الدعوة إلى الله

الدعوة إلى الله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا

27/10/2025

هَل يَعلَمُ الإنسانُ شَيئًا عَن أحوالِ الدُّنيا بَعدَ موتِه؟

عَن أنسِ بن مالِكٍ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ العَبدَ إذا وُضِعَ في قَبرِه، وتَولَّى عَنه أصحابُه، إنَّه ليَسمَعَ قَرْعَ نِعالِهم... )) .
وعن أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثًا، ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عليهم فَنَادَاهُمْ، فَقالَ: ((يا أَبَا جَهْلِ بنَ هِشَامٍ، يا أُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ، يا عُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، يا شيبَةَ بنَ رَبِيعَةَ؛ أَليسَ قدْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا؟ فإنِّي قدْ وَجَدْتُ ما وَعَدَنِي رَبِّي حَقًّا))، فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، كيفَ يَسْمَعُوا وَأنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا؟ قالَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ ما أَنْتُمْ بأَسْمعَ لِما أَقُولُ منهمْ، وَلَكِنَّهُمْ لا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ))، ثُمَّ أَمَرَ بهِمْ فَسُحِبُوا، فَأُلْقُوا في قَلِيبِ بَدْرٍ .
قال ابنُ تيميَّةَ بَعدَ ذِكرِه النُّصوصَ السَّابقةَ وغَيرَها: (هَذِه النُّصوصُ وأمثالُها تُبَينُ أنَّ المَيتَ يَسمَعُ في الجُملةِ كَلامَ الحَيِّ، ولا يَجِبُ أن يَكونَ السَّمعُ لَه دائِمًا، بَل قَد يَسمَعُ في حالٍ دونَ حالٍ، كَما قَد يَعرِضُ لِلحَيِّ؛ فإنَّه يَسمَعُ أحيانًا خِطابَ مَن يُخاطِبه، وقَد لا يَسمَعُ لِعارِضٍ يَعرِضُ لَهـ) .
وقال أيضًا: (النَّصُّ الصَّحيحُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُقَدَّمٌ على تأويلِ من تأوَّلَ من أصحابِه وغَيرِه، ولَيسَ في القُرآنِ ما يَنفي ذلك؛ فإنَّ قَولَه: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوتَى إنَّما أرادَ به السَّماعَ المُعتادَ الَّذي يَنفَعُ صاحِبَه؛ فإنَّ هَذا مَثَلٌ ضُرِبَ لِلكُفَّارِ، والكُفَّارُ تَسمَعُ الصَّوتَ لَكِنْ لا تَسمَعُ سَماعَ قَبولٍ بفِقهٍ واتِّباعٍ، كَما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة: 171] ، فهَكَذا الموتَى الَّذينَ ضُربَ لَهمُ المِثَلُ لا يَجِبُ أن يُنفى عَنهم جَميعُ السَّماعِ المُعتادِ أنواع السَّماعِ كَما لَم يَنْفِ ذلك عَنِ الكُفَّارِ، بَل قَدِ انتَفى عَنهمُ السَّماعُ المُعتادُ الَّذي يَنتَفِعونَ به، وأمَّا سَماعٌ آخَرُ فلا يُنفى عَنهم.
وقَد ثَبَتَ في الصَّحيحينِ وغَيرِهما أنَّ المَيتَ يَسمَعُ خَفْقَ نِعالِهم إذا ولَّوْا مُدْبِرينَ، فهَذا موافِقٌ لِهَذا، فكَيف يَدفعُ ذلك؟
ومِنَ العُلَماءِ من قال: إنَّ المَيتَ في قَبرِه لا يَسمَعُ ما دامَ مَيِّتًا، كَما قالت عائِشةُ واستَدَلتْ به مِنَ القُرآنِ، وأمَّا إذا أحياه الله فإنَّه يَسمَعُ كَما قال قَتادةُ: أحياهمُ اللهُ لَه. وإن كانَت تِلكَ الحَياةُ لا يَسمَعونَ بها كَما نَحنُ لا نَرَى المَلائِكةَ والجِنَّ، ولا نَعلَمُ ما يُحِسُّ به المَيِّتُ في مَنامِه، وكَما لا يَعلَمُ الإنسانُ ما في قَلبِ الآخَرِ وإن كانَ قَد يَعلَمُ ذلك من أطلَعِه اللهُ عليهـ) .

وقال ابنُ القَيمِ: (قَد شَرعَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وآلِه وسلَّم لِأمَّتِه إذا سَلَّموا على أهلِ القُبورِ أن يُسَلِّموا عليهم سَلامَ مَن يُخاطِبونَه، فيَقولُ المُسلِم: "السَّلامُ عليكُم دارَ قَومٍ مُؤمِنينَ". وهَذا خِطابٌ لِمَن يَسمَعُ ويَعقِلُ، ولَولا ذلك لَكانَ هَذا الخِطابُ بمَنزِلةِ خِطابِ المَعدومِ والجَمادِ. والسَّلَفُ مُجْمعونَ على هَذا، وقَد تَواتَرَتِ الآثارُ عَنهم بأنَّ المَيتَ يَعرِفُ بزيارةِ الحَيِّ لَه ويَستَبشِرُ بهـ) .
قال ابنُ كَثيرٍ: (قَدِ استَدَلَّت أمُّ المُؤمِنينَ عائِشةُ رَضيَ اللهُ عَنها بهَذِه الآيةِ: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى على تَوهيمِ عَبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ في رِوايَتِه مُخاطَبةَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم القَتْلَى الَّذينَ أُلْقُوا في قَليبِ بَدْرٍ بَعدَ ثَلاثةِ أيَّامٍ، ومُعاتَبَتَه إيَّاهم وتَقريعَه لَهم، حَتَّى قال لَه عُمَرُ: يا رَسولَ اللَّهِ، ما تَخاطِبُ مِن قَومٍ قَد جَيَّفوا؟! فقال: ((والَّذي نَفسي بيَدِه، ما أنتَم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم، ولَكِن لا يُجيبونَ)). وتأوَّلَتْه عائِشةُ على أنَّه قال: "إنَّهم الآنَ ليَعلَمونَ أنَّ ما كُنتُ أقولُ لَهم حَقٌّ". وقال قَتادةُ: أحياهمُ الله لَه حَتَّى سَمِعوا مَقالتَه؛ تَقريعًا وتَوبيخًا ونِقمةً. والصَّحيحُ عِندَ العُلَماءِ رِوايةُ ابنِ عُمرَ،… وثَبَتَ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ المَيِّتَ يَسمَعُ قَرعَ نِعالِ المُشَيِّعينَ لَه إذا انصَرَفوا عَنه، وقَد شَرعَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِأمَّتِه إذا سَلَّموا على أهلِ القُبورِ أن يُسَلِّموا عليهم سَلامَ مَن يُخاطِبونَه، فيَقولُ المُسلِّم: السَّلامُ عليكُم دارَ قَومٍ مُؤمِنينَ ، وهَذا خِطابٌ لِمَن يَسمَعُ ويَعقِلُ، ولَولا هَذا الخِطابُ لَكانوا بمَنزِلةِ خِطابِ المَعدومِ والجَمادِ. والسَّلَفُ مُجمِعونَ على هَذا، وقَد تَواتَرَتِ الآثارُ عَنهم بأنَّ المَيتَ يَعرِفُ بزيارةِ الحَيِّ لَه ويَستَبشِرُ، ….وقَد شُرِعَ السَّلامُ على المَوتَى. والسَّلامُ على مَن لَم يَشعُرْ ولا يَعلَمْ بالمُسَلِّم مُحالٌ، وقَد عَلَّمَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمَّتَه إذا رأوا القُبورَ أن يَقولوا: ((سَلامٌ عليكُم أهلَ الدِّيَارِ مِنَ المُؤمِنينَ، وإنَّا إنَّ شاءَ اللهُ بكم لاحِقونَ، يَرحَمُ اللهُ المُستَقدِمينَ مِنَّا ومِنكُم والمُستأخِرينَ، نَسألُ اللهَ لَنا ولَكُمُ العافيةَ )) ، فهَذا السَّلامُ والخِطابُ والنِّداءُ لِمَوجودٍ يَسمَعُ ويُخاطَبُ ويَعقِلُ ويَرُدُّ، وإن لَم يَسمَعِ المُسَلِّمُ الرَّدَّ. واللهُ أعلَمُ) .

