15/11/2025
تمر علينا اليوم الذكري 57 للهجوم الأول من قبل القوات البحرية المصريه علي ميناء ايلات الإسرائيلي المغتصب سنة 1968.
المقدمة:
لم تكن عملية تدمير إيلات مجرّد هجوم ناجح، بل إعادة تعريف لفكرة القوة في البحر الأحمر بعد هزيمة 1967،كانت الضربة رسالة واضحة:
الموانئ المحصّنة، الأضواء الكاشفة، والقطع العسكرية الثابتة لا تمنح الأمان عندما يواجهها رجال يعرفون ما يفعلون.
منذ البداية كانت الفكرة بسيطة في ظاهرها: اختراق الميناء الأشد تحصينًا، وتدمير سفن أساسية في شبكة الإمداد الإسرائيلية.
لكن ما جرى على الأرض وتحت الماء كان أكثر تعقيدًا بكثير.
لماذا إيلات؟ الأسباب التي لا تظهر في البيانات الرسمية.
ففي مطلع 1968، شنّ الكيان الإسرائيلي عدة عمليات هجومية من البحر عبر ناقلتين بحريتين:
- الأولى “بيت شيفع” التي كانت تحمل مدرّعات برمائية.
- الثانية “بات يم” ناقلة جنود.
واستُخدمت هذه الناقلات في تنفيذ عمليات كوماندوز إسرائيلي على السواحل الشرقية المصرية، من بينها عملية استهداف رادار مصري بين أبو الدرج والزعفرانة، استمرّ الجنود الإسرائيليون في ذلك الموقع نحو 15 ساعة تحت غطاء جوي، واستولوا على معدات عسكرية.
الأمر لم يكن فقط عسكريًا، بل أيضًا إعلاميًا، إذ استُخدم الظهور الإعلامي لتسويق فكرة أن إسرائيل قادرة على غزو الموانئ المصرية.
لقد استفزّت هذه الضربات القيادة المصرية، فقرّرت أن تردّ بطريقة نوعية، فبعد تقييم البدائل، ظهر اقتراح من قائد القوات البحرية المصري بالقيام بعملية للضفادع البشرية داخل ميناء إيلات بدلاً من شنّ غارة جوية عالية المخاطر، نظراً لاحتمالات خسائر كبيرة.
الرئيس جمال عبد الناصر أيد الفكرة، وبدأت تحضيرات دقيقة بعد التأكد أن الناقلتين تخرجان من إيلات نحو شرم الشيخ ثم إلى السواحل المصرية.
يعني اختيار الهدف لم يكن انتقاميًا أو استعراضيًا، فلقد كان محسوبًا بدقة أي:
- ضرب الشريان اللوجستي الذي يغذي الجبهة عبر البحر الأحمر.
- تحييد تفوق إسرائيل الجوي عبر عمل بحري لا يعتمد على الطائرات.
- إعادة التوازن النفسي والعسكري بعد 1967 بضربة نوعية ذات أثر واضح.
- إرباك حسابات العدو عبر جعل أحد أهم موانئه مكشوفًا وغير آمن.
- كانت النتيجة: عملية منخفضة التكلفة، عالية التأثير، ومحمّلة برسالة عملياتية لا يمكن تجاهلها.
الميناء: مسرح ضيق مكتظ درجة الخطأ فيه تساوي الموت.
ميناء إيلات في نهاية الستينيات كان مقسومًا عمليًا إلى منطقتين:
منطقة عسكرية شمالية-شرقية عالية الحماية، مخصّصة للوحدات البحرية الإسرائيلية.
منطقة تجارية مركزية مزدحمة بالسفن والرافعات والشحنات.
الأخطر لم يكن التحصين وحده، بل طبيعة المكان: خليج ضيق، مياه متحركة، أضواء كاشفة ثقيلة، أبراج مراقبة، دوريات ليلية، وضوضاء مستمرة تجعل أي صوت غريب قابلًا للاكتشاف. ورغم ذلك حمل هذا الازدحام ثغرة واحدة: كثرة الحركة التجارية تجعل المكان قابلًا للاختراق إذا تمّت مراقبة الإيقاع جيدًا من بعيد.
الاستخبارات: من عمّان إلى القاهرة
تم الاعتماد على المخابرات المصرية في الأردن لتنفيذ استطلاع أولي دقيق، الرائد رضا حلمي قائد لواء الوحدات الخاصة قاد مهمة سرّية إلى ميناء عقبة، حيث تظاهر بأنه ضابط إشارة، وراقب مداخل إيلات وسجّل تحركات السفن.
