04/05/2023
اليوم نقدم لكم مقال حول
عدنا بعد طول غياب
تحية سوسيولوجية عالية لكل التواقين للعلم و المعرفة
نتمنى أن تكون في أفضل الأحوال
♤النماذج النظرية للصحة والمرض:
1) – النموذج الوظيفي أو التوافقي: تالكوت بارسونز:
ينتمي بارسونز إلى المدرسة الوظيفية ويعتبر أول باحث وضع تحليلا سوسيولوجيا للمرض (1902-1980) حيث بنى إطاره السوسيولوجي لدراسة المرض في سياق نظريته العامة للفعل خلال الخمسينات من القرن الماضي من خلال كتابه "النسق الاجتماعي"، حيث انطلق من فكرة أساسية مؤداها أن البناء الاجتماعي يوضح العلاقة بين المرض والطب ويوجهها، لتحديد وضعيات المرض بهدف الوصول إلى العلاج[1]، دون أن يشكك في مصداقية المعرفة الطبية، أو أن يسائل منطق اشتغال المؤسسات الطبية. لأن مهمة السوسيولوجي ستقتصر في معرفة ماذا يحدث، قبل وبعد وحول، واقع محدد طبيا "المرض"[2] ولتحديد مكانة المريض والطبيب في المجتمع انطلق من التساؤلات التالية:
- ما السبل التي يسلكها المريض حتى يعترف به كمنحرف شرعي؟
- ما الصفات الخاصة بهذا الشكل من الانحراف[3]؟
- ما تفسير عدم الانسجام بين تجربة المرض وسلوك المريض؟ ما سر اختلاف سلوك المرضى تجاه نفس الأعراض؟ لماذا بعض الأشخاص يصرحون بمرضهم خلافا للبعض الآخر؟ لماذا البعض يستشير الطبيب والبعض لا يرغب في ذلك[4]؟
- كيف يتحمل الناس المرض وبمساعدة من يختارون شكلا من العلاج دون غيره؟ وردود فعلهم أمام نصائح وأوامر الطبيب؟
للإجابة عن هذه التساؤلات انطلق من دراسة العلاقة بين الطبيب / والمريض. والتي تؤسس لتقييم العمل الصحي في الثقافة الغربية الحديثة[5]، لينحت بذلك مفهوما يعتبر محور دراسته إنه مفهوم الدور "دور المريض". الذي اعتبره مفتاحا لدراسة مجموعة الانتظارات والضوابط السوسيو ثقافية، التي تم تطويرها اجتماعيا من أجل التحكم في نتائج فك الاندماج بين المريض والمجتمع. فدور المريض يعطي شرعية اجتماعية للانحراف والخلل[6]الناتج عن المرض.
ويقوم المجتمع بالحفاظ على صحة أفراده من خلال التقليل من الإصابة بالمرض الذي يعتبر حالة من الانحراف[7] و الاضطراب في السير العادي للإنسان في كليته، كنسق بيولوجي وكسيرورة للضوابط الشخصية والاجتماعية، ومن هنا يظهر الطب كمؤسسة هدفها مواجهة تهديد المرض وتحقيق الاستقرار الاجتماعي عن طريق معالجة المرضى داخل مؤسسات طبية باعتبار أن الممارسة الطبية هي ميكانيزم لوضع أفراد المجتمع في حالة مقاومة للمرض التي تتضمن مجموعة من الأدوار المؤسساتية وتنتظم حول المعرفة العلمية المطبقة على المرض والصحة[8]. هنا قام بارسونز بتحديد النماذج التنظيمية التي يخلقها البناء الاجتماعي لسلوك المريض والطبيب، انطلاقا من السياق المحدد لوظائف المرض والطب في إطار النسق الاجتماعي، ويتميز هذا النموذج المحدد للعلاقة مريض / طبيب بأنه لا متناسق بكون الطبيب يستطيع حل مشكلة المريض أي أنه فاعل في العملية العلاجية أما المريض فيعتبر دوره سلبي أي غير فاعل في العملية العلاجية. أما التوافق الذي يميز هذا النموذج فيرجع لكون المريض يعترف بسلطة الطبيب ولكون العلاقة العلاجية تقوم على تبادل قوي، فهي توصف بزوج من الأدوار المتوقعة والمتكاملة بين دور المريض ودور الطبيب[9]فالأول يسعى للعلاج، والثاني يمنح العلاج. لهذا فإن اعتماد مفهوم "دور المريض" المحدد وفقا لشروط اجتماعية يضمن للمريض حقوقا ويلزمه بواجبات.
1- حقوق المريض:
- الإعفاء من المسؤولية: باعتبار أن دور المريض يعتبر دورا مكتسبا وليس فطريا. فالمريض لا يعتبر مسؤولا أخلاقيا عن وضعه كمريض.
- الإعفاء من الواجبات: إنه الحق الاجتماعي الثاني الذي يؤكد عليه بارسونز، فالمريض غير مطالب بأداء الواجبات المرتبطة بدوره العادي واليومي. مع ضرورة الأخذ بعين الاعتبار حالات الأمراض المزمنة، وبعض الحالات التي لا يستطيع فيها المرضى التخلي عن لعب أدوارهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كأصحاب المهن الحرة أو المشتغلين بالحقل السياسي[10].
- الحق في المساعدة: يتمثل هذا الحق حسب بارسونز في توفير أطر تقنية كفأ ومؤسسات للاستقبال قريبة من السكان، وهو ما يدل على حق كل مريض – بما فيهم الفقراء- في العلاج والتوازن النفسي والدعم المالي.
2- واجبات المريض تجاه المجتمع:
- قبول المرض: بمعنى أن المريض مطالب بالاعتراف بالمرض، وما ينتج عنه من أثر على المستوى الاجتماعي والاقتصادي: أي تحمل آلام المرض، الاعتراف بحالة التبعية التي ينبغي أن يخضع لها اتجاه من يعالجه والخضوع لأوامره. ينضاف إلى ذلك القبول بواقع التنازل عن وظائفه الاجتماعية ووضعه وواجباته التي تسلبه مكانته داخل المجتمع، والعيش في عزلة ليواجه بمفرده مخاوف مرضه داخل المستشفى.