وفي مَسألةِ احتِمالِ رُجوعِ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها عَن تأويلِها قال ابنُ حَجَرٍ: (ومِنَ الغَريبِ أنَّ في المَغازي لِابنِ إسحاقِ رِوايةً يونُسَ بنِ بكيرٍ بإسنادٍ جَيِّدٍ عَن عائِشةَ مِثلَ حَديثِ أبي طَلحةَ، وفيه: ((ما أنتُم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم))، وأخرَجُه أحمَدُ بإسنادٍ حَسَنٍ . فإن كانَ مَحفوظًا فكأنَّها رَجَعَت عَنِ الإنكارِ لِما ثَبَتَ عِندَها من رِوايةِ هَؤُلاءِ الصَّحابةِ؛ لِكَونِها لَم تَشهَدِ القِصَّةَ، قال الإسماعيليُّ: كانَ عِندَ عائِشةَ مِنَ الفَهمِ والذَّكاءِ وكَثرةِ الرِّوايةِ والغَوصِ على غَوامِضِ العِلمِ ما لا مَزيدَ عليه، لَكِن لا سَبيلَ إلَى رَدِّ رِوايةِ الثِّقةِ إلَّا بنَصٍّ مِثلِه يَدُلُّ على نَسْخِه أو تَخصيصِه أوِ استِحالَتِه، فكَيف والجَمعُ بينَ الَّذي أنكَرَتْه وأثبَتَه غَيرُها مُمكِنٌ؟... وقَدِ اختَلَف أهلُ التَّأويلِ في المُرادِ بالموتَى في قَولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وكَذلك المُرادُ بمَن في القُبورِ، فحَمَلَتْه عائِشةُ على الحَقيقةِ، وجَعلَتْه أصلًا احتاجَت مَعَه إلَى تأويلِ قَولِه: ما أنتَم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم. وهَذا قَولُ الأكثَرِ. وقيلَ: هو مَجازٌ، والمُرادُ بالموتَى وبمَن في القُبورِ الكُفَّارُ، شُبِّهوا بالموتَى، وهم أحياءٌ، والمَعنَى: من هم في حالِ المَوتَى، أو في حالِ من سَكَنَ القَبرَ، وعلى هَذا لا يَبقَى في الآيةِ دَليلٌ على ما نَفَتْه عائِشةُ رَضيَ اللهُ عَنها. واللهُ أعلَمُ) .
وقد بوَّبَ ابنُ رَجَبٍ في كِتابِه: (أهوالُ القُبورِ): (البابُ الثَّامِنُ: فيما ورَدَ من سَماعِ المَوتَى كَلامَ الأحياءِ ومَعرِفتِهم بمَن يَسألُ عليهم ويَزُورُهم، ومَعرِفتِهم بحالِهم بَعدَ المَوتِ، وحالِ أقارِبهم في الدُّنيا) . وساقَ أدِلَّةً وآثارًا في ذلك.
وقال الشِّنقيطيُّ: (اعلَمْ أنَّ الَّذي يَقتَضي الدَّليلُ رُجْحانَه هو أنَّ الموتَى في قُبورِهم يَسمَعونَ كَلامَ من كَلَّمَهم، وأنَّ قَولَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها ومن تَبَعِها: إنَّهم لا يَسمَعونَ، استِدلالًا بقَولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تَسْمَعُ الْمَوْتَى، وما جاءَ بمَعناها مِنَ الآياتِ: غَلَطٌ مِنها رَضِيَ اللهُ عَنها، ومِمَّن تَبِعَها.
وإيضاحُ كَونِ الدَّليلِ يَقتَضي رُجحانَ ذلك مَبنيٌّ على مُقَدِّمَتينِ:
الأولَى مِنهما: أنَّ سَماعَ المَوتَى ثَبتَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أحاديثَ مُتَعَدِّدةِ ثُبوتًا لا مَطعَنَ فيه، ولَم يَذكُرْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّ ذلك خاصٌّ بإنسانٍ ولا بوقتٍ.

والمُقَدِّمةُ الثَّانيةُ: هيَ أنَّ النُّصوصَ الصَّحيحةَ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سَماعِ المَوتَى لَم يَثبُتْ في الكِتابِ ولا في السُّنَّةِ شَيءٌ يُخالِفُها، وتأويلُ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها بَعضَ الآياتِ على مَعنًى يُخالِفُ الأحاديثَ المَذكورةَ، لا يَجِبُ الرُّجوعُ إلَيه؛ لِأنَّ غَيرَه في مَعنَى الآياتِ أولَى بالصَّوابِ مِنه، فلا تُرَدُّ النُّصوصُ الصَّحيحةُ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتأوُّلِ بَعضِ الصَّحابةِ بَعضَ الآياتِ... ومِنَ الأحاديثِ الدَّالَّةِ على عُمومِ سَماعِ المَوتَى: ما أخرجه مُسلِمٌ في صَحيحِه:... عَن عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها، أنَّها قالت: كانَ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كُلَّما كانَ لَيلَتُها من رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَخرُجُ من آخِرِ اللَّيلِ إلَى البقيعِ، فيَقولُ: ((السَّلامُ عليكُم دارَ قَومٍ مُؤمِنينَ، وأتاكُمْ ما تُوعَدونَ، غَدًا مُؤَجَّلونَ، وإنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكم لاحِقونَ، اللَّهُمَّ اغفِرْ لِأهلِ بَقيعِ الغَرقَدِ )) ... وخِطابُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لِأهلِ القُبورِ بقَولِه: ((السَّلامُ عليكُم))، وقَولُه: ((وإنَّا إنْ شاءَ اللهُ بكم))، ونَحوَ ذلك، يَدُلُّ دَلالةً واضِحةً على أنَّهم يَسمَعونَ سَلامَه؛ لِأنَّهم لَو كانوا لا يَسمَعونَ سَلامَه وكَلامَه لَكانَ خِطابُه لَهم من جِنسِ خِطابِ المَعدومِ، ولا شَكَّ أنَّ ذلك لَيسَ من شأنِ العُقَلاءِ، فمِنَ البَعيدِ جِدًّا صُدورُه مِنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وسَيأتي إنْ شاءَ اللهُ ذِكْرُ حَديثِ عَمرِو بنِ العاصِ، الدَّالِّ على أنَّ المَيتَ في قَبرِه يَستأنِسُ بوُجودِ الحَيِّ عِندَه. وإذا رأيتَ هَذِه الأدِلَّةَ الصَّحيحةَ الدَّالَّةَ على سَماعِ المَوتَى، فاعلَمْ أنَّ الآياتِ القُرآنيَّةَ؛ كَقَولِه تعالى: إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى، وقَولِه: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ لا تَخالِفُها... ومِمَّن جَزم بأنَّ الآياتِ المَذكورةَ لا تُنافي الأحاديثَ الصَّحيحةَ الَّتي ذَكَرْنا: أبو العَبَّاسِ ابنُ تيميَّةَ... والحاصِلُ: أن تأوُّلَ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها بَعضَ آياتِ القُرآنِ، لا تُرَدُّ به رِواياتُ الصَّحابةِ العُدولِ الصَّحيحةُ الصَّريحةُ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ويَتأكَّدُ ذلك بثَلاثةِ أُمورٍ:
الأوَّلُ: هو ما ذَكَرْناه الآنَ من أنَّ رِوايةَ العَدْلِ لا تُرَدُّ بالتَّأويلِ.

