
02/09/2025
سُئل الشيخ مهد ابن حاج شكر عن حكم احتفال ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وأنّ بعض الناس يكرهونه وينهون الناس عنه ويبالغون في رده، أفيدونا ممّا علمكم الله تعالى وبيّنو لنا هـٰذه المسألة بيانا شافيا حفظكم الله تعالى؟ فقال:
(بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وكفي، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد: فاحتفال ميلادالنبي صلى الله عليه وسلم محمود ومستحب.
وله أصل من الكتاب، والسنة، والقياس، والإجماع، فلا يدخل في منطوق قوله صلى الله عليه وسلم من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد، بل يدخل في مفهوم مخالفته؛ لأنَّ هـٰذا ليس خارجا من الأمر بل منه؛ لأنّا نشكر الله سبحانه وتعالى على نعمة ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في العالم الذي تسبب منه كل هـٰذا الخير.
- أما أصله من الكتاب؛ فإنّ الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه العزيز في سورة الصف - الآية السادسة -: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ۖ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ بشّر عيسى عليه الصلاة والسلام بولادة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم قبل ولادته بفترة من الزمان، ونحن نستبشر بولادته صلى الله عليه وسلم وما تنشأ منها من الخيرات بعد ولادته صلى الله عليه وسلم.
- وأصله من الحديث هو: أنه صلى الله عليه وسلم سُئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: ذلك يوم وُلِدْتُ فيه، وبُعثتُ فيه، وأُنزل عليَّ فيه. رواه مسلم.
وفي صحيح مسلم أيضا: حدثتا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا مرحوم بن عبد العزيز عن ابن نعامة السعدي عن أبي عثمان عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خرج معاوية رضي الله عنه على حلقة في المسجد، فقال: ما أجلسكم؟
قالوا: جلسنا نذكر الله.
قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم وما كان أحد بمنزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل عنه حديثا مني، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه، فقال: ما أجلسكم؟
قالوا: جلسنا نذكر الله ونحمده على ما هدانا للإسلام ومنّ به علينا.
قال: آلله ما أجلسكم إلا ذاك؟
قالوا: والله ما أجلسنا إلا ذاك.
قال: أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم، ولكنه أتاني جبريل فأخبرني: أنّ الله عزّ وجلّ يباهي بكم الملائكة