- إرادة العلاج: انطلاقا من الاعتراف المجتمعي والمؤسساتي بحالته ودوره كمريض، فإن هدفه الأساسي يجب أن يتمثل في التوجه إلى طلب الشفاء عن طريق البحث عن مساعدة كفأة وإتباع نصائح وتوجيهات المختصين في المجال.
- المشاركة في العلاجات: ونرجع هذه النقطة إلى رغبة المريض في العلاج وهو بذلك يبدي استعدادا أكبر في التعاون مع الهيئة الطبية وإن كانت العلاجات قاسية. وهناك فئة أخرى ترفض العلاج بدعوى عدم فعالية العلاجات التي يتلقونها، والمشاكل المادية التي تنتج عن العلاج على المحيطين به، كما يمكن أن تتدخل عوامل أخرى في عدم المشاركة في العلاج ذات طبيعة نفسية أو ثقافية.
دور الطبيب: يتجلى دور الطبيب في كونه مسؤولا عن وضعية المريض. ويرى بارسونز أن تنظيم هذا الدور يقوم على الخصوصية الوظيفية، والحياد العاطفي والتوجيه نحو الجماعة[11]. باعتبار أن العمل الطبي الحديث يهدف لتطبيق المعرفة العلمية من طرف أشخاص مؤهلين ومكونين تقنيا، ويمكن تلخيص العناصر المميزة لهذا الدور فيما يلي:
- علاقة الطبيب بالمريض لا تقوم على الروابط الشخصية ولكن على قواعد مجردة ترجع للكفاءة التقنية للطبيب، فالطبيب يجب أن يتميز بالحياد العاطفي رغم إطلاعه على الخصوصية الشخصية والنفسية للمريض.
- يتميز دور الطبيب بالبحث عن راحة المريض قبل كل شيء عكس المهن الأخرى وهو يتميز بالعالمية والخصوصية الوظيفية[12]، وما يمكن تمييزه أنه لا يمكن الفصل بين النموذج البارسونزي لدراسة الممارسة الطبية ونموذجه النظري العام إذ أنه يشير إلى تأسيس أدوار المريض والطبيب مرتبطة بتحقيق التوازن في الدوافع المتعلقة بالصحة أو بمجالات أوسع أي تحليل الدافع في علاقاته مع السيرورات الاجتماعية[13].
ما يمكن استنتاجه من نظرية بارسونز هو اعتبار المرض سلوكا اجتماعيا منحرفا واعتبار دور المريض ميكانيزما لتقنين الانحراف، ولتفادي الانحراف ينبغي عزل المريض عن المجتمع ووضعه في مؤسسات صحية لتحقيق الضبط الاجتماعي والاستقرار وتحقيق العلاج للمرضى.
رغم النقلة العلمية التي أحدثها بارسونز من خلال نموذجه لدراسة الدور الاجتماعي للمريض والطبيب، فقد وجهت له انتقادات تتمثل فيما يلي:
محدودية الطرح الذي قدمه بارسونز لأنه درس نموذجا واحدا من العلاقات بين الطبيب والمريض هو نموذج المرضى المصابين بالأمراض التعفنية مع ظهور المضاد الحيوي: لكن في عصرنا أصبحت الأمراض المزمنة أكثر انتشارا من الأمراض الحادة[14] وأهداف العلاقة بين الطبيب والمريض في حالة الأمراض المزمنة تتغير من البحث عن الشفاء إلى تدبير المرض، مما يجعل العديد من المرضى يحافظون على اندماجهم الاجتماعي، على الرغم من أن المرض لا يمثل تهديدا لسير المجتمع[15]، كما أنه لا يعني إعفاء المريض من المسؤوليات فدور المريض المزمن يمتد لمجمل مجالات الحياة الاجتماعية (مهنية – أسرية). كما أن مسؤولياته ليست متروكة ومؤقتة بل يتم حولها تفاعل وتفاوض مستمر يتطلب سلسلة من النشاطات الخاصة[16].
ويؤخذ عليه أنه اعتبر المريض سلبيا داخل العملية العلاجية يخضع لسلطة الطبيب وأبعد الأسرة كمجال أساسي للمرض وفاعل فيه... كما أهمل نظرية الصراع الاجتماعي داخل النظام الاجتماعي.
لكن بالرغم من هذه الانتقادات الموجهة للطرح البارسونزي فإن بعض الباحثين لا زالوا يعتمدون على هذا التصور في دراساتهم السوسيولوجية عن الصحة والمرض. وهو ما أكده إيريك كانيون (E. Gagnon) إذ يرى أن الصحة هي الاستقلالية، ثم يخلص إلى أن تمتع الفرد بالصحة يعني امتلاكه لقدرته الكاملة على المشاركة في الحياة الاجتماعية، وعلى لعب أدواره فيها، أي القدرة على الاندماج[17]ومن ثم يصبح بمقدوره إعطاء التعريف الإيجابي التالي للصحة: " إن الصحة لم تعد وبالشكل السلبي المطلق انعدام المرض، وإنما هي القدرة على ممارسة أدواره"[18].
2) النموذج الصراعي أو اتجاه التفاعل الاجتماعي: إيليوت فرايدسون:
ظهر هذا الاتجاه في الستينيات من القرن العشرين وينطلق حسب كلودين هرزليش من مقاربة تعتبر الطب منتجا لمقولتي الصحة والمرض باعتبارهما مقولتين اجتماعيتين[19]. وهنا لا ينبغي الخلط بين الواقع العضوي للمرض وبين واقعه الاجتماعي. فالواقع العضوي هو المرض كما يتم بناؤه من طرف الطب والأطباء، فالمعرفة الطبية لا تعمل سوى على تجلية وتوضيح المرض باعتبارها حالة انحراف بيولوجي وذلك بالمقارنة مع حالة سواء مفترض[20].
