المقصود في المادة 209، ولأن المادة 214 تُسائل الناشر شريكاً في الجرم، فضلاً عن إمكان مساءلته شريكاً أو متدخّلاً عند ثبوت القصد، مع انطباق أحكام الذمّ والقدح عند توافر باقي الأركان.
هل مدير مجموعة واتساب (Admin) مسؤول عن منشورات الأعضاء؟
سؤال آخر لا إجابة واضحة له في القانون اللبناني. إذا قام عضو في مجموعتك (مثلاً على واتساب أو فيسبوك) بنشر محتوى فيه ذم وقدح، هل تتحمل أنت المسؤولية كـ "Admin"؟ هناك عدة آراء قانونية حول العالم، والقضاء اللبناني قد يتبنى أياً منها:
1. نعم، أنت مسؤول: لأنك من أنشأ المجموعة وتملك صلاحية حذف المنشورات وطرد الأعضاء.
2. مسؤول فقط إذا تم إبلاغك: أي أن مسؤوليتك تبدأ فقط عندما يبلغك أحد بوجود محتوى مخالف ولا تقوم بحذفه.
3. لا، لست مسؤولاً: طالما لم تشارك أو تحرض على الإساءة بنفسك.
هل إثبات صحة الواقعة يبرئك دائماً؟
ليس بالضرورة. القاعدة العامة في القانون اللبناني هي أن إثبات صحة الواقعة لا يبرر الذم، لأن الهدف من القانون هو منع التشهير بحد ذاته (المادة 583 عقوبات). لكن هناك استثناءات قليلة:
● تبرئة مشروطة: يبرأ الفاعل إذا كان الذم موجهاً لموظف عام ويتعلق بعمله الوظيفي، وشرط أن يثبت الفاعل صحة كلامه. هذا الاستثناء لا يشمل الذم الموجه لرئيس الدولة (المادة 387 عقوبات).
● حق الدفاع: لا تعتبر الأقوال التي تصدر عن محامٍ أو خصم في المحكمة بهدف الدفاع عن الحقوق ذماً أو قدحاً، شرط أن تكون بحسن نية وفي حدود ما يتطلبه الدفاع (المادة 417 عقوبات).
● الإعفاء من العقوبة: في جريمة القدح فقط، يمكن للقاضي أن يعفي الطرفين أو أحدهما من العقوبة إذا كان القدح متبادلاً (تراشق بالشتائم)، أو إذا كان المجني عليه هو من تسبب بالقدح عبر تصرف غير محق (المادة 585 عقوبات).
خلاصة: فكّر قبل أن تنشر
حرية التعبير هي حق أساسي، لكنها تأتي مع مسؤولية. قبل أن تكتب أو تشارك أو تعلق، فكّر للحظة. هل ما تكتبه هو نقد موضوعي أم ذم وقدح شخصي؟
تذكر دائماً أن العالم الرقمي ليس فضاءً بلا قانون، بل هو امتداد للواقع، وكل فعل فيه له تبعات حقيقية قد تكون وخيمة. معرفة هذه القواعد البسيطة هي خطوتك الأولى لحماية نفسك والاستمرار في التعبير عن رأيك بمسؤولية.
مقدمة: العالم الرقمي ليس فضاءً بلا قانون نعيش اليوم في عالم متصل، حيث أصبحت منصات مثل فيسبوك، واتساب، وX جزءاً لا يتجزأ من حياتنا. هي مساحتنا للتعبير عن الرأي، مشار....