الثَّاني: أنَّ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها لَمَّا أنكَرَت رِوايةَ ابنِ عُمَرَ عَنِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّهم ليَسمَعونَ الآنَ ما أَقولُ))، قالت: إنَّ الَّذي قاله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّهم ليَعلَمونَ الآنَ أنَّ الَّذي كُنتُ أقولُ لَهم هو الحَقُّ ))، فأنكَرَتِ السَّماعَ ونَفَتْه عَنهم، وأثبَتَت لَهمُ العِلمَ، ومَعلومٌ أنَّ من ثَبَتَ لَه العِلمُ صَحَّ مِنه السَّماعُ، كَما نَبَّه عليه بَعضُهم.
الثَّالِثُ: هو ما جاءَ عَنها مِمَّا يَقتَضي رُجوعَها عَن تأويلِها، إلَى الرِّواياتِ الصَّحيحةِ...
وفي ذلك كُلِّه دَليلٌ على سَماعِ المَيتِ كَلامَ الحَيِّ، ومِن أوضَحِ الشَّواهدِ لِلتَّلقينِ بَعدَ الدَّفنِ السَّلامُ عليه، وخِطابُه خِطابَ مَن يَسمَعُ، ويَعلَمُ عِندَ زيارَتِه، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُه؛ لِأنَّ كُلًّا مِنهما خِطابٌ لَه في قَبرِه.

وقَدِ انتَصَرَ ابنُ كَثيرٍ رَحِمَه اللهُ في تَفسيرِ سورةِ الرُّومِ في كَلامِه على قَولِه تعالى: فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ، إلَى قَولِه: فَهُمْ مُسْلِمُونَ لِسَماعِ المَوتَى، وأورَدَ في ذلك كَثيرًا مِنَ الأدِلَّةِ الَّتي قَدَّمْنا في كَلامِ ابنِ القَيِّمِ، وابنِ أبي الدُّنيا وغَيرِهما، وكَثيرًا مِنَ المَرائي الدَّالَّةِ على ذلك... وبجَميعِ ما ذَكَرْنا في هَذا المَبحَثِ في الكَلامِ على آيةِ النَّملِ هَذِه، تَعلَمُ أنَّ الَّذي يُرَجِّحُه الدَّليلُ أنَّ الموتَى يَسمَعونَ سَلامَ الأحياءِ وخِطابَهم، سَواءٌ قُلنا: إنَّ اللهَ يَرُدُّ عليهم أرواحَهم حَتَّى يَسمَعوا الخِطابَ ويَردُّوا الجَوابَ، أو قُلْنا: إنَّ الأرواحَ أيضًا تَسمَعُ وتَرُدُّ بَعدَ فَناءِ الأجسامِ؛ لأنَّا قَد قَدَّمنا أنَّ هَذا يَنبَني على مُقَدِّمَتينِ: ثُبوتِ سَماعِ المَوتَى بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ، وأنَّ القُرآنَ لا يُعارِضُها على التَّفسيرِ الصَّحيحِ الَّذي تَشهَدُ لَه القِرائِنُ القُرآنيَّةُ، واستِقراءُ القُرآنِ، وإذا ثَبَّتَ ذلك بالسُّنَّةِ الصَّحيحةِ من غَيرِ مُعارِضٍ من كِتابٍ ولا سُنَّةٍ، ظَهَرَ بذلك رُجحانُه على تأوُّلِ عائِشةَ رَضيَ اللهُ عَنها ومن تَبِعَها بَعضَ آياتِ القُرآنِ، كَما تَقَدَّمَ إيضاحُهـ) .

وقال ابنُ عُثَيمين: (إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَرَ أنَّ المَيتَ إذا دُفِنَ وأتاه المَلَكانِ، قال: ((إنَّه ليَسمَعُ قَرْعَ نِعالِكم)) أيِ: المُنصَرِفونَ عَنه، وهَذا سَماعٌ حالَ الدَّفْنِ. ووقَف صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وسَلَّمَ على قَتْلَى قُرَيشٍ في قَليبِ بَدرٍ، وجَعلَ يُناديهم بأسمائِهم وأسماءِ آبائِهم، ولَمَّا راجَعَه الصَّحابةُ في ذلك قال: ((ما أنتَم بأسمَعَ لِما أقولُ مِنهم))،... لَكِنْ على فرضِ أنَّهم يَسمَعونَ فإنَّهم لا يَنفَعونَ غَيرَهم، بمَعنَى أنَّهم لا يَدْعُونَ اللهَ لَه، ولا يَستَغفِرونَ الله لَه، ولا يُمكِنُهمُ الشَّفاعةُ لَهم) .

27/10/2025

هَلِ العَذابُ في البَرزَخِ على الرُّوحِ أم على البَدَنِ أم على كِلَيهما؟

قال ابنُ تيميَّةَ: (العَذابُ والنَّعيمُ على النَّفسِ والبَدنِ جَميعًا باتِّفاقِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ؛ تُنعَّمُ النَّفسُ وتُعذَّبُ مُنفرِدةً عَنِ البَدَنِ، وتُعذَّبُ مُتَّصِلةً بالبَدَنِ، والبَدنُ مُتَّصِلٌ بها، فيَكونُ النَّعيمُ والعَذابُ عليهما في هَذِه الحالِ مُجتَمِعَينِ، كَما يَكونُ لِلرُّوحِ مُفرَدةً عَنِ البَدَنِ) .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (لَيسَ السُّؤالُ في القَبرِ لِلرُّوحِ وَحْدَها، كَما قال ابنُ حَزْمٍ وغَيرِه، وأفسَدُ مِنه قَولُ من قال: إنَّه لِلبَدَنِ بلا رُوحٍ! والأحاديثُ الصَّحيحةُ تَرُدُّ القَولينِ.
وكَذلك عَذابُ القَبرِ يَكونُ لِلنَّفسِ والبَدَنِ جَميعًا، باتِّفاقِ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ، تُنعَّمُ النَّفسُ وتُعذَّبُ مُفرَدةً عَنِ البَدَنِ ومُتَّصِلةً به.
واعلَمْ أنَّ عَذابَ القَبرِ هو عَذابُ البَرزَخِ، فكُلُّ من مات وهو مُستَحِقٌّ لِلعَذابِ نالَه نَصيبُه مِنه، قُبِرَ أو لَم يُقْبَرْ، أكَلَتْه السِّباعُ أوِ احتَرَقَ حَتَّى صارَ رَمادًا ونُسِفَ في الهَواءِ، أو صُلِبَ أو غَرِقَ في البَحرِ؛ وصَلَ إلَى رُوحِه وبَدَنِه مِنَ العَذابِ ما يَصِلُ إلَى المَقبورِ.
وما ورَدَ من إجلاسِه واختِلافِ أضلاعِه ونَحوِ ذلك فيَجِبُ أن يُفهَمَ عَنِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُرادُه من غَيرِ غُلُوٍّ ولا تَقصيرٍ، فلا يُحمَّلُ كَلامُه ما لا يَحتَمِلُه، ولا يُقصَرُ به عَن مُرادِه وما قَصدَه مِنَ الهُدَى والبَيانِ...
فالحاصِلُ أنَّ الدُّورَ ثَلاثةٌ: دارُ الدُّنيا، ودارُ البَرزَخِ، ودارُ القَرارِ. وقَد جَعل اللهُ لِكُلِّ دارٍ أحكامًا تَخُصُّها، ورَكَّبَ هَذا الإنسانَ من بَدَنٍ ونَفسٍ، وجَعلَ أحكامَ الدُّنيا على الأبدانِ، والأرواحُ تَبَعٌ لَها، وجَعلَ أحكامَ البَرزَخِ على الأرواحِ، والأبدانُ تَبَعٌ لَها، فإذا جاءَ يَومُ حَشْرِ الأجسادِ وقيامِ النَّاسِ من قُبورِهم صارَ الحُكمُ والنَّعيمُ والعَذابُ على الأرواحِ والأجسادِ جَميعًا؛ فإذا تأمَّلتَ هَذا المَعنَى حَقَّ التّأمُّلِ، ظَهَرَ لَكَ أنَّ كَونَ القَبرِ رَوضةً من رياضِ الجَنةِ أو حَفرةً من حُفَرِ النَّارِ مُطابِقٌ لِلعَقلِ، وأنَّه حَقٌّ لا مِرْيَةَ فيه، وبذلك يَتَمَيَّزُ المُؤمِنونَ بالغَيبِ من غَيرِهم.
ويَجِبُ أن يُعلَمَ أنَّ النَّارَ الَّتي في القَبرِ والنَّعيمَ لَيسَ من جِنسِ نارِ الدُّنيا ولا نَعيمِها، وإن كانَ اللهُ تعالى يَحمي عليه التُّرابَ والحِجارةَ الَّتي فوقَه وتَحتَه حَتَّى يَكونَ أعظَمَ حَرًّا من جَمْرِ الدُّنيا، ولَو مَسَّها أهلُ الدُّنيا لَم يُحِسُّوا بها! بَل أعجَبُ من هَذا أنَّ الرَّجُلينِ يُدفَنُ أحَدُهما إلَى جَنبِ صاحِبِه، وهَذا في حُفرةٍ مِنَ النَّارِ، وهَذا في رَوضةٍ من رياضِ الجَنةِ، لا يَصِلُ من هَذا إلَى جارِه شَيءٌ من حَرِّ نارِه، ولا من هَذا إلَى جارِه شَيءٌ من نَعيمِه! وقُدرةُ اللهِ أوسَعُ من ذلك وأعجَبُ، ولَكِنَّ النُّفوسَ مُولَعةٌ بالتَّكذيبِ بما لَم تُحِطْ به عِلمًا. وقَد أرانا اللهُ في هَذِه الدَّارِ من عَجائِبِ قُدرَتِه ما هو أبلَغُ من هَذا بكَثيرٍ. وإذا شاءَ اللهُ أن يُطْلِعَ على ذلك بَعضَ عِبادِه أطلَعَه، وغَيَّبَه عَن غَيرِه، ولَو أطلَعَ اللهُ على ذلك العِبادَ كُلَّهم لَزالَت حِكمةُ التَّكليفِ والإيمانِ بالغَيبِ، ولَمَا تَدافَنَ النَّاسُ، كَما في الصَّحيحِ عَنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لَولا ألَّا تَدَافَنوا لَدَعَوْتُ اللهَ أن يُسمِعَكُم من عَذابِ القَبرِ ما أسمَعُ )) ، ولَمَّا كانَت هَذِه الحِكمةُ مُنتَفيةً في حَقِّ البهائِمِ سَمِعَتْ ذلك وأدرَكَتْهـ) .