وفرايدسون يعتبر المرض انحرافا كبارسونز ولكن يتم تقنينه عن طريق الممارسة الطبية لميكانيزم الضبط الاجتماعي، بمعنى أن المرض عبارة عن خلل بيولوجي وفكرة المرض وردود الأفعال تجاهه تعطي لهذا الخلل تعريفا اجتماعيا يحدد مجموعة من الأفعال الاجتماعية[21]، وبالتالي فهو يميز بين المرض كحالة اجتماعية تؤدي إلى تغيرات على مستوى السلوك وتختلف باختلاف الثقافات والمجتمعات، كما أنه حدد مستويين للمرض: الانحراف الأولي والانحراف الثانوي والمرتبطة بردود الأفعال المجتمعية الناجمة عنها على مقياس الشرعية والتي يقسمها فرايدسون إلى ثلاثة أنواع:
- الشرعية المشروطة: ويكون المنحرف المريض معفى من مسؤولياته مؤقتا وله امتيازات بشرط البحث عن المساعدة الضرورية للتخلص من الانحراف "المرض".
- الشرعية غير المشروطة: وهنا يمنح الطابع القائم للانحراف بدون إعفاء المنحرف المريض من مسؤولياته المعتادة والحصول على امتيازات خاصة.
- اللاشرعية: وهو المنحرف المريض مع إعفائه من بعض المسؤوليات المعتادة، بسبب الانحراف المرضي، والذي لا يعتبر مسؤولا عنه. فإنه يتحصل على القليل من الامتيازات مع وجوب القيام ببعض المهام الجديدة والمعقبة للمسار المعتاد للحياة[22].
وهكذا يرى فرايدسون أن الأمر يتعلق في النهاية بمسالك المرضى (Des carrières de malades)[23]، ذلك أن كل التفاعلات بين الطبيب والمريض ينتظمها التنافر الحاصل على مستوى الأهداف، لأن العلاقة القائمة بينهما مرتبطة ارتباطا وثيقا بانتمائهما إلى أنساق ثقافية مختلفة، فالطبيب ينتمي إلى مرجع علمي وكوني والمريض ينتمي إلى نسق مرجعي عامي ومحلي[24]، بمعنى أن علاقة الطبيب والمريض ليست علاقة توافقية Consensuelle، لأنها تحدث بعض الصراعات المتمثلة فيما يلي:
1- التعارض فيما يخص الثقافة المهيمنة والثقافة التقليدية، حيث إن الطبيب أدرى بحاجيات المريض من خلال التكوين الذي تلقاه وتجاربه السابقة، أما المريض فبمجرد استشارة أولى للطبيب تتكون لديه فكرة مسبقة حول العلاج من خلال ثقافته التقليدية.
2- التعارض حول منطق العلاج واحترام الحياة اليومية للمريض من خلال التشخيص والوصفات العلاجية، فالمعالج له منطق آخر هو رعاية صحة المريض مع احترامه لحاجياته اليومية.
3- الاستقلالية المهنية: صراع حول السلطة، من يقرر الطبيب أم المريض؟
إن الأطباء في صراع دائم ومستمر من أجل الحفاظ على سلطتهم، أما المرضى فلهم الحق فقط في الاستماع لنصائح الطبيب، فنحن إذن لسنا أمام نموذج توافقي وإنما داخل نموذج صراعي، فبالنسبة لفرايدسون فالكفاءة العلمية والتقنية لا تعطينا الحق في أن نصدر حكما أخلاقيا حول المرضى وتفسيراتهم للمرض، فهم يعلمون بأن الطبيب ملتزم أخلاقيا ويقوم ب:
- الواجب الطبي وأن يكون ذا نفوذ ويعمل على تقديم النصائح للمرضى لاكتساب قدراتهم الذاتية.
- التطبيب والمكانة الكبيرة للمعرفة الطبية داخل المجتمع.
ومنه فدور الطبيب الاجتماعي يتضمن سلسلة كاملة من الصراعات والتوترات وهي كالآتي[25]:
1- الصراع الذي يجب على الطبيب أن يحسمه بين مصالح أي مريض سواء كان فردا أم جماعة.
2- الحاجة إلى توزيع الموارد التي يندر توفرها (الوقت، المهارة، المواد)، فإذا كان لدى الأطباء من هذه الموارد كمية أقل مما يحتاجه كل المرضى، فيجب اختيار المرضى الذين هم في أشد الحاجة للموارد.
3- موازنة مصالح المريض في أي فترة من الوقت مع مصلحة نفس المريض في المستقبل، بحيث يبدو أن هناك اتفاقا ضمنيا صامتا بين الأطباء والمرضى، بأن لا تتم مواجهة الموقف الحقيقي أو مصارحة المريض بحقيقة مرضه كالأمراض المزمنة مثلا.
4- الصراع بين اهتمامه بمصالح المريض في مقابل اهتمامه بأسرة المريض.
5- المواقف التي يعجز فيها الطبيب عن مساعدة المريض فيرتفع إلى مستوى رأيه الخاص كمعالج. فيحدث الصراع لأن المريض يطلب نوعا من الرعاية لا يستطيع الطبيب أن يقدمها،ويكون بذلك اختلاف في المعايير والثقافات التي ينتمي إليها الطبيب والمريض معا مما يؤثر على جودة علاقاتهما[26].
