26/09/2025
كان زوج أمي يعمل في الفاعل لمدة 25 عامًا، وهو الذي ربّاني حتى أنهيت الدكتوراه، ثم ذُهل مشرفي الرئيسي حين رآه في حفل التخرج.
ذلك اليوم، بعد المناقشة، جاء الدكتور عبد الحميد شرشر ليصافحني ويهنئ عائلتي. وحين وصل إلى “صابر”، توقف فجأة، نظر إليه عن قرب، وتغيرت ملامحه.
ولدتُ في عائلة غير مكتملة. ما إن تعلمت المشي حتى انفصل والداي. أخذتني أمي، “إحسان”، إلى قرية بعيدة في منطقة ريفية فقيرة مليئة بحقول القصب والشمس والرياح والثرثرة. لا أذكر ملامح والدي الحقيقي بوضوح، لكنني أعلم أن سنواتي الأولى كانت تفتقر إلى الكثير ماديًا ومعنويًا.
عندما كنت في الرابعة، تزوجت أمي من جديد. كان الرجل يعمل في الفاعل. جاء إلى حياتها بلا شيء: لا بيت، ولا مال، سوى ظهر نحيل، بشرة محترقة من الشمس، ويدان متشققتان من الأسمنت.
في البداية لم أحبه: كان يغادر باكرًا، يعود متأخرًا، ورائحته دوماً خليط من العرق وغبار البناء. لكنه كان أول من أصلح دراجتي القديمة، وأول من رقّع وخيط لي حذائي الممزق بصمت. حين كنت أُحدث فوضى، لم يكن يوبخني بل ينظف المكان. وعندما تعرضت للتنمر في المدرسة، لم يصرخ في وجهي كما كانت تفعل أمي؛ بل جاء بهدوء بدراجته القديمة ليقلّني. وفي طريق العودة لم يقل سوى جملة واحدة: "لن أجبرك أن تناديني أبًا، لكن اعلم أن ’عمك صابر‘ سيكون دائمًا خلفك إذا احتجت إليه.”
كنت صامتًا. لكن منذ ذلك اليوم صرت أناديه “عم صابر”.
في طفولتي، كانت ذكرياتي عن “عم صابر ” دراجة صدئة، وزيّ عمل مغطى بالغبار، وليالٍ يعود فيها متأخرًا وعيناه غائرتان من التعب ويداه ما تزالان ملطختين بالجير والمونة. مهما بلغ إرهاقه، لم ينسَ أن يسألني: "كيف كان يومك في المدرسة؟”
لم يكن متعلمًا تعليمًا عاليًا، لم يستطع شرح المعادلات الصعبة أو النصوص المعقدة، لكنه كان دائمًا يؤكد: “قد لا تكون الأول في الصف، لكن عليك أن تجتهد. أينما ذهبت، سيحترمك الناس بعلمك.”
أمي كانت فلاحة، وزوجها عامل بناء. كنا نعيش بدخل ضئيل. كنت طالبًا مجتهدًا، لكنني فهمت وضعنا، فلم أجرؤ على الحلم الكبير. حين اجتزت امتحان القبول بجامعة الأزهر، بكت أمي؛ بينما جلس “عم صابر” على الشرفة، ينفث دخان سيجارة رخيصة. وفي اليوم التالي باع دراجته النارية الوحيدة، وبمساعدة مدخرات جدتي، تمكن من إرسالي إلى الجامعة.
يوم أوصلني إلى المدينة، ارتدى قبعة قديمة، وقميصًا مجعدًا، وظهره مبتل بالعرق، ومع ذلك حمل صندوق “هدايا من البلدة”: بضع كيلوغرامات من العسل الأسود، جرة جبن قديم وعدة أكياس من الكشك. وقبل أن يغادر السكن الجامعي، نظر إليّ وقال: "ابذل جهدك يا ولدي. ادرس جيدًا.”
لم أبكِ. لكن حين فتحت غدائي وجدت أسفل الطعام ورقة صغيرة مطوية أربع مرات، مكتوب فيها: “عمك صابر لا يفهم ما تدرسه، لكن أيًا كان ما تدرسه، عمك صابر سيعمل لأجله. لا تقلق.”
درست أربع سنوات في الجامعة، ثم واصلت الدراسات العليا. واصل “عم صابر” العمل. صارت يداه أخشن، وظهره أكثر انحناء. وعندما عدت يومًا للزيارة، رأيته جالسًا عند باب البيت، يلهث بعد يوم شاق من رفع الأحمال، فانكسر قلبي. قلت له أن يرتاح، لكنه لوّح بيده: “عمك صابر ما زال قادرًا. حين أشعر بالتعب، أفكر: أنا أُربي دكتورا فأشعر بالفخر.”
ابتسمت، ولم أجرؤ أن أخبره أن الدكتوراه تعني سنوات أطول من التضحية. لكنه كان السبب الذي جعلني لا أستسلم أبدًا.
في يوم مناقشة رسالتي للدكتوراه في كلية الزراعة جامعة الأزهر ، توسلت لـ”عم صابر” طويلًا حتى وافق على الحضور. استعار بدلة من ابن عمه، واستعار حذاءً أضيق من مقاسه بدرجة وجلس في الصف الأخير من القاعة، يحاول الجلوس باستقامة، عيناه مثبتتان عليّ.
بعد المناقشة، جاء الدكتور عبد الحميد شرشر ليصافحني ويهنئ عائلتي. وعندما وصل إلى “عم صابر”، توقف فجأة، نظر إليه عن قرب، وابتسم: “أنت ’صالح ريان‘، أليس كذلك؟ وأكمل الدكتور شرشر حديثه. لقد كان منزلي بجوار موقع عمارة تحت الإنشاء في اشمون. ما زلت أذكرك يا "صالح ريان" حين حملتَ زميلك المصاب من على السقالة، رغم أنك كنت مجروحًا أنت أيضًا..
لقد أنقذت حياته. ذلك الرجل كان عمي.”
ساد الصمت القاعة. ولحظةً واحدة، تلاشت الألقاب والشهادات والدرجات. لم يكن في صدارة المشهد أنا، بل عم صابر ، أقصد "صالح ريان" الذي حملني، ليس على كتفيه فقط، بل على تضحياته.
قد يرى العالم “عم صابر” مجرد عامل بناء. لكن بالنسبة لي، وللكثيرين الذين مرّوا في طريقه، كان بانيًا لأكثر من مجرد بيوت. لقد بنى الأمان. وبنى الكرامة. وبنى المستقبل.
شهادة الدكتوراه قد تحمل اسمي، لكن كل حرف فيها منقوش بعرق سال من جبينه، وبالشقوق التي حفرت في كفيه، وبالليالي التي عاد فيها مرهقًا ومع ذلك سألني:
“كيف كان يومك في المدرسة؟”
الآباء لا يُعرفون بالدم، بل بالحب. وأحيانًا، يكون الرجل الذي تفوح منه رائحة الإسمنت والغبار، هو نفسه الذي يحملنا طوال الطريق إلى أحلامنا.
…
ترجمة: د إسماعيل عبد المالك