
22/07/2025
"الخزين عيان قفلوا"... أزمة الاعتماد الزائد ومأزق اللامبالاة
في الوجود الإجتماعي بواحة جامعة الجزيرة ، نعتز دائماً بروح المبادرة، وبالهمّة العالية التي يتمتع بها عدد من الأخوة والاخوات . هناك دائماً من يحترق ليضيئ الطريق ، ومن يتصدى للظروف للدفع بعجلة النشاط الطلابي والعمل النقابي إلى الأمام.
لكن، في زحمة هذه الديناميكية، تظهر إشكالية قديمة الإكتشاف متجددة الظهور : " الإتكالية " وهو الاعتماد الزائد على فئة محدودة من الأشخاص.
نرى ذات الأسماء، ذات الوجوه، ذات الأكتاف التي تتحمل و تتحمل ، ثم تتحمل، ثم... تتعب.
وفي النهاية يبقى الاثر لكن تنطفئ الروح.
وهنا يستدعي الوجدان مثلاً سودانياً عميقاً في دلالته:
"الخزين عيان قفلوا."
ولا يُقصد بالخزين فرد بعينه، بل هو مجاز عن تلك الفئة التي يقع على كاهلها عبء العمل بأكمله. أولئك الذين يتقدمون و يستمرّون حين يتراجع غيرهم، ويحاولون حين يكثر التثبيط، ويُكملون الطريق حين ينفضّ الرفاق.
لكنهم بشر أيضًا... يرهقهم التكرار، ويكسرهم الصمت من حولهم.
العمل الطلابي حين يُختزل في بضعة أشخاص، يتحول من حركة جماعية إلى مجهود فردي هش، قابل للانهيار في أول منعطف.
لا يمكن أن نُراهن على التضحيات إلى الأبد. فالتنظيم الحقيقي لا يقوم على أشخاص، بل على نظام. لا يتكئ على أسماء، بل يُدير طاقة الجماعة كلها.
وإذا كنا نطمح فعلاً إلى استمرارية المبادرات والأنشطة، فلابد أن نطرح على أنفسنا أسئلة صادقة:
كيف نُوزّع الجهد؟
كيف نخلق بدائل؟
كيف نبني بيئة طلابية يتحمل فيها الجميع المسؤولية؟
لكن المشكلة لا تقف عند مسألة "قلة العدد"، بل تتسع لتشمل المشهد العام للحياة الطلابية، والذي يمكن ـ بكل وضوح ـ أن يُقسم إلى أربع فئات رئيسية، لا من باب التبسيط، ولكن لمحاولة الفهم:
---
أولاً: فئة المنظراتية.
هؤلاء غالباً ما يتحدثون بصوت مرتفع، وبلغة مُحمّلة بخيبة الأمل، وأحيانًا بالمرارة.
بعضهم خاض تجارب حقيقية لم تكتمل، فعاد منها مُحبطًا.
لكن كثيراً منهم، في الحقيقة، لم يخض شيئًا، بل عاش التجربة في خياله فقط؛ نسج فيها ملاحم نظرية دون أن يخوض أي تعب حقيقي على الأرض.
هم أسرى تصورات عن أنفسهم كـ"فاعلين سابقين"، يظنون أنهم أعطوا كل ما يمكن، بينما الحقيقة أنهم لم يبدأوا بعد.
هؤلاء ينظرون إلى الواقع بعين ساخطة، يرونه دون طموحهم، فيسخرون من أي مبادرة، مهما كانت جادة.
يرفعون سقف النقد، ويخفضون مستوى الفعل، ويُصدّرون حالة من الإحباط لا تقل خطورة عن العجز نفسه.
---
ثانياً: فئة الشكاكين.
هؤلاء لا يعملون، لكنهم يهاجمون.
يمتهنون فن الاتهام: "فلان عندو أجندة"، "علان داير يترزق"، "دي شلة مصلحجية"، "الكلام دا ما شفّاف"...
يطلقون الأحكام بلا دليل، ويُفرغون أي جهد من معناه.
بدلاً من أن يسندوا من يعمل، يشككون، ويشوّهون، ويقفون كحائط صد أمام أي محاولة للخروج من الركود.
وربما يبرّرون لأنفسهم هذا السلوك بأنه نوع من "الرقابة"، لكنه في حقيقته تعويق، لأنه لا يُنتج بديلاً، ولا يُقدّم اقتراحاً، ولا يدخل ساحة الفعل.
---
ثالثاً: فئة اللامبالين "القطيع".
وهم الأغلبية الصامتة.
طلاب وطالبات يعلفون و يعيشون في قلب الجامعة، لكن خارج وعيها العام.
لا يدرون ما يدور من حولهم، ولا يُبالون أن يدروا.
ليس لديهم موقف رافض، ولا رأي داعم، فقط غياب تام.
يمر النشاط الطلابي من أمامهم كظلّ خفيف، لا يعنيهم ما دام لا يمسّ درجاتهم أو جداولهم.
غيابهم لا يحدث ضجيجاً، لكنه يُحدث فراغاً، وهذا أخطر.
---
رابعاً: فئة الخزين.
هؤلاء هم عماد العمل الحقيقي.
قلةٌ استقرت على الضمير. ينهضون بلا ضوء، ويكملون في الظل، ويبذلون دون انتظار شكر.
يصمدون حين تتراجع الصفوف، ويُراهنون على الأمل حين يسود الشك.
خطأهم يُضخَّم، وصوتهم يُحجَب أحياناً تحت الضجيج، لكنهم هم الذين يُبقون الفكرة حيّة، والعمل ممكناً.
هؤلاء، رغم عطائهم، يُرهقهم صمت الأغلبية، ويثقل كاهلهم التشكيك، ويُوجعهم التجاهل.
وهم – من فرط ما تعوّدنا عليهم – صار غيابهم يُربكنا، ومرضهم يُربك العمل كله.
---
هذه الفئات الثلاث الأولى تشكّل معاً مأزقاً حقيقياً في وجه أي محاولة للعمل الجاد.
المنظّر يُحبط، والمترصّد يُهاجم، واللامبالي يغيب، والخزين يُستهلك حتى العظم.
وفي وسط هذا، يعود السؤال الأثقل:
إلى متى؟
إلى متى نُعيد إنتاج هذه الحلقة المفرغة؟
إلى متى نظل نتفرّج، أو نُحبط، أو نُشكك، ثم نعود نشتكي من "الوضع"؟
الحقيقة التي يجب أن نواجهها، ولو كانت قاسية:
الجامعة، والنشاط، والرابطة، والمبادرات... كلّها انعكاس مباشر لمشاركتنا، أو غيابنا.
لا أحد سيأتي من الخارج ليُصلح شأننا. لا مسؤول، ولا منظمة، ولا "جيل جديد".
التغيير يبدأ من السؤال البسيط:
شنو الدور الممكن أعملو؟
شنو الحاجة الممكن أضيفها، مهما كانت بسيطة؟
ليس المطلوب أن يكون كل طالب قائداً، ولا أن ينخرط الجميع في لجان، لكن المطلوب أن نكفّ عن جلد من يعمل، وأن نحترم المحاولة، وأن نساهم - لا بالتصفيق أو التنظير، بل بالفعل-.
لأن المجتمعات لا تنهض بالصراخ، بل بالفعل.
ولأن الجامعة، في نهاية الأمر، ليست مجرد مؤسسة دراسية ، بل المختبر الأوّل للحياة العامة.
#أبوالهول