وهناك صراعات أخرى في دور الطبيب – صراع بين مصالح الطبيب ومصالح المريض- وهو صراع بين هذا الدور وبقية الأدوار التي قد يلعبها الشخص في حياته. إلا أن الطبيب يستمد سلطته من المكانة الخاصة التي تعطى له من الدولة[27]. ومنه فنظرية التفاعل الاجتماعي عند فرايدسون لا تكمن في علاقة صراع بين شخصين طبيب-مريض أو بين وظيفتين وظيفة العلاج ووظيفة تلقي العلاج، ولكن تعتبر علاقة صراع بين ثقافتين: ثقافة عامية وثقافة عالمة أو علمية، مما ينجم عنه صراع بين منظومتين مختلفتين، المنظومة الطبية والمنظومة العامية.
لكن رغم ما قدمه فرايدسون من جديد لعلم اجتماع الصحة وخصوصا كيف يؤثر الزبون على الممارسة الطبية، فقد وجهت له انتقادات تتجلى في كونه درس فقط البعد الاجتماعي للتجربة المرضية وذلك من خلال السيرورة التي تحدد اللجوء إلى الطبيب.
وكذلك لكون دراسته هذه أقيمت أثناء انتشار الأمراض الحادة في مجتمعات كثيرة مما جعل دراسته للصحة والمرض تتميز بالمركزية، وهو بذلك مثله مثل بارسونز إلا أن هذا الأخير اعتبر أن المرض انحراف يشكل خللا وظيفيا ولا يمكن ضبطه إلا من خلال الطب، وفرايدسون ارتكز على الطب كصفة لها استقلالية مطلقة في خلق الانحراف إذ لا يمكن التفكير في وجود المرض اجتماعيا إلا في علاقته مع الطب[28].
3) النموذج التفاوضي ومسار المرض: أنسليم ستراوس:
انتقل بعد ذلك البحث حول الأمراض المزمنة، حيث نجد أنسليم ستراوس Anselm Stauss من الأوائل الذين قاموا بدراسات في هذا الميدان في إطار التفاعلية الرمزية الذي ظهر في الخمسينات في الولايات المتحدة الأمريكية بجامعة شيكاغو، بنى تصوره للتجربة المرضية انطلاقا من التفاعل الحاصل بين مستوى الفعل الفردي، والسيرورات الاجتماعية الصغيرة والمستوى الماكرو اجتماعي البنائي المؤثرة على ظروف الفعل[29]. إن ستراوس رفض تقسيم العمل السوسيولوجي بين الصياغة المنطقية والاستنباطية لنظريات منفصلة عن الوقائع من جهة، وبين التحقق من هذه النظريات من جهة أخرى[30]، كما أنه يرى أن هناك تداخلا بين العمل الأمبريقي- الميداني من جهة والعمل النظري من جهة أخرى. وقد درس ستراوس عدة أوجه للفعل من أهمها فعل التفاوض[31]في جميع أشكال النظام الاجتماعي، والفعل برأيه مرتبط بتأثير التكنولوجيا الجديدة والأمراض المزمنة على العمل الطبي ويأتي الفعل عند ستراوس دائما متبوعا بالمحيط الثنائي أو السياق النهائي[32].
وركز ستراوس في: "الشبكة التفاوضية Le Trame de négociation" على النظام التفاوضي[33]، مستخلصا هذه الفكرة من خلال اهتمامه بموضوع الطب والمرض في دراسته مع مجموعة من الباحثين 1957 للأمراض العقلية ومؤمنا بفكرة أساسية مفادها أن التنظيمات هي أنساق التفاوض الدائم وهذا ما يمثل القاعدة المركزية لنظرية ستراوس حيث أن النظام الاجتماعي هو نظام يقوم على تفاوض مستمر يتفاعل فيه الأفراد مع الشروط البنائية لهذا النظام. ومن خلال هذه النظرية يلعب الأفراد دورا فعالا وواعيا في التنظيمات وفي وضع شكل النظام الاجتماعي[34]. هذا التفاوض هو إذن شكل لتنظيم وضبط العلاقات الاجتماعية، وفي هذا الصدد تقدم ستراوس في مجال دراسة الأمراض المزمنة والتي تحمل خصائص تميزها عن الأمراض الحادة باقتراح مرجعي يتجاوز البعد الطبي للتجربة المرضية إلى البعد الاجتماعي[35]، حيث يعطي نظرة واضحة للمشاكل الاجتماعية والنفسية التي يواجهها المريض وأسرته في الحياة اليومية[36]، فهو لا يعتبر المرض كظاهرة بيولوجية فقط، وإنما كظاهرة اجتماعية وهذا يظهر من خلال تدبير المرض وهو يرى وفق هذا الاتجاه أن المريض والطبيب ليسا وحدهما الفاعلين في تدبير المرض وإنما هناك فاعلون آخرون في هذه العملية (الأسرة، زملاء العمل، المساعدات الاجتماعيات...)، ومن هنا تظهر أهمية تدبير المرض في أطروحة ستراوس كونه قدم إطارا عاما يتعدى الدراسات والأبحاث السوسيولوجية الخاصة بالأمراض المزمنة المختلفة والذي يستعمل في مختلف الوضعيات التي تخلقها الأمراض المزمنة باختلافها وباختلاف الفاعلين فيها.
وقد أشارت الباحثة بازنجيه في نقدها لنموذج النظام التفاوضي في دراسة الأمراض المزمنة، إلى كونه لا يسمح بإعادة تشكيل ميكانيزمات الواقع الاجتماعي، بل تبنى الآثار على مستوى المريض، ولا تعالج التفاعلات الحقيقية التي يشارك فيها الفاعلين غير المرضى في تدبير العلاج. وأن إيجاد التوازن بين الحالة السوية، والحالة غير السوية في الحياة لا يمكن قراءتها فقط من خلال تجربة المريض، ولكنها تبنى اجتماعيا من تفاوضات متكررة وفي أمكنة متعددة[37].