وقال ابنُ رَجَبٍ: (هَؤُلاءِ السَّلَفُ كُلُّهم صَرَّحوا بأنَّ الرُّوحَ تُعادُ إلَى البَدَنِ عِندَ السُّؤالِ، وصَرَّحَ بمِثلِ ذلك طَوائِفُ مِنَ الفُقَهاءِ والمُتَكَلِّمينَ من أصحابنا، وغَيرِهم؛ كالقاضي أبي يَعلَى وغَيرِه، وأنكَرَ ذلك طائِفةٌ مِنهمُ ابنُ حَزْمٍ وغَيرُه، وذَكَرَ أنَّ السُّؤالَ لِلرُّوحِ خاصَّةً، وكَذلك سَماعُ الخِطابِ، وأنكَرَ ألَّا تُعادَ الرُّوحُ إلَى الجَسَدِ في القَبرِ لِلعَذابِ وغَيرِه، وقالوا: لَو كانَ ذلك حَقًّا لَلزمَ الإنسانَ أن يَموتَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ ويَحيَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، والقُرآنُ دَلَّ على أنَّهما مَوتَتانِ وحَياتانِ، وهَذا ضَعيفٌ جِدًّا؛ فإنَّ حَياةَ الرُّوحِ لَيسَت حَياةً تامَّةً مُستَقِلَّةً كَحَياةِ الدُّنيا، وكالحَياةِ الآخِرةِ بَعدَ البَعثِ، وإنَّما فيها نَوعُ اتِّصالِ الرُّوحِ في البَدَنِ، بحَيثُ يَحصُلُ بذلك شُعورُ البَدَنِ وإحساسٌ بالنَّعيمِ والعَذابِ وغَيرِهما، ولَيسَ هو حَياةً تامَّةً حَتَّى يَكونَ انفِصالُ الرُّوحِ به مَوتًا تامًّا، وإنَّما هو شَبيهٌ بانفِصالِ رُوحِ النَّائِمِ عَنه، ورُجوعِها إلَيه، فإنَّ ذلك يُسَمَّى موتًا وحَياةً، كَما كانَ يَقولُ رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا استيقَظَ: ((الحَمدُ لِلَّه الَّذي أحيانَا بَعدَ ما أماتَنا، وإلَيه النُّشورُ ))، وسَمَّاه اللهُ تعالى وفاةً؛ لِقَولِه: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى الآيةُ [الزمر: 42] ، ومَعَ هَذا فلا يُنافي ذلك أن يَكونَ النَّائِمُ حَيًّا، وكَذلك اتِّصالُ رُوحِ المَيِّتِ ببَدَنِه وانفِصالِها عَنه لا توجِبُ أن يَصيرَ حَيًّا حَياةً مُطلَقةً.
ومِمَّن رَجَّحَ هَذا القَولَ -أعني السُّؤالَ والنَّعيمَ والعَذابَ لِلرُّوحِ خاصَّةً- من أصحابِنا: ابنُ عَقيلٍ، وأبو الفَرَجِ بنُ الجَوزيِّ، في بَعضِ تَصانيفِهما، واستَدَلَّ ابنُ عَقيلٍ بأنَّ أرواحَ المُؤمِنينَ تُنعَّمُ في حَواصِلِ طَيرٍ خُضْرٍ، وأرواحَ الكُفَّارِ في حَواصِلِ طَيرٍ سُودٍ، وهَذِه الأجسادُ تَبلَى، فدَلَّ ذلك على أنَّ الأرواحَ تُنعَّمُ وتُعذَّبُ في أجسادٍ أُخَرَ، وهَذا لا حُجَّةَ فيه؛ لِأنَّه لا يُنافي اتِّصالَ الرُّوحِ ببَدَنِه أحيانًا مَعَ فَنائِه واستِحالَتِه...

وقَولُهم: الأرواحُ عِندَ اللهِ تعالى تُعاقَبُ وتُثابُ، لا يُنافي أن تَتَّصِلَ بالبَدَنِ أحيانًا، فيَحصُلُ بذلك إلَى الجَسَدِ نَعيمٌ أو عَذابٌ، وقَد تَستَقِلُّ الرُّوحُ أحيانًا بالنَّعيمِ والعَذابِ؛ إمَّا عِندَ استِحالةِ الجَسَدِ أو قَبلَ ذلك...
ومِمَّا يَدُلُّ على وُقوعِ العَذابِ على الأجسادِ الأحاديثُ الكَثيرةُ في تَضييقِ القَبرِ على المَيِّتِ، حَتَّى تَختَلِفَ أضلاعُه ، ولأنَّه لَو كانَ العَذابُ على الرُّوحِ خاصَّةً لَم يَختَصَّ العَذابُ بالقَبرِ ولَم يُنسَبْ إلَيهـ) .
وقال ابنُ بازٍ: (أهلُ السُّنَّةِ والجَماعةِ يُؤمِنونَ بعَذابِ القَبرِ ونَعيمِه؛ أنَّه حَقٌّ على الرُّوحِ والجَسَدِ جَميعًا، ولَكِن نَصيبُ الرُّوحِ أكثَرُ، كَما قال اللهُ جلَّ وعلا في آلِ فِرعَونَ: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا فهَكَذا المَيِّتُ الصَّالِحُ يُنعَّمُ في قَبرِه، وغَيرُ الصَّالِحِ يُعذَّبُ في قَبرِه، ويَومَ القيامةِ العَذابُ أشَدُّ، والنَّعيمُ أعظَمُ، بَعدَ البَعثِ والنُّشورِ) .
وقال أيضًا: (إنَّ السُّؤالَ حَقٌّ، والمَيِّتَ تُرَدُّ إلَيه رُوحُه، وقَد صَحَّت بذلك الأخبارُ عَن رَسولِ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وحَياةُ المَيِّتِ في قَبرِه غَيرُ حَياتِه الدُّنيويَّةِ، بَل هيَ حَياةٌ خاصَّةٌ بَرزَخيَّةٌ لَيسَت من جِنسِ حَياتِه في الدُّنيا الَّتي يَحتاجُ فيها إلَى الطَّعامِ والشَّرابِ ونَحوِ ذلك، بَل هيَ حَياةٌ خاصَّةٌ يَعقِلُ مَعَها السُّؤالَ والجَوابَ، ثُمَّ تَرجِعُ روحُه بَعدَ ذلك إلَى عِلِّيِّينَ إنْ كانَ من أهلِ الإيمانِ، وإن كانَ من أهلِ النَّارِ إلَى النَّارِ، لَكِنَّها تُعادُ إلَيه وقتَ السُّؤالِ والجَوابِ، فيَسألُه المَلَكانِ: من رَبُّكَ؟ وما دينُكَ؟ ومن نَبيُّكَ؟
فالمُؤمِنُ يَقولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، والإسلامُ ديني، ومُحَمَّدٌ نَبيِّي، هَكَذا يُجيبُ المُؤمِنُ والمُؤمِنةُ، ويُقالُ لَه: ما عِلْمُكَ بهَذا الرَّجُلِ؟ «مُحَمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم»، فيَقولُ: هو رَسولُ اللَّهِ، جاءَنا بالهُدَى، فآمَنَّا به وصَدَّقْناه، واتَّبَعْناه، فيُقالُ لَه: قَد عَلِمْنا إنْ كُنتَ لِمُؤمِنًا، ويُفتَحُ لَه بابٌ إلَى الجَنةِ، فيأتيه من رَوحِها ونَعيمِها، ويُقالُ: هَذا مَكانُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللهُ إلَيه، ويُرَى مَقعَدَه مِنَ النَّارِ، ويُقالُ: هَذا مَكانُكَ لَو كَفَرْتَ باللهِ، أمَّا الآنَ فقَد أعاذَكَ اللهُ مِنه، وصِرْتَ إلَى الجَنَّةِ.