استُخدمت تلك المعلومات الاستخباراتية لتصميم خطة الهجوم بدقة، بما في ذلك توقيت المغادرة والمسارات والقوارب.
بالتوازي جرى في القاهرة إعداد نماذج مائية مطابقة لشكل الميناء، حيث تدربت قوات الضفادع البشرية على نفس المسافات والظروف.
المهندس البحري أسامة مطاوع لعب دورًا محوريًا في تحسين أداء الزوارق المطاطية عمل على كتم صوت المحرك لتجنّب الكشف، وهي خطوة تمثّل اهتمامًا دقيقًا بأدق التفاصيل التقنية التي قد تكون فارقة في نجاح العملية.
القوة المنفّذة: أسماء لم تضِع رغم الغوص في العتمة
مجموعات العمليات:
قائد سلاح البحرية وقيادة العمليات اللواء محمود فهمى.
قائد العملية رائد بحري رضا حلمى.
قائد التدريب رائد بحري مصطفى طاهر.
رئيس الأركان خليفة جودت.
المجموعة الأولي ميناء العقبه:
ملازم عمر عز الدين.
رقيب محمد العراقي.
المجموعة الثانية ميناء العقبه:
ملازم حسنين جاويش.
رقيب عادل البطراوي.
المجموعة الثالثة ميناء العقبه:
ملازم نبيل عبدالوهاب .
الرقيب فوزي البرقوقي (الشهيد الوحيد في العملية).
المجموعة الرابعة كانت بالغردقه (شرم الشيخ ولم تشارك) :
ملازم عبد الرؤوف سالم.
مساعد عبده مبروك.
المجموعة الخامسة كانت بالغردقه (شرم الشيخ ولم تشارك):
ملازم أول رامي عبد العزيز.
الرقيب فتحي محمد أحمد.
المجموعة السادسة كانت بالغردقه (شرم الشيخ ولم تشارك):
ملازم أول عمرو البتانوني.
رقيب علي أبو ريشة.
مهندس العملية :
مجند مهندس أسامة مطاوع.
عريف محمد محمد جودة.
الدليل الصحراوي:
الشيخ البدوي سالم سلامه ابوعكفة.
المجموعة المعاونة:
نقيب مخابرات حربية /أبراهيم الدخاخني.
نقيب صاعقة امير يوسف.
نقيب صاعقة علي عثمان بلتك.
النقيب احمدعلاءالدين قاسم.
اختيروا لأنهم قادرون على العمل في بيئة لا تمنح فرصة ثانية: خطأ واحد يعني فشل المهمة وموت الجميع.
التحشيد والتنقُّل السري.
بدأ التنفيذ فعليًا بين 14 و15 نوفمبر 1969، مع اكتمال الفريق وتدريب الضفادع، بتوجه المجموعات على إحدى طائرات النقل المصرية، إلى إحدى المطارات العراقية، على زعم أنهم أفراد من منظمة فتح الفلسطينيه، وأن الصناديق التي بحوزتهم هي معدات خاصة بالمنظمة، ثم انتقلوا إلى بلدة “الطفيلة” بالأردن، حيث تجمعوا انتظاراً لوصول باقي أفراد الضفادع من القاهرة .
استخدم المهاجمون تغطية مدنية أغلبهم سافروا بجوازات مدنية من القاهرة إلى عمّان، بدعوى السياحة. أقاموا في بيت تابع للسفارة المصرية في الأردن ثلاث ليالٍ لتعزيز التخفي.
في مساء 14 نوفمبر، انطلقت المجموعة من عمّان إلى العقبة عبر الصحراء بدعم من دليل صحراوي بدوي، الشيخ سالم أبو عكفة، لتجنّب الطرق التقليدية المكشوفة.
حتى وصلوا إلى مكانهم حوالي الساعة الواحدة والنصف ظهر يوم 15 نوفمبر، إذ كان المفترض أن يتم تنفيذ العملية الليلة التالية، حتى ينال الأفراد قسطاً من الراحة، ولكن قائد العملية قرر تنفيذها في الليلة نفسها، خشية أن يحدث أي تغيير في الموقف .