4) نموذج البناء الاجتماعي: إيزابيل بازنجيه:
جعلت بازنجيه من نظرية البناء الاجتماعي حول الأمراض المزمنة منطلقا أساسيا لدراستها، حيث حاولت تطوير نظرية فرايدسون حول البناء الاجتماعي للمرض والمريض، وانطلقت بذلك من سؤال أساسي مفاده: هل بالفعل الطبيب هو الفاعل الواحد والوحيد في الممارسة الطبية أو أن المريض يشاركه فيها؟
وفي دراستها هذه انطلقت بازنجيه من تذكير أولي تشير فيه إلى أنه: "بعد السيطرة على الأمراض المزمنة المعدية والجرثومية فإن البلدان الصناعية تعرف اليوم تحولا في مشهدها الباتولوجي، ذلك أن أمراض القلب والشرايين (...)، أصبحت اليوم هي المشاكل الصحية الأكثر تأثيرا على الجماعة. إن الأمراض المزمنة تشكل من الآن فصاعدا الأمراض المهيمنة في مجتمعاتنا"[38]
فحسب بازنجيه فالأمراض الحادة يمكن القول معها بأن المريض يمكن أن يخضع للطبيب ولا يشاركه في العلاج، فالطبيب هنا يقوم بأهم الوظائف التي تتطلبها الممارسة الطبية بدءا من التشخيص وانتهاء بالشفاء، ويكون دور المريض ضعيفا أما الطبيب فتكون له السلطة الكاملة، عكس الأمراض المزمنة والتي تتميز بكونها أكثر اجتماعية فالمعرفة الطبية المتاحة والشك الذي يصاحبها جعلا منها أمراضا غير قابلة للشفاء[39].
وتشترك الأمراض المزمنة في سمتين اثنتين حسب بازنجيه هما:
- مدة المرض والتي تطول بطول عمر الإنسان.
- تدبير المرض: وهذا التدبير لا يقتصر على العمل الطبي فقط أو على تكييف العلاج بالنسبة للمريض، وإنما يتسع ليمتد إلى جميع نواحي الحياة الاجتماعية، ولمدة زمنية غير محدودة.
إذن فالأمراض المزمنة تشكل خصوصية في التعامل معها من قبل الطبيب والمريض ذلك أن علاجها وطريقة التعامل أو التعايش معها يستدعيان القيام بتمرين علاجي ينتهي معه المريض إلى قبول ومعرفة وضعه الصحي والاجتماعي الجديد، وهذا ما يجعل علماء الاجتماع يتحدثون عن إعادة بناء للوضع الاجتماعي، وذلك بالخروج من تناقضات وشكوك الوضع الانتقالي الذي يلي اكتشاف المرض وطبيعته المزمنة.
5) النموذج التأويلي: كلودين هرزليش:
اعتمدت كلودين هرزليش المقاربة التأويلية للمرض والتي تهتم من جهة بالطريقة التي يعطي بها المريض ومحيطه الاجتماعي معنى أو تأويلا للمرض، ومن جهة أخرى كيف أن هذا المعنى يمكن أن يكون له تأثير على سلوك الأفراد[40]. بمعنى أنها اعتمدت على مفهوم التمثلات، أي تمثل المرض وأسبابه من طرف المريض ومحيطه الاجتماعي والذي يرجع مصدرية مرضه لمجموعة من الأسباب تؤثر عليها تنشئته الاجتماعية والثقافية، لتنتج عنها مجموعة من الممارسات والسلوكات العلاجية.
وقد لاحظت هرزليش أنه بواسطة الصحة أو المرض يستطيع الإنسان أن يندمج أو لا يندمج في المجتمع، وهنا التقت مع منظور بارسونز الذي يرى أن الصحة شرط أساسي لسير النسق الاجتماعي وأن المرض هو شكل من أشكال الانحراف الذي يرجع إلى ضغط المجتمع على الفرد[41]. بمعنى وجود صراع بين المريض والطبيب وهو صراع خاص بالتمثلات الاجتماعية لكل من الطبيب والمريض فيما يخص المرض والعلاج وليس صراعا في الوظائف، وهذا ما أكدته من خلال دراستها للمعايير والتأويلات التي يستوجبها السلوك الفعلي، واستنتجت أنه غالبا ما نجد أنفسنا أمام ثلاثة أنواع من التمثلات للمرض هي:
- المرض كهدم: وهذا التمثل يكون: " غالبا لدى الأشخاص الذين يعتبرون أنفسهم نشيطين وملتزمين وجادين في مشاركتهم في المجتمع. حيث يشعر الشخص المريض بعدم نشاطه، والتخلي عن دوره هو شيء مفروض عليه، كعنف موجه ضده"[42]. بمعنى أن المريض يعتبر مرضه سببا في تخليه عن دوره المهني والعائلي، وإقصائه من الجماعة.
- المرض كتحرر: يعتبر هذا التمثل كسابقه (المرض كهدم)، لكن هنا المريض يحس بالتخفيف من عبء العمل والتخلص من الوظائف التي يقوم بها يوميا. وهنا يمكن وصف شخصية المريض في ثلاثة اتجاهات[43]:
· المريض يتحرر من واجباته الاجتماعية.
· المرض قد يساعد على تغيير شخصية المريض في اتجاه إيجابي على عكس التصور السائد مع "المرض كهدم".
· للمريض شخصية استثنائية تنتج عن التجربة الاستثنائية للمرض.
- المرض كمهنة: حيث يتحمل المريض المرض ويفرض سلطته عليه، فتصبح وظيفة المريض هي مقاومة المرض.
ومنه فهذا الاتجاه حول التمثل الاجتماعي والمعرفة للمرضى يعكس طريقة عيش وتفكير الأفراد حول موضوع الصحة والمرض، وبالتالي هناك ثلاثة مستويات للتمثل:
1)- مستوى المعنى: التصور الاجتماعي للمرض، حيث سندرس الدلالة الاجتماعية التي يعطيها الأفراد لهذا المرض.
2)- مستوى التصور السببي للإصابة بالمرض: والتي تعكس مستوى التفكير والاعتقاد الذي يحمله الأفراد حول أسباب الإصابة بالمرض.