أمَّا الكافِرُ فإذا سُئِلَ عَن رَبِّه ودينِه ونَبيِّه، فإنَّه يَقولُ: هاه هاه لا أدري، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقولونَ شَيئًا فقُلتُه، فيُضرَبُ بمِرزَبَّةٍ من حَديدٍ فيَصيحُ صيحةً يَسمَعُها كُلُّ شَيءٍ إلَّا الثَّقَلينِ، يَعني: الجِنَّ والإنسَ، وتَسمَعُها البَهائِمُ، فيُفتَحُ لَه بابٌ إلَى النَّارِ، ويُضَيَّقُ عليه قَبرُه، حَتَّى تَختَلِف أضلاعُه، ويَكونُ قَبرُه عليه حُفرةً من حُفَرِ النَّارِ، ويُفتَحُ لَه بابٌ إلَى النَّارِ يأتيه من سَمومِها وعَذابِها، ويُقالُ: هَذا مَكانُكَ حَتَّى يَبعَثَكَ اللهُ إلَيه، ويُفتَحُ لَه بابٌ إلَى الجَنَّةِ، فيُرَى مَقعَدَه مِنَ الجَنةِ، ويُقالُ لَه: هَذا مَكانُكَ لَو هَدَاكَ اللَّهُ.
وبذلك يُعلَمُ أنَّ القَبرَ إمَّا رَوضةٌ من رياضِ الجَنةِ، وإمَّا حُفرةٌ من حُفَرِ النَّارِ، والعَذابُ والنَّعيمُ لِلرُّوحِ والجَسَدِ جَميعًا في القَبرِ، وهَكَذا في الآخِرةِ في الجَنَّةِ أو في النَّارِ. أمَّا من مات بالغَرَقِ أو بالحَرقِ أو بأكلِ السِّباعِ، فإنَّ رُوحَه يأتيها نَصيبُها مِنَ العَذابِ والنَّعيمِ، ويأتي جَسَدَه من ذلك في البَرِّ أوِ البَحرِ أو في بُطونِ السِّباعِ ما شاءَ اللهُ من ذلك، لَكِنَّ مُعظَمَ النَّعيمِ والعَذابِ على الرُّوحِ الَّتي تَبقَى إمَّا مُنَعَّمةً، وإمَّا مُعَذَّبةً؛ فالمُؤمِنُ تَذهَبُ رُوحُه إلَى الجَنَّةِ، قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّ رُوحَ المُؤمِنِ طائِرٌ يَعلُقُ في شَجَرِ الجَنَّةِ يأكُلُ مِن ثِمارِها )) ، والكافِرُ تَذهَبُ رُوحُه إلَى النَّارِ. فالواجِبُ على كُلِّ مُسلِمٍ ومُسلِمةٍ الاطمِئنانُ إلَى ما أخبَرَ به اللهُ عزَّ وجَلَّ، وأخبَرَ به رَسولُه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، وأن يُصَدِّقَ بذلك على الوَجهِ الَّذي أرادَه اللهُ عزَّ وجَلَّ، وإنْ خَفِيَ على العَبدِ بَعضُ المَعنَى، فلِلَّهِ الحِكمةُ البالِغةُ سُبحانَهـ) .
وقال ابنُ عُثَيمين: (هَذا النَّعيمُ أوِ العَذابُ: هَل هو على البَدَنِ أو على الرُّوحِ أو يَكونُ على البَدَنِ والرُّوحِ جَميعًا؟

نَقولُ: المَعروفُ عِندَ أهلِ السُّنَّةِ والجَماعةِ أنَّه في الأصلِ على الرُّوحِ، والبَدنُ تابعٌ لَها، كَما أنَّ العَذابَ في الدُّنيا على البَدَنِ، والرُّوحُ مُتابِعةٌ لَه، وكَما أنَّ الأحكامَ الشَّرعيَّةَ في الدُّنيا على الظَّاهرِ، وفي الآخِرةِ بالعَكسِ؛ ففي القَبرِ يَكونُ العَذابُ أوِ النَّعيمُ على الرُّوحِ، لَكِنَّ الجِسمَ يَتأثَّرُ بهَذا تَبَعًا، ولَيسَ على سَبيلِ الاستِقلالِ، ورَبَّما يَكونُ العَذابُ على البَدنِ والرُّوحُ تَتبَعُه، لَكِنَّ هَذا لا يَقَعُ إلَّا نادِرًا، إنَّما الأصلُ أنَّ العَذابَ على الرُّوحِ والبَدُنُ تَبَعٌ، والنَّعيمَ لِلرُّوحِ والبَدنُ تَبَعُ) .
وقال أيضًا: (هَلِ العَذابُ في القَبرِ على البَدَنِ أو على الرُّوحِ؟
العَذابُ في القَبرِ على الرُّوحِ في الأصلِ ورَبَّما يَتَّصِلُ بالبَدَنِ، ومَعَ ذلك فإنَّ كَونَه على الرُّوحِ لا يَعني أنَّ البَدنَ لا يَنالُه مِنه شَيءٌ، بَل لا بُدَّ أن يَنالَه من هَذا العَذابِ أوِ النَّعيمِ شَيءٌ وإن كانَ غَيرَ مُباشِرٍ.
واعلَمْ أنَّ العَذابَ والنَّعيمَ في القَبرِ على عَكسِ العَذابِ أوِ النَّعيمِ في الدُّنيا؛ فإنَّ العَذابَ أوِ النَّعيمَ في الدُّنيا على البَدَنِ، وتَتأثَّرُ به الرُّوحُ، وفي البَرزَخِ يَكونُ النَّعيمُ أوِ العَذابُ على الرُّوحِ، ويَتأثَّرُ به البَدَنُ.
فلَو قال لَنا قائِلٌ: كَيف تَقولونَ: إنَّ القَبرَ يَضيقُ على الإنسانِ الكافِرِ حَتَّى تَختَلِفَ أضلاعُه ، ونَحنُ لَو كَشَفنا القَبرَ لَوجَدنا أنَّ القَبرَ لَم يَتَغَيَّرْ، وأنَّ الجَسَدَ لَم يَتَغَيَّرْ أيضًا؟
فالجَوابُ على هَذا أن نَقولَ: إنَّ عَذاب القَبرِ على الرُّوحِ في الأصلِ، ولَيسَ أمرًا مَحسوسًا على البَدَنِ، فلَو كانَ أمرًا مَحسوسًا على البَدَنِ، لَم يَكُن مِنَ الإيمانِ بالغَيبِ، ولَم يَكُنْ مِنه فائِدةٌ، لَكِنَّه مِنَ الأمورِ الغَيبيَّةِ المُتَعَلِّقةِ بالأرواحِ، والإنسانُ قَد يَرَى في المَنامِ وهو نائِمٌ على فِراشِه أنَّه قائِمٌ، وذاهِبٌ وراجِعٌ، وضارِبٌ ومَضروبٌ، ورَبَّما يَرَى وهو على فِراشِه نائِمٌ أنَّه قَد سافرَ إلَى العُمرةِ، وطافَ وسَعَى، وحَلقَ أو قَصَّرَ، ورَجَعَ إلَى بَلَدِه، وجِسمُه على الفِراشِ لَم يَتَغَيَّرْ، فأحوالُ الرُّوحِ لَيسَت كأحوالِ البَدَنِ) .

