
21/08/2025
الجزء الثاني
حين يتحول البارون إلى "قدوة".. زمن الانقلاب القيمي في الريف
في الريف، لم يعد يكفي أن ترقص مع البارون وتصفق له، بل يجب أن تدافع عنه وتراه بطلا. كل من انتقد عرسه، قالوا عنه حاسد، وأنه لا يحب أن يرى نعمة الله على أحد. كأن النعمة اليوم تقاس بعدد سيارات المرسيدس وعدد الرصاصات التي تشق سماء الليل. بل هناك من صار يردد أن الرجل "فاعل خير"، وأن خيره يغطي شره. كأنها معادلة رياضية: كيلوغرام كوكايين يقابله قفة رمضان. جريمة منظمة يقابلها مسجد ممول. دماء بريئة يقابلها أضاحي العيد.
خرج علينا بعض التيكتوكيين، ممن ينتسبون إلى الصحافة وهم منها براء -براءة الذئب من دم يوسف-، يوزعون علينا دروسا في الأخلاق الجديدة. يقولون: لسنا نحن من يحدد الحلال والحرام. كأن الأمر يحتاج إلى فتوى لنعرف أن سمّ العقول ليس صدقة، وأن إغراق البحر بجثث الحالمين بالجنة الأوروبية ليس جهادا في سبيل الله.
البارون، في خطاب المدافعين عنه، ليس سوى "ميس ن دشار"، "رجل عصامي"، "سخي كريم"، يرش الدراهم على الفقراء كما يرش السم في جيوبهم. لم يروا فيه "القاتل" الذي يعبث بالعقول والأجساد، ولا المهرب الذي يبيع الوهم في قوارب الموت. رأوا فيه فقط صورة الرجل القوي الذي يملك ما لا يملكه الآخرون.
لقد تحول الفساد إلى بطولة، والجريمة إلى فخر، والثراء المشبوه إلى نعمة إلهية. نحن اليوم في زمن جديد، حيث يصبح البارون شيخ طريقة، وعرسه موسم حج، ومن يعترض عليه فإما حاسد أو كاره للنجاح.
إنها قمة الانقلاب القيمي: صار الباطل هو الأصل، والحق استثناء.
المصيبة ليست في البارون وحده، بل فينا جميعا. نحن الذين نصفق، نصمت، نبرر، ونجد ألف حيلة لتزيين القبح. نحن الذين نحول المجرم إلى أسطورة.
والله أعلم عاود
بقلم: محمد من العروي