3)- مستوى السلوك المرافق لظهور الأعراض: والتي تعكس مستوى ردود الفعل المرافقة لظهور أعراض المرض من خلال توجه الأفراد نحو طلب الخدمة الطبية من عدمها والعوامل المتسببة في ذلك السلوك.
6) نموذج التفاعل الاستراتيجي: إيفين كوفمان:
يقدم كوفمان نموذجا آخر للعلاقات الاجتماعية بين الأطباء والمرضى ويسميه "التفاعل الاستراتيجي"، هذا النموذج يسمح بالتعمق في العلاقات التي تحدث بين الأطباء والمرضى، وهو يعتقد أن هذه العلاقات قد تسبب الإحباط لكلا الطرفين إذا افترض كل منهما أن الآخر (الطبيب أو المريض) سوف يتعامل بشكل لائق.
إن نموذج كوفمان الموقف التفاعلي (استشارة الطبيب) كنوع من المناورة يحاول فيها الأفراد الوصول إلى الحد الأقصى من المكافأة والثواب، ويمكن للأفراد الوصول بالمكافآت إلى الحد الأقصى عن طريق التصرف بأسلوب هادف وتقدير الموقف بطرق مختلفة. فهناك دائما حاجة إلى تقدير مدى ثبات كل من الطرفين بمعنى آخر إلى أي مدى يرغب الفرد في المضي قدما في هذه العلاقة؟ وما الذي يرغب في تحمله أو لا يرغب؟ وإلى متى يستطيع التحمل أو المثابرة؟ وهناك أيضا القدرة على تقدير كل النتائج المحتملة والقدرة على السلوك بالطريقة التي يتطلبها الحكم على المواقف، وأخيرا هناك تقدير التكامل أي مدى استعدادهما للبقاء مخلصين لمصالح كل منهما المتفق عليها بمجرد الاتفاق على العلاج.
يمكن اعتبار أن هذا المنظور له علاقة وثيقة بالأطباء، وذلك كأن يدرك الطبيب المصطلحات غير العلمية التي يستخدمها المريض وأسلوبه في عرض مشاكله ومقدار الثبات الذي يمتلكه وموارده، ومثل هذه التقديرات قد لا يضعها الطبيب في اعتباره، على عكس المرضى يفعلون ذلك.
وقد استعمل كوفمان مفهوما آخر في التعامل مع الأمراض (الأمراض العقلية)، وهو مفهوم تجربة المريض في تدبير مرضه « carrière du malade »، حيث كان يستعمل هذا المفهوم في سوسيولوجيا العمل، فنقله كوفمان عنها واستعمله في مجال الأمراض العقلية[44]، فهو يعتقد أن هذه الفكرة مثيرة للاهتمام لأنها تشير إلى أدق التفاصيل الشخصية للمريض، وإلى هويته وطريقته في الحياة، ولكنها أيضا تحدد موقعه داخل الحقل الاجتماعي.
وحسب دانييل كاريكابوري Danièle Carricaburu، يمكن نقل مفهوم تجربة المريض مع مرضه إلى مجال الأمراض المزمنة، حين قالت بأن: " التجربة تبدأ بثلاثة مراحل: قبل، أثناء، وبعد الاستشفاء"[45]. لكن كوفمان لا يهتم بما يحصل بع الاستشفاء، بل ركز على تجربة المريض قبل طلب الخدمة الطبية وأثنائها.
غير أن هذه المراحل الثلاث لا يمكن تعميمها على جميع الأمراض. لذلك يجب اعتبارها فئات تحليلية وليست فئات وصفية، لأن كل مرحلة يجب تحليلها انطلاقا من الأدوات الموجودة والمتوفرة. لأن فكرة التدبير تبدأ من تحليل أسباب طلب الخدمة الطبية والتعرف مع الطبيب على هوية الأمراض.
- المحور الخامس: العلاقة بين الثقافة والمرض
الثقافة والصحة والمرض، أية علاقة؟:
توصلت العديد من الدراسات والأبحاث الأكاديمية أنه: "توجد علاقة وثيقة بين الصحة، المرض والنسق الثقافي و الاجتماعي لأي مجتمع كان، وهذا الاهتمام العلمي يقع على عاتق الأنثروبولوجيين وعلماء الاجتماع من خلال دراستهم لهذه العلاقة، وكذا تحديد الإمكانيات المختلفة و المتوفرة، ودراسة الأحوال الصحية والمستوى التعليمي السائد، وكل هذا يندرج تحت مسمى المعادلة الثقافية للطب والصحة والمرض ضمن الحياة الاجتماعية" . من خلال ما سبق ندرك أن البحث في علاقة الصحة والمرض بالنسق الثقافي، هي مسؤولية علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا.
ولقد عملت بعض الفروع العلمية كالطب الاجتماعي، والأنثربولوجيا الطبية، على البحث في علاقة الصحة بالدائرة الاجتماعية، ومدى الأثر المتبادل بينهما، وكذلك تأثير المستوى التكنولوجي، والمعتقدات، والقيم، والأعراف على الصحة العامة. وفي إطار هذه العلاقة ركز الكثير من الباحثين في هذا المجال على دراسة عنصرين أساسيين هما: "اعتبار الإطار الاجتماعي والثقافي كمرآة صادقة تعكس طريقة وأساليب عيش الأفراد، ونظامهم الغذائي، ومستواهم التكنولوجي، أما الثاني فهو اعتبار الصحة العامة نشاط سوسيوثقافي يساعد الأفراد على القيام بأدوارهم ضمن البناء الاجتماعي العام" . ولذلك كان لزاما الأخذ بعين الاعتبار العوامل الثقافية الخاصة بكل مجتمع خاصة تلك المجتمعات التي تؤمن بطرق وأساليب العلاج الشعبي التقليدي .