27/10/2025

أرواحُ الكُفَّارِ

عَن أبي هُرَيرةَ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في وصفِ حالِ الكافِرِ، وما يُلاقيه عِندَ النَّزعِ، وبَعدَ أن تُقبَضَ رُوحُه: ((تَخرُجُ مِنه كأنتَنِ ريحٍ، حَتَّى يأتونَ به بابَ الأرضِ، فيَقولونَ: ما أنتَنَ هَذِه الرِّيحَ، حَتَّى يأتَوا به أرواحَ الكُفَّارِ ))

27/10/2025

أرواحُ العُصاةِ

عَن سَمُرةَ بنِ جُندُبٍ رَضِيَ اللهُ عَنه قال: كانَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مِمَّا يُكثِرُ أن يَقولَ لِأصحابِه: ((هَل رأى أحَدٌ منكم من رُؤيا؟ قال: فيَقُصُّ عليه من شاء اللَّهُ أن يَقُصَّ، وإنَّه قال ذاتَ غَداةٍ: إنَّه أتاني اللَّيلةَ آتيانِ وإنَّهما ابتَعَثاني، وإنَّهما قالا لي: انطَلِقْ، وإنِّي انطَلَقْتُ مَعَهما، وإنَّا أتَينا على رَجُلٍ مُضطَجِعٍ، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بصَخرةٍ، وإذا هو يَهوي بالصَّخرةِ لِرأسِه فيَثلَغُ رأسَه ، فيتدهدَهُ الحَجَرُ هاهنا، فيَتْبعُ الحَجَرُ فيأخُذُه، فلا يَرجِعُ إلَيه حَتَّى يَصِحَّ رأسُه كَما كانَ، ثُمَّ يَعودُ عليه فيَفعَلُ به مِثلَ ما فعل المَرَّةَ الأولَى قال: قُلتُ لَهما: سُبحانَ اللَّهِ، ما هَذانِ؟ قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ. قال: فانطَلَقْنا، فأتَينا على رَجُلٍ مُستَلْقٍ لِقَفَاه، وإذا آخَرُ قائِمٌ عليه بكَلُّوبٍ من حَديدٍ، وإذا هو يأتي أحَدَ شِقَّيْ وَجْهِه فيُشَرشِرُ شِدْقَه إلَى قَفَاه، ومَنخِرَه إلَى قَفَاه، وعَينَه إلَى قَفَاه، -قال: ورُبَّما قال أبو رَجاءٍ: فيَشُقُّ-. قال: ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إلَى الجانِبِ الآخَرِ فيَفعَلُ به مِثلَ ما فعل بالجانِب الأوَّلِ، فما يَفرُغُ من ذلك الجانِبِ حَتَّى يَصِحَّ ذلك الجانِبُ كَما كانَ، ثُمَّ يَعودُ عليه فيَفعَلُ مِثلَ ما فعل المَرَّةَ الأولَى، قال: قُلتُ: سُبْحانَ اللَّهِ، ما هَذانِ؟! قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ، فانطَلَقنا، فأتَينا على مِثلِ التَّنُّورِ -قال: فأحسَبُ أنَّه كانَ يَقولُ- فإذا فيه لَغَطٌ وأصَواتٌ، قال: فاطَّلَعْنا فيه، فإذا فيه رِجالٌ ونِساءٌ عُراةٌ، وإذا هم يأتيهم لَهَبٌ من أسفلَ مِنهم، فإذا أتاهم ذلك اللَّهَبُ ضَوْضَوْا ، قال: قُلتُ لَهما: ما هَؤُلاءِ؟، قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ، قال: فانطَلَقْنا، فأتَينا على نَهرٍ -حَسِبْتُ أنَّه كانَ يَقولُ- أحمَرَ مِثلِ الدَّمِ، وإذا في النَّهرِ رَجُلٌ سابحٌ يَسبَحُ، وإذا على شَطِّ النَّهرِ رَجُلٌ قَد جَمَعَ عِندَه حِجارةً كَثيرةً، وإذا ذلك السَّابحُ يَسبَحُ ما يَسبَحُ، ثُمَّ يأتي ذلك الَّذي قَد جَمَعَ عِندَه الحِجارةَ، فيَفغَرُ لَه فاه، فيُلقِمُه حَجَرًا فيَنطَلِقُ يَسبَحُ، ثُمَّ يَرجِعُ إِليه كُلَّما رَجَعَ إلَيه فغَر لَه فاهَ فألقَمَه حَجَرًا!، قال: قُلتُ لَهما: ما هَذانِ؟، قال: قالا لي: انطَلِقِ انطَلِقْ... قال: قُلتُ لَهما: فإنِّي قَد رأيتُ مُنذُ اللَّيلةِ عَجَبًا! فما هَذا الَّذي رأيتُ؟. قال: قالا لي: أمَّا إنَّا سَنُخبرُكَ؛ أمَّا الرَّجُلُ الأوَّلُ الَّذي أتَيتَ عليه يُثلَغُ رأسُه بالحَجَرِ، فإنَّه الرَّجُلُ يأخُذُ القُرآنَ فيَرفُضُه ويَنامُ عَنِ الصَّلاةِ المَكتوبةِ، وأمَّا الرَّجُلُ الَّذي أتَيتَ عليه يُشرشَرُ شِدْقُه إلَى قَفَاه، ومَنخِرُه إلَى قَفَاه، وعَينُه إلَى قَفَاه، فإنَّه الرَّجُلُ يَغدو من بَيتِه، فيَكذِبُ الكَذْبةَ تَبلُغُ الآفاقَ، وأمَّا الرِّجالُ والنِّساءُ العُراةُ الَّذينَ في مِثلِ بناءِ التَّنُّورِ، فإنَّهمُ الزُّناةُ والزَّواني، وأمَّا الرَّجُلُ الَّذي أتَيتَ عليه يَسبَحُ في النَّهرِ ويُلقَمُ الحَجَرَ، فإنَّه آكِلُ الرِّبا... )) .
قال ابنُ حَجَرٍ: (فيه أنَّ بَعضَ العُصاةِ يُعذَّبونَ في البَرزَخِ) .
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَكَّةَ، فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ في قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِىُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ في كَبِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى. كَانَ أَحَدُهُمَا لا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِه، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ )) .