و بعد أن صدرت إلاشارة متفق عليها من إذاعة صوت العرب بالقاهرة وكانت أغنية «بين شطين وميه» للمطرب محمد قنديل، وكانت هذه الأغنية تعنى أن الأهداف موجودة فى مكانها، أما أغنية «غاب القمر يا ابن عمى» لشادية، فتعنى أنها غير موجودة.
ليلة البحر الثقيلة
ليلة 15-16 نوفمبر، تحركت مجموعات الضفادع البحرية إلى الزوارق المطاطية عند الساعة الرابعة والنصف بدأ الإبحار. البحر كان صعبًا رياح قوية وموج متقلب، لكن الضفادع تغلّبت، وقطّعت مسافة إلى ميناء إيلات في نحو ثلاث ساعات.
عند الوصول، غاصت المجموعات إلى الماء قرب رصيف الميناء (حوالي كيلومترين من الأرصفة) وشرعت في ملغمة السفن. هدفهم كان الميناء التجاري (وليس الميناء العسكري) لأن الملاحة التجارية كانت محورية لجهود اللوجستيات العسكرية الإسرائيلية.
تم تلغيم سفينتين تعرفت المصادر المصرية على أسمائهما: “هيدروما” و”داليا”.
كانت هناك تعليمات صارمة إن لم يُعثر على القارب المطاطي للعودة، فينبغي السباحة إلى الشاطئ الأردني، وتسليم الذات للسلطات الأردنية والإدّعاء بأنهم ضباط ضفادع بشرية مصرية أُلقي بهم بطائرة هليكوبتر لتنفيذ المهمة ولم يُعادوا.
في هذه المهمة، كان الرائد إبراهيم الدخاخني في انتظار بالميناء الأردني لدعم مثل هذه السيناريوهات.
عند حوالي الساعة الحادية عشرة وخمس دقائق مساءً، وصلت المجموعات إلى مدى قريب جدًا من السفن (حوالي 150 مترًا) غاصت الفرق، وبدأت تثبيت المتفجّرات. بعدها بدأوا رحلة العودة سباحة.
وفي حوالي 01:13 فجر 16 نوفمبر دوى أول انفجار ضخم، تلاه انفجارات أخرى، ليصل المجموع الكلي إلى نحو خمس انفجارات.
فالسفن المستهدفة كانت:
داليا — سفينة شحن لوجستي محوري.
هيدروما — سفينة إسناد وإمداد.
سفينة ثالثة متوسطة الحمولة أصيبت بأضرار معقولة.
فعملية اللصق كانت دقيقة الشحنات ثُبّتت تحت خط الماء عند نقاط محسوبة لخلخلة البدن وإحداث عطب لا يمكن إصلاحه سريعًا، والمؤقتات ضُبطت لتنفجر بعد ساعات، ما يمنح القوة وقتًا للانسحاب ويُربك التحقيق الإسرائيلي فور الانفجار.
بطولات الأفراد والعودة:
في المجموعة الأولى، نضب الأكسجين في جهاز زميل صف الضابط، فصعد الزميل إلى السطح، لكن الملازم أول عمر عزالدين أمره بالعودة، ثم أكمل عزالدين التلغيم منفردًا، ونزع تيل الأمان من اللغم، وبعدها سعى إلى نقطة الالتقاء لكن لم يجد القارب، فسبَح إلى الشاطئ الأردني وسلم نفسه للسلطات هناك.
المجموعة الثانية أنجزت مهمتها أيضًا، لكن عند العودة لم تجد القارب المطاطي، فسبَحوا إلى العقبة واختبأوا في مبنى مهجور حتى الصباح.
المجموعة الثالثة الرقيب فوزي البرقوقي وهو المكلف بتلغيم السفينة “داليا”، استُشهد، لم يكن السبب إطلاق نار كما صورت بعض الأفلام، بل تسمّم الأكسجين تحت الماء، على الرغم من التعب، أصر البرقوقي أن يثبت اللغم في الجزء الأخير من السفينة، ورفض الصعود إلى السطح لتجنّب كشف الموقع. زميله، الملازم أول نبيل عبدالوهاب، سحب جثمانه وسبَح به نحو السواحل الأردنية لمسافة طويلة جدًا، حتى وصل إلى العقبة.
في تقارير لاحقة قال إنهما "يا نعيش سوا يا نموت سوا" مشاعر الحزن على رفيقه والفرح الناجم عن النجاح تداخلت أثناء السباحة.