" فالعلاقة بين الثقافة، الصحة والمرض هي علاقة متينة، ذلك أن القيم الثقافية المتصلة بتنظيم الحياة الأسرية وأساليب العمل وكذلك بين الأطر الثقافية والجوانب الصحية، ذات تأثير متبادل بين الحالة الصحية والمنظومة القيمية السائدة في المجتمع. وقد تتعدد الأنماط الثقافية، وتختلف مكونات المنظومة القيمية داخل المجتمع الواحد" . وهو ما أكدته دراسات أنثروبولوجية حول أهمية العوامل الثقافية في الصحة والمرض والوفاة، كما أثبتت هذه الدراسات وجود تباين ثقافي في التعبير عن الألم وتفسير أعراض المرض والتجاوب معه. فالثقافة مثلا : "عند جماعات البحر الأبيض المتوسط تقدم تفسيرا للمرض، ولأسبابه وعلاجه، تتعارض مع التفسيرات العلمية للأمراض، وتتناقض مع وسائل العلاج الطبي الحديث" .
إن ما يمكن تسميته بالترسانة القيمية الثقافية، تلعب دورا كبيرا في تفسير المرض ومسبباته، وتحدد بعد ذلك طرق العلاج هل تقتضي العلاج الرسمي أم الاكتفاء بالوصفات العلاجية التقليدية.
وفي هذا السياق كان لبعض الأنثروبولوجيين دراسات حول علاقة الدين والقيم الثقافية بالممارسات الصحية، وقاموا بدراسة وتحليل الطقوس الخاصة بالميلاد ، وطقوس الموت وتحليل تصورات الأفراد وقناعاتهم بما لهذه الطقوس من فوائد ووظائف الحماية والوقاية، كما اهتموا كذلك بتأثير القيم على الصحة، ومدى تأثير العادات والأنظمة الثقافية المتعلقة بالغذاء والأكل، إضافة إلى ما يحدثه التغير الثقافي من تأثيرات على الحياة الصحية .
فالدين يلعب دورا هاما ويؤثر في: " صناعة تمثلات الفرد لقضايا الصحة والمرض، وطرق العلاج، ومن خلال المعتقد الديني يستطيع الفرد أن يعطي تعريفا للصحة والمرض، ويحدد آليات العلاج المتبعة في حالات المرض، فقد يكون العلاج نفسيا، أو إرشاد إلى الاستفادة من الطبيعة، كما قد يكون العلاج في إقامة مجموعة من الطقوس، وغالبا ما تكون العلاقة جد وثيقة بين السلامة الصحية من المرض والمقدس" .
وما يمكن قوله في هذا الصدد أن هناك بعض المجتمعات وبسبب المعتقد الديني تمنع المرأة من الذهاب للمستشفى بدعوى عدم وجود طبيبات بل وجود أطباء، ولا يجوز لرجل غريب الكشف على المرأة. وفي هذه المجتمعات تكثر الوفيات خصوصا في صفوف النساء الحوامل. وفي الهند مثلا يمنع أكل لحوم الأبقار وشرب لبنها، فلا يستفاد من البروتينات وتكثر أمراض مثل الهزال وغيرها خاصة بين صفوف الأطفال، كما أنه وبسبب المعتقد الديني لا يؤخذ الدواء في بعض المجتمعات بدعوى أنه من صنع الإفرنجة فهو حرام.
وبالتالي يتضح أن علاقة الثالوث (صحة، مرض، وثقافة) هي علاقة وطيدة ومتجذرة في القدم، ذلك أن الثقافة تؤثر على الصحة والمرض، فهي إما تبعد الإنسان عن المرض أو تقربه منه. فالثقافة تضم العادات والتقاليد والممارسات، فالعادات كما ورد في بعض القواميس هي: "نمط سلوكي تعده الجماعة الاجتماعية صحيحا وطبيا، وذلك بسبب مطابقته للتراث الثقافي القائم ، والذي غالبا ما يعتمد على الطب الشعبي بمختلف أنواعه، وفي حالة تطور المرض واستفحاله قد يلجأ إلى الطب الرسمي لكن دون اتباع إرشادات الطبيب أو المزاوجة بين الطب الشعبي والطب الرسمي، بمعنى ثنائية تقليدي/حديث، تؤثر على نظرة الأفراد للصحة والمرض في واقع الحياة الاجتماعية، مما يوحي بوجود شبكة من المعاني متعددة ومعقدة حول قضايا الصحة والمرض، قد يؤدي تحليلها حسب بلقاسم بن اسماعيل إلى: "الكشف عن وجود خلاف كبير وجوهري مضمونه وجود صدام أو تضارب بين نمطين من التفكير، نمط ثقافي محلي، وهو نظام تفكير المريض ضمن محيطه الاجتماعي، ونظام آخر يرتكز على النموذج الطبي الرسمي(*)، الذي يعتبر الطبيب المحور الرئيسي أو الأساسي في العملية العلاجية" . هذا يطرح إشكالا بين من يمثل الثقافة العامة « culture savante » ومن يمثل الثقافة الشعبية « culture populaire »، من حيث الفهم والتفهم للأمور الصحية والمرضية، والذي أعطى في بعض الأحيان نوعا من التداخل بينهما من حيث الممارسات والتكفل وذلك راجع للبنيات الاجتماعية التقليدية التي هي في حالة إعادة إنتاج" ، إلا أن امتداد الجماعة في دينها وعرقها، ومعتقداتها وتمثلاتها جعل صمود الثقافة التقليدية يستمر في الحاضر ويمشي بالتوازي مع الثقافة العالمة فتارة يأخذ المريض بهما معا وتارة يفضل إحداهما على الأخرى . فمحاولة احتواء الثقافة التقليدية وعدم أخذها بعين الاعتبار من حيث الفهم وقوة تأثيرها في إطار الثقافة العالمة على مستوى التنظيمات الصحية، أنتج حوار الصم Dialogue des sourds، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الفاعلين الاجتماعيين مثل الطبيب الممثل للثقافة العالمة ، والمنطلق من منطلق الطب الرسمي، والمريض الحامل لثقافة مجتمعه ومخياله الشعبي المتعلق بتمثلاته للمرض والصحة في إطار الكلية الثقافية .