وعن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عنه قال: افْتَتَحْنَا خَيْبَرَ وَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلَا فِضَّةً، إِنَّمَا غَنِمْنَا الْبَقَرَ وَالإِبِلَ وَالْمَتَاعَ وَالْحَوَائِطَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إِلَى وَادِى الْقُرَى وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ يُقَالُ لَهُ: مِدْعَمٌ، أَهْدَاهُ لَهُ أَحَدُ بَنِى الضِّبَابِ، فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إِذْ جَاءَهُ سَهْمٌ عَائِرٌ حَتَّى أَصَابَ ذَلِكَ الْعَبْدَ، فَقَالَ النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((بَلَى، وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِى أَصَابَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ مِنَ الْمَغَانِمِ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا!))، فَجَاءَ رَجُلٌ حِينَ سَمِعَ ذَلِكَ مِنَ النَّبِىِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بِشِرَاكٍ أَوْ بِشِرَاكَيْنِ فَقَالَ: هَذَا شَىْءٌ كُنْتُ أَصَبْتُهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((شِرَاكٌ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ )) .
قال ابنُ القَيِّمِ: (المَسألةُ التَّاسِعةُ، وهيَ قَولُ السَّائِلِ: ما الأسبابُ الَّتي يُعذَّبُ بها أصحابُ القُبورِ؟
جَوابُها من وجهينِ: مُجمَلٌ ومُفصَّلٌ:
أمَّا المُجمَلُ: فإنَّهم يُعذَّبونَ على جَهلِهم باللهِ وإضاعَتِهم لِأمرِه وارتِكابهم لِمَعاصيه، فلا يُعذِّبُ اللَّهُ رُوحًا عَرَفتْه وأحَبَّتْه وامتَثَلَت لِأمرِه واجتَنَبَت نَهيَه، ولا بَدَنًا كانَت فيه أبَدًا، فإنَّ عَذابَ القَبرِ وعَذابَ الآخِرةِ أثَرُ غَضَبِ اللَّهِ وسَخَطِه على عَبدِه، فمن أغضَب اللَّهَ وأسخَطَه في هذه الدَّارِ ثُمَّ لَم يَتُبْ ومات على ذلك، كانَ لَه من عَذابِ البَرزَخِ بقَدرِ غَضَبِ اللَّهِ وسَخَطِه عليه، فمُستَقِلٌّ ومُستَكثِرٌ، ومُصَدِّقٌ ومُكَذِّبٌ.
وأمَّا الجَوابُ المُفصَّلُ: فقَد أخبَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآلِه وسَلَّمَ عَنِ الرَّجُلينِ اللَّذينِ رَآهما يُعذَّبانِ في قُبورِهما: يَمشي أحَدُهما بالنَّميمةِ بينَ النَّاسِ، ويَترُكُ الآخَرُ الاستِبراءَ مِنَ البَولِ، فهَذا تَركَ الطَّهارةَ الواجِبةَ، وذلك ارتَكَبَ السَّبَبَ المُوقِعَ لِلعَدَاوةِ بينَ النَّاسِ بلِسانِه وإن كانَ صادِقًا، وفي هَذا تَنبيهٌ على أنَّ المُوقِعَ بينَهمُ العَداوةَ والكَذِبَ والزُّورَ والبُهتانَ أعظَمُ عَذابًا، كَما أنَّ في تَركِ الاستِبراءِ مِنَ البَولِ تَنبيهًا على أنَّ من تَركَ الصَّلاةَ الَّتي الاستِبراءُ مِنَ البَولِ بَعضُ واجِباتِها وشُروطِها فهو أشَدُّ عَذَابًا،... وقَد تَقَدَّمَ حَديثُ سَمُرةَ في صَحيحِ البُخاريِّ في تَعذيبِ مَن يَكذِبُ الكَذبةَ فتَبلُغُ الآفاقَ، وتَعذيبِ مَن يَقرأُ القِرآنَ ثُمَّ يَنامُ عَنه باللَّيلِ ولا يَعمَلُ به بالنَّهارِ، وتَعذيبِ الزُّناةِ والزَّواني، وتَعذيبِ آكِلِ الرِّبا، كَما شاهدَهمُ النَّبيُّ صَلَّى اللَّه عليه وآلِه وسلَّم في البَرزَخِ .... وقَد أخبَرَنا صَلَّى اللَّه عليه وآلِه وسلَّم عَن صاحِب الشَّملةِ الَّتي غَلَّها مِنَ المَغنَمِ أنَّها تَشتَعِلُ عليه نارًا في قَبرِه. هَذا ولَه فيها حَقٌّ ، فكَيف بمن ظَلمَ غَيرَه ما لا حَقَّ لَه فيه؟! فعَذابُ القَبرِ من مَعاصي القَلبِ والعَينِ والأذُنِ والفَمِ واللِّسانِ والبَطْنِ والفَرْجِ واليَدِ والرِّجْلِ، والبَدَنِ كُلِّه... فكُلُّ هَؤُلاءِ وأمثالُهم يُعذَّبونَ في قُبورِهم بهَذِه الجِرائِمِ بحَسَبِ كَثرَتِها وقِلَّتِها وصَغيرِها وكَبيرِها.

ولَمَّا كانَ أكثَرُ النَّاسِ كَذلك، كانَ أكثَرُ أصحابِ القُبورِ مُعَذَّبينَ، والفائِزُ مِنهم قَليلٌ، فظَواهرُ القُبورِ تُرابٌ، وبواطِنُها حَسَراتٌ وعَذابٌ، ظَواهرُها بالتُّرابِ والحِجارةِ المَنقوشةِ مَبنَيَّاتٌ، وفي باطِنِها الدَّواهي والبليَّاتُ، تَغلي بالحَسراتِ كَما تَغلي القُدورُ بما فيها، ويَحِقُّ لَها وقَد حيلَ بينَها وبينَ شَهَواتِها وأمانيها!) .
وقال أيضًا: (الأرواحُ مُتَفاوِتةٌ في مُستَقَرِّها في البَرزَخِ أعظَمَ تَفاوُتٍ. فمِنها: أرواحٌ في أعلَى عِلِّيِّينَ في المَلأِ الأعلَى، وهيَ أرواحُ الأنبياءِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُه عليهم، وهم مُتَفاوِتون في مَنازِلِهم كَما رَآها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيلةَ الإسراءِ.
ومِنها: أرواحٌ في حَواصِلِ طَيرٍ خُضْرٍ تَسرَحُ في الجَنةِ حَيثُ شاءَت، وهيَ أرواحُ بَعضِ الشُّهداءِ لا جَميعِهم، بَل مِنَ الشُّهداءِ من تُحبَسُ روحُه عَن دُخولِ الجَنَّةِ لِدَينٍ عليه أو غَيرِه، كَما في المُسندِ عَن مُحَمَّدِ بن عَبدِ اللَّهِ بن جَحشٍ أنَّ رَجُلًا جاءَ إلَى النَّبيِّ صَلَّى اللَّه عليه وآلِه وسَلَّمَ فقال: يا رَسولَ اللَّهِ، ما لي إن قُتِلتُ في سَبيلِ اللَّه؟ قال: ((الجَنَّةُ))، فلَمَّا ولَّى قال: ((إلَّا الَّذي سارَّني به جِبريلُ آنِفًا )) ... ومِنهم: مَن يَكونُ مَحبوسًا في قَبرِه، كَحَديثِ صاحِبِ الشَّملةِ الَّتي غَلَّها ثُمَّ استُشهِدَ، فقال النَّاسُ: هَنيئًا لَه الجَنةُ! فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآلِه وسَلَّمَ: ((كَلَّا، والَّذي نَفسي بيدِه إنَّ الشَّملةَ الَّتي غَلَّها لَتَشتَعِلُ عليه نارًا في قَبرِهـ)) .

ومِنهم: مَن يَكونُ مَقرُّه ببابِ الجَنَّةِ كَما في حَديثِ ابنِ عِباسٍ: ((لشُّهداءُ على بارِقٍ -نَهرٍ بباب الجَنةِ- في قُبَّةٍ خَضراءَ يَخرُجُ عليهم رِزقُهم مِنَ الجَنةِ بُكْرةً وعَشِيَّةً )). أخرجه أحمَدُ ... ومِنهم: مَن يَكونُ مَحبوسًا في الأرضِ لَم تَعْلُ رُوحُه إلَى المَلأِ الأعلَى، فإنَّها كانَت رُوحًا سُفليَّةً أرضيَّةً؛ فإنَّ الأنفُسَ الأرضيَّةَ لا تَجامِعُ الأنفُسَ السَّماويَّةَ كَما لا تُجامِعُها في الدُّنيا، والنَّفسُ الَّتي لَم تَكتَسِبْ في الدُّنيا مَعرِفةَ رَبِّها ومَحَبَّتَه وذِكْرَه والأُنْسَ به والتَّقَرُّبَ إلَيه، بَل هيَ أرضيَّةٌ سُفليَّةٌ، لا تَكونُ بَعدَ المُفارَقةِ لِبَدَنِها إلَّا هناك، كَما أنَّ النَّفسَ العُلويَّةُ الَّتي كانَت في الدُّنيا عاكِفةً على مَحَبَّةِ اللَّه وذِكرِه والتَّقَرُّبِ إلَيه والأُنسِ به تَكونُ بَعدَ المُفارَقةِ مَعَ الأرواحِ العُلويَّةِ المُناسِبةِ لَها، فالمَرءُ مَعَ من أحَبَّ في البرزَخِ ويَومَ القيامةِ، ...ومِنها: أرواحٌ تَكونُ في تَنُّورِ الزُّناةِ والزَّواني، وأرواحٌ في نَهرِ الدَّمِ تَسبَحُ فيه وتُلْقَمُ الحِجارةَ ، فلَيسَ لِلأرواحِ سَعيدِها وشَقِيِّها مُستَقَرٌّ واحِدٌ، بَل رُوحٌ في أعلَى عِلِّيِّينَ، وُروحٌ أرضيَّةٌ سُفليَّةٌ لا تَصعَدُ عَنِ الأرضِ.