بعد الانفجارات، نُقل الابطال إلى مبنى الاستخبارات الأردنية في عمّان، هناك، قدّم الأردنيون لهم ملابس مدنية بدلاً من ملابس الغطس، وسُمِعوا الانفجارات من الشاطئ الأردني، حيث وقفوا يراقبون أعمدة الدخان ووميض الانفجارات العابرة.
ما بعد العملية النتائج والتداعيات
العملية نجحت بتدمير السفن وإلحاق أضرار جسيمة، فالإعلان المصري جاء مساء نفس اليوم، وأثار ضجة كبيرة في الأوساط العسكرية والإعلامية.
العدو الإسرائيلي تأثر بشدة أمر بعدم بقاء الناقلتين “بيت شيفع” و”بات يم” في ميناء إيلات بين الليل والنهار، بل وجّههما للتجوّل ليلاً فقط، خشية من هجمات الضفادع في الليل.
موشى ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، وصف منفّذي العملية بكلمات قاسية:
“إما لديهم مستوى فني وتقني عال جدًّا، أو أنهم مجانين.”
هذا القول يعكس تقديرًا، وإن كان غاضبًا، لجرأة المصريين وكفاءتهم.
كما كرّم الرئيس جمال عبد الناصر ابطال الضفادع البشرية بعد العملية، ومنح الشهداء نوط الجمهورية العسكري من الدرجة الأولى تقديرًا لشجاعتهم ومهارتهم.
بعد هذه العملية، استُكملت سلسلة من الهجمات اللاحقة على «بيت شيفع» و”بات يم” من نفس الوحدة، ما أظهر أن رد الفعل لم يكن لمرة واحدة فقط، بل استراتيجية مستمرة.
الخلاصة المضمون والدروس الكبرى:
هذه العملية تمثل أكثر من إنجاز عسكري؛ هي درس في الإيمان بالقضية، والتضحية من أجل الوطن، والعمل الجماعي تحت أقسى الظروف.
الضفادع البشرية المصرية لم تنفذ المهمة طمعًا في مال أو سلطة، بل بدافع وطني وإيمان قوي، رغم الإمكانيات المحدودة، استطاعوا استخدام التخطيط الدقيق والتكتيك الذكي والجرأة المثالية لصناعة نصر نوعي.
إن حديثنا اليوم عن هذه العملية يجب أن يكون فخرًا واضحًا، ليس فقط بدماء الشهداء، بل بأن هناك أجيالًا صنعت من القليل الكثير، وقدّمت كل شيء لخدمة الوطن والكرامة.
القوة في البحر ليست دائمًا في حجم القطع البحرية ولا في عدد الصواريخ، بل في قدرة المقاتل على اتخاذ قرار في الظلام دون أن تنتظره مكافأة أو شهرة.
عملية إيلات مثال نادر على عملية خاصة ناجحة صُمّمت بعقل، ونُفذت بصبر، وانتهت بدرس لا يزال قائمًا: الميناء المحصّن ليس آمنًا إذا كان من يقف ضده قادرًا على التفكير والعمل خارج التوقع.
المصادر:
1- بوابة الأهرام – ملف عملية تدمير إيلات – سعيد الشحات.
2- اليوم السابع – سلسلة “ذات يوم” عن عمليات الضفادع البشرية 1969–1970 – سعيد الشحات.
3- السياسة الدولية – دراسات حرب الاستنزاف – مركز الأهرام.
4- مقابلات الضباط عمر عز الدين، نبيل عبدالوهاب، حسنين جاويش — منشورة صحفيًا.
5- أرشيف القوات البحرية المصرية — شهادات تكتيكية وهندسية حول العملية.
6- Jewish Telegraphic Agency (JTA) – Archive Reports, November 1969
7- Associated Press – Middle East Dispatches, 16–17 November 1969
8- British Pathe – Film Archive: “Israel: Eilat Explosion Footage – 1969”
9- The Jerusalem Post – Contemporary Reports on the Eilat Attack, 1969
10- US Naval Institute (USNI) – Historical Notes on Arab-Israeli Naval Incidents
11- Israel State Archives – War of Attrition Documents (Maritime Section)
12. مذكرات ضباط البحرية المصرية – دار المعارف
13. دراسة: العمليات البحرية في حرب الاستنزاف – كلية القادة والأركان المصرية
والي لقاءا تاريخيا اخر وتحليل حدث عربيا نفتخر به جميعا، مع تحياتي AL-TOMMY CENTER.