_______
المراجع
[1] Adam (Philip), Herzlich (Claudine). Sociologie de la maladie et de la médecine, Paris; Nathan, 1994, p75.
[2] Claudine Herzlich : Médecine Moderne et Quête de Sens : le mlade signifiant social chapitre 5, Op. cit, p193 .
[3] DRULHE Macel, (la maladie comme Processus dans l’histoire corporelle in acte de table Ronde transformation des modes d’approche de la santé et la maladie aujourd’hui), toulouse
cahier N° 9 Décembre, 1997, P 237.
[4] محمد عبابو، سوسيولوجيا الصحة، دروس الفصل السادس شعبة علم الاجتماع، كلية الآداب ظهر المهراز، السنة الجامعية 2013 – 2014.
[5] Gresson Geneviève, (le travail domistique de la santé analyse sociologie), paris, Harmattan coll. Logiques sociales, 1995, p17.
[6]Parsons Talcoot, Elément pour une sociologie de l’action, Op. cit. p193.
[7] مفهوم المرض كانحراف عند بارسونز مختلف عن أشكال الانحرافات الاجتماعية الأخرى)الإجرام، التشرد، تعاطي المخدرات....( ، لأن المريض لا يعتبر مسؤولا عن وضعه كمريض، خاصة إذا كان يبدل جهدا من أجل العلاج.
[8] Talcot Parsens, op. cit,p p 193-194 .
[9] Adam (Philip), Herzlich (Claudine), Op, cit, p77
[10] عبد الله زارو، مرجع سابق، ص 37.
[11] Parsons (T), Op, cit, p 224 .
[12] Adam (Philip), Herzlich (Claudine), ibid, p, 78.
[13] Ibid, p 249.
[14] محمد عبابو، سوسيولوجيا الصحة، دروس الفصل السادس شعبة علم الاجتماع، مرجع سابق.
[15] Adam (Philip), Herzlich (Claudine), ibid, p79
[16] Gresson Geneviève, Op, cit, p 21
[17] E. Gagnon, l’avénement médical du sujet, in : Sciences sociales et santé, vol. 16, N° 1, mars, 1998, p, 66.
منقول عن مجلة آفاق سوسيولوجية، عبد الرحمن المالكي، محمد اعبابو، النظر السوسيولوجي للصحة والمرض من زاوية التمثلات الاجتماعية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، العدد الأول، 2011، ص، 10.
[18] نفسه.
[19] عبد الرحمن المالكي، محمد عبابو، النظر السوسيولوجي للصحة والمرض من زاوية التمثلات الاجتماعية، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، ظهر المهراز، مجلة آفاق سوسيولوجية، العدد الأول، 2011، ص، 11.
[20] منقول عن: عبد الرحمن المالكي، محمد عبابو، النظر السوسيولوجي للصحة والمرض من زاوية التمثلات الاجتماعية، مرجع سابق، ص 11. C.Herzlich, Op, cit, p 195.
[21] E. Freidson, La profession médicale, traduit par Layotard May (A), Malamoud (C), paris : Payot, 1984, p93.
[22] E. Freidson, Op. cit, p 241.
[23] عبد الرحمن المالكي، محمد عبابو، مرجع سابق، ص12.
[24] محمد عبابو، سوسيولوجيا الممارسة الطبية من منظورات إليوت فرايدسون، مجلة آفاق سوسيولوجية،مرجع سابق، ص85.
[25] E. Freidson, Op. cit, p 244
[26] منقول عن محمد عبابو، سوسيولوجيا الممارسة الطبية من منظور إليوت فرايدسون، ص87. Saunders L .W. (1954).
[27] محمد عبابو، ، مرجع سابق، ص91.
[28] Baszanger (I), Op. cit, p8.
[29] Strauss (A) , la trame de négociation , texte réunis et présenté par Isabelle baszanger, paris,l’hamttan 1992,p 11. 12.
[30] Ibid, p 12.
[31] مفهوم التفاوض Négocier، يدل على التحقق من وجود الآخر أو الاعتراف به، وذلك بإعطائه الكلمة والإنصات إليه ومحاولة إيجاد اتفاق بينك وبينه، وذلك بإعطاء وإقامة أهمية لكل المساهمين والمشاركين، ومن هنا يمكن أن نميز بين صنفين من التفاوض: التفاوض بين أعضاء الرعاية الصحية والتفاوض مع المعالجين بفتح اللام.
[32] Ibid, p 1-61 .
[33] Ibid, p 21.
[34] Ibid, p 21.
[35] دروس الأستاذ محمد عبابو لطلبة ماستر التنمية والتغير الاجتماعي الفصل الرابع، سنة 2008.
[36] Strauss (A), Op. cit, p28.
[37] Baszanger (I), Op. cit, p24.
[38] منقول عن الأستاذين عبد الرحمن المالكي ومحمد عبابو، مرجع سابق، ص 13. Baszanger (I), les maladies chronique et leur ordre négocié, r***e Française.
[39] مرجع سابق، ص 14.
[40] محمد عبابو، مرجع سابق، ص16.
[41] عبد الرحمن المالكي ومحمد عبابو، مرجع سابق، ص31.
[42] نفسه، ص.32.
[43] نفسه، ص35.
[44] Mohammed Ababou, La place importante des notions de carrière et de trajectoire dans l’analyse sociologique de la gestion de la maladie chronique, résumé de la conférence de Mme Danièle Carricaburu 20 Avril 2008, Horizons Sociologique, n° 1, Novembre 2011, p.57.
[45] Mohammed Ababou, op. cit, p.58.