وأنتَ إذا تأمَّلْتَ السُّننَ والآثارَ في هَذا البابِ، وكانَ لَكَ بها فضلُ اعتِناءِ عَرَفْتَ صِحَّةَ ذلك، ولا تَظُنَّ أنَّ بينَ الآثارِ الصَّحيحةِ في هَذا البابِ تَعارُضًا؛ فإنَّها كُلَّها حَقٌّ يُصَدِّقُ بَعضُها بَعضًا، لَكِنَّ الشَّأنَ في فهمِها ومَعرِفةِ النَّفسِ وأحكامِها، وأنَّ لَها شأنًا غَيرَ شأنِ البَدَنِ، وأنَّها مَعَ كَونِها في الجَنَّةِ فهيَ في السَّماءِ، وتَتَّصِلُ بفِناءِ القَبرِ وبالبَدَنِ فيه، وهيَ أسرَعُ شَيءٍ حَرَكةً وانتِقالًا وصُعودًا وهبوطًا، وأنَّها تَنقَسِمُ إلَى مُرسَلةٍ ومَحبوسةٍ وعُلويَّةٍ وسُفليَّةٍ، ولَها بَعدَ المُفارَقةِ صِحَّةٌ ومَرَضٌ، ولَذَّةٌ ونَعيمٌ وألمٌ أعظَمَ مِمَّا كانَ لَها حالَ اتِّصالِها بالبَدَنِ بكَثيرٍ، فهنالِكَ الحَبسُ والألمُ والعَذابُ والمَرَضُ والحَسرةُ، وهنالِكَ اللَّذَّةُ والرَّاحةُ والنَّعيمُ والإطلاقُ. وما أشبَهَ حالَها في هذا البَدَنِ بحالِ البَدَنِ في بَطنِ أمِّه وحالَها بَعدَ المُفارَقةِ بحالِه بَعدَ خُروجِه مِنَ البَطْنِ إلَى هَذِه الدَّارِ!) .
هَلِ العَذابُ في القَبرِ يَكونُ دائِمًا أو مُنقَطِعًا؟
قال ابنُ القَيِّمِ: (المَسألةُ الرَّابعةَ عَشْرةَ، وهيَ قَولُه: هَل عَذابُ القَبرِ دائِمٌ أو مُنقَطِعٌ؟
جَوابُها أنَّه نَوعانِ: نَوعٌ دائِمٌ سِوى ما ورَدَ في بَعضِ الأحاديثِ أنَّه يُخَفَّفُ عَنهم ما بينَ النَّفخَتينِ، فإذا قاموا من قُبورِهم قالوا: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا، ويَدُلُّ على دَوامِه قَولُه تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا، ويَدُلُّ عليه ما تَقَدَّمَ في حَديثِ سَمُرةَ الَّذي أخرجه البُخاريُّ في رُؤيا النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وفيه: ((فهو يَفعَلُ به ذلك إلَى يَومِ القيامةِ)) ، وفي حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ في قِصَّةِ الجَريدَتينِ ((لَعَلَّه يُخَفَّفُ عَنهما ما لَم ييبَسا ))، فجَعلَ التَّخفيفَ مُقَيَّدًا برُطوبَتِهما فقَط، وفي الصَّحيحِ في قِصَّةِ الَّذي لَبِسَ بُرْدَينِ وجَعلَ يَمشي يَتَبَختَرُ ((فخَسَف اللَّهُ به الأرضَ، فهو يَتَجَلجَلُ فيها إلَى يَومِ القيامةِ )) . وفي حَديثِ البراءِ بن عازِبٍ في قِصَّةِ الكافِرِ: ((ثُمَّ يُفتَحُ لَه بابٌ إلَى النَّارِ، فيَنظُرُ إلَى مَقعَدِه فيها حَتَّى تَقومَ السَّاعةُ )). أخرجه الإمامُ أحمَدُ . وفي بَعضِ طُرُقِه: ((ثُمَّ يَخرِقُ لَه خَرقًا إلَى النَّارِ، فيأتيه من غَمِّها ودُخَانِها إلَى يَومِ القيامةِ)) .

النَّوعُ الثَّاني إلَى مُدَّةٍ، ثُمَّ يَنقَطِعُ، وهو عَذابُ بَعضِ العُصاةِ الَّذينَ خَفَّت جَرائِمُهم، فيُعذَّبُ بحَسَبِ جُرمِه، ثُمَّ يُخَفَّفُ عَنه كَما يُعذَّبُ في النَّارِ مُدَّةً، ثُمَّ يَزولُ عَنه العَذابُ.
وقَد يَنقَطِعُ عَنه العَذابُ بدُعاءٍ، أو صَدَقةٍ، أوِ استِغفارٍ، أو ثَوابِ حَجٍّ، أو قِراءةٍ تَصِلُ إلَيه من بَعضِ أقارِبه أو غَيرِهم، وهَذا كَما يُشَفَّعُ الشَّافِعُ في المُعذَّبِ في الدُّنيا، فيُخَلَّصُ مِنَ العَذَابِ بشَفَاعَتِهـ) .
وقال ابنُ أبي العِزِّ: (هَل يَدومُ عَذابُ القَبرِ أو يَنقَطِعُ؟
جَوابُه أنَّه نَوعانِ: مِنه ما هو دائِمٌ، كَما قال تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر: 46] ، وكَذلك في حَديثِ البراءِ بن عازِبٍ في قِصَّةِ الكافِرِ: ((ثُمَّ يُفتَحُ لَه بابٌ إلَى النَّارِ، فيَنظُرُ إلَى مَقعَدِه فيها حَتَّى تَقومَ السَّاعةُ )) ، أخرجه الإمامُ أحمَدُ في بَعضِ طُرُقِه .
والنَّوعُ الثَّاني: أنَّه مُدَّةٌ ثُمَّ يَنقَطِعُ، وهو عَذابُ بَعضِ العُصاةِ الَّذينَ خَفَّت جَرائِمُهم، فيُعذَّبُ بحَسَبِ جُرمِه، ثُمَّ يُخَفَّفُ عَنهـ) .
وقال ابنُ بازٍ: (أمَّا العاصي فهو تَحتَ المَشيئةِ، قَد يُعاقَبُ في قَبرِه، قَد يُعذَّبُ، وقَد يُعفى عَنه؛ قَد يُعذَّبُ وقتًا دونَ وقتٍ، فأمرُه إلَى اللَّهِ جلَّ وعلا، وقَد أخبَرَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه مَرَّ على قَبرينِ، فإذا هما يُعذَّبانِ؛ أحَدُهما يُعذَّبُ بالنَّميمةِ، والثَّاني يُعذَّبُ لِعَدَمِ تَنزُّهِه مِنَ البَولِ.
فالعاصي على خَطرٍ إذا ماتَ على المَعاصي ولَم يَتُبْ، وهو مُتَوعَّدٌ بالعَذابِ، لَكِن قَد يُعفى عَنه لِأسبابِ أعمالٍ صالِحةٍ كَثيرةٍ، أو بأسبابٍ أخرَى، وإذا عُذِّبَ فاللَّهُ أعلَمُ سُبحانَه بكَيفيَّةِ العَذابِ واستِمرارِه وانقِطاعِه، هَذا إلَى اللَّهِ سُبحانَه وتعالى، هو الَّذي يَعلَمُ كُلَّ شَيءٍ جلَّ وعلا) .

Address

Mecca

Alerts

Be the first to know and let us send you an email when الدعوة إلى الله posts news and promotions. Your email address will not be used for any other purpose, and you can unsubscribe at any time.

Share