31/10/2025
حديث الجمعة : (( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدي فلنفسه ومن ضل فقل فإنما أنا من المنذرين ))
استئنافا للحديث عما ورد في كتاب الله عز وجل من أحوال وصفات رسوله صلى الله عليه وسلم، سنتعرض في حديث هذه الجمعة بعض ما اشتمل عليه خلقه العظيم من خصال أثنى بها الله تعالى عليه ،ويتعلق الأمر بعبادته وهويته ووظيفته انطلاقا من الآيتين الكريمتين الواحدة والتسعين والثانية والتسعين من سورة النمل التي جاء فيهما : (( إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن فمن اهتدى فلنفسه ومن ضل فإنما أنا من المنذرين ))، ولقد وردت الآيتان في سياق الرد عن إنكار الكافرين للبعث والآخرة في الآيتين الكريمتين التاسعة والستين والسبعين من نفس السورة إذ قال الله تعالى حكاية عنهم : (( وقال الذين كفروا إذا كنا ترابا وآباؤنا أئنا لمخرجون لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين )) ، ويتضمن قولهم هذا استفهاما يتضمن من جهة تحديا لرسول الله صلى الله عليه وسلم كي يثبت لهم وقوع البعث بعد موتهم ، ومن جهة أخرى يتضمن تكذيبا لوقوعه بطريقة ساخرة إذ اعتبروه محض أساطيرالأولين متجاهلين أنه على الصلاة والسلام مبلغ لما يوحى إليه من ربه سبحانه وتعالى لا ينطق عن هوى ، ولا يجيب عن تساؤل من تلقاء نفسه مصداقا لقوله تعالى في الآية الكريمة السادسة من نفس السورة : (( وإنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم )) وقوله تعالى أيضا في الآية الكريمة الواحدة والثمانين من نفس السورة : ((فتوكل على الله إنك على الحق المبين )) .
وردا على تحدي الكافرين جاء جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن استفهامهم بوحي من ربه سبحانه وتعالى أخبرهم فيه بأنه لم يؤمر بشيء مما يبتغون عنده من تعيين أو تحديد لموعد وقوع البعث والنشور ، وجاء ذلك بأسلوب حصر كشف لهم تحديدا عما أُمِر بتبليغه لهم من أمر عبادته وهويته ووظيفته .
أما عبادته فهي توحيد الله تعالى توحيدا خالصا له دون شركاء خلاف ما كان عليه الكفار من شرك إذ عبدوا الأوثان والأصنام وجعلوها آلهة مع الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا . ولقد ورد ذكر توحيد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقترنا بإقرار الربوبية الله سبحانه وتعالى المتمثلة في تشريفه وتعظيمه وتقديسه مكة المكرمة التي اختارها لترفع فيها قواعد بيته المحرم ، وحرم كل ما حوله بمنع اقتراف الظلم أو المنكر فيه أو النيل من صيده أو نباته أو شجره وكل ذلك من تقديس الله سبحانه وتعالى . وإذا كان الخلق يأبون أن تنتهك حرمة بيوتهم فالله تعالى أولى بألا تنتهك حرمة بيته الحرام لكن الكافرين انتهكوها وذلك بنصب أصنامهم وأوثانهم حوله وعبادها زاعمين أنها تقربهم إلى الله زلفى بينما أمروا أن يعبدوا رب البيت وحده سبحانه وتعالى دون شركاء.ولقد تضمن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبادة التوحيد تعريضا بشرك الكافرين .
أما هويته عليه الصلاة والسلام فقد جاء التعبيرعنها باعتزاز مصحوب بتواضع جم في قوله تعالى : (( وأمرت أن أكون من المسلمين )) أي أن أكون واحدا منهم غير متميز عنهم أو مستأثر بالإسلام دونهم ،وهي هوية يُخضع فيها لله تعالى دون غيره تعتبر حافظة لكرامة البشر دون باقي الهويات التي اعتادوا على الانتساب إليها دونما اهتمام بما قد يلحق كرامتهم الإنسانية لكونها هويات تعتمد العصبية والعرقية تتحول إلى ما يسمى بلغة العصر فاشية .وفي تصريح رسول الله صلى الله عليه بهويته الإسلامية الحافظة للكرامة تعريض صريح بهوية الكافرين المُبتذِلة لكرامتهم وهم يعبدون حجارة نحتوها بأيديهم واعتقدوا فيها ما لا يعتقد إلا في الله تعالى من ألوهية وربوبية ، وشتان بين من يدين بالعبودية للخالق سبحانه وتعالى وبين من يدين بها للمخلوقات الحية أو الجامدة .
وأما وظيفته عليه الصلاة والسلام كما جاءت في قوله تعالى : (( وأن أتلو القرآن )) فهي مترتبة عن عبادته وعن هويته . وتلاوته عليه الصلاة والسلام تكفل بها الله تعالى في الآيات الكريمات من السادسة عشرة إلى التاسعة عشرة من سورة القيامة حيث قال جل شأنه مخاطبا رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في بداية نزول الوحي عليه وهو يستعجل استيعابها حفظا وفهما : (( لا تحرك به لسانك لتعجل به إنا علينا جمعه وقرآنه فإذا قرآناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ))، لقد كانت تلاوة متأنية رصينة لا عجلة فيها، يتلقاها عليه الصلاة والسلام مباشرة من الملك الكريم جبريل عليه السلام وهو بدوره قد تلقاها مباشرة عن رب العزة جل جلاله . وكانت تلاوته عليه الصلاة والسلام تلاوة اقتداء متبوعة ببيان من الله سبحانه وتعالى ، وهي التي أهلته للقيام بوظيفة تبليغ رسالة الله عز وجل للعالمين على الوجه الأكمل والأتم إلى قيام الساعة.
ولقد تبرأ الله تعالى وبرأ رسوله من إعراض الكافرين عن هدي القرآن الكريم فقال جل شأنه : (( فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين))، والمؤمنين ملزمون بالاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الأمر يقولون قوله ويفعلون فعله .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو أولا تذكير المؤمنين بصفات رسول الله صلى الله عليه وسلم من خلال الآيات الكريمة المتعلق بموضوع العبادة والهوية والوظيفة ، وثانيا هي دعوتهم إلى التأسي به عليه الصلاة والسلام في كل أحواله إلا ما خصه به الله تعالى دون الخلق . ومن أجل تحقيق العبودية الخالصة لله تعالى يلزم المؤمن الإخلاصه فيها لله تعالى وذلك بتوحيد لا تشوبه شائبة من شرك مهما كان نوعه سواء كان متعمدا ومقصودا أو كان عن جهل وغفلة ، علما بأنه لا يعذر أحد بجهل أو غفلة في توحيد الله تعالى . وما أحوج الأمة المؤمنة اليوم إلى تذكيرها بالاحتراز من الوقوع في شراك أنواع كثير من الشرك قد انتشرت في بلاد الإسلام وهي لا تأبه بها وذلك من قبيل التوجه بالطلب والرجاء إلى المخلوقات بما لا يُتوجّه به من طلب أو رجاء إلا لله تعالى المعطي والمانع، أو القسم بغيره تعالى عن ذلك علوا كبيرا أو التقرب بما يجب أن يتقرب به إليه ... أوغير ذلك من الشركيات الناتجة عن العادات والتي يظنها البعض هينة وهي عند الله عظيمة .
ويلزم كل مؤمن أيضا أن تكون هويته إسلامية أساسا، وأن ترجح كفتها بكفة غير ها من الهويات الترابية والعرقية التي لا تولي اهتمام للانتماء الديني وهو انتماء فصل فيه الله تعالى بقوله تعالى في الآية الكريمة الثالثة عشرة من سورة الحجرات : (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم )) ،ففي هذا القول إشارة إلى نوعين من الهوية ،هوية عرقية ترابية تقتضي التعارف بين الشعوب والقبائل بما تدل عليه لفظة تعارف من تقارب أومن تبادل للمعروف كي تسير الحياة بينهم سيرا طبيعيا حافظا لكرامتهم ، وهوية عقدية قوامها الانتماء إلى دين الإسلام عقيدة وشريعة . وما أحوج الأمة المؤمنة إلى تَشرُّب هويتها الإسلامية في هذا الزمان بالذات الذي يعج بهويات متصارعة رغبة في التسلط والهيمنة وحرصا على عولمتها وفرضها بمنطق القوة والإكراه استعبادا للعباد .
ويلزم كل مؤمن أيضا أن يكون تاليا للقرآن الكريم مقتديا في تلاوة برسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاها مشافهة من حفاظ وقراء حذاق لكتاب الله عز وجل. وكما ينبغي أن تكون تلاوة صحيحة سليمة لابد من الحرص الشديد على معرفة بيان ما يتلى وذلك بالرجوع إلى جهابذة المفسرين لتحقيق غرضين اثنين أولهما التخلق بخلق القرآن الكريم، ذلك أنه لا تخلق به دون استيعاب مضامينه على الوجه الصحيح ،ولا يجب أن يقتصر الأمر على تبليغه باللسان دون تبليغه بالحال وهما أمران متلازمان علما بأن تبليغ الحال أشد تأثيرا في النفوس وأشد إقناعا لها من تبليغ اللسان الذي يختبر ويعرض على محك الحال تماما كما كان تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وتبليغ صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، وتبليغ التابعين وكل أهل الصلاح في كل عصرمن بعدهم رحمة الله عليهم . ومعلوم أن تسديد التبليغ لا يحصل باللسان فقط وإنما يسدد بالحال لأن الناس تقنعهم الأفعال مع الأقوال ، ولا تقنعهم الأقوال وحدها.
اللهم رب البلدة المحرمة إنا نسألك حسن عبادتك بتوحيدك الخالص لك سبحانك ، ونسألك إسلاما يرضيك وترضى به عنا ، ونسألك تلاوة كتابك الكريم على النحو الذي أمرتنا به في محكم تنزيلك ، وجعلت قدوتها وإسوتنا في ذلك رسولك الكريم عليه الصلاة والسلام .
اللهم إن عبادك المؤمنين في أرض الإسراء والمعراج لا زالوا يتعرضون لعدوان الظالمين من أعداء دينك ، اللهم انصرهم عليهم بنصرا من عندك تعزهم به ، وتذل به أعداءك وأعداءهم يا رب العالمين ،وقهم اللهم كيد الكائدين ، وخذلان الخاذلين ، وشماتة الشامتين ، فأنت وليهم فنعم المولى ونعم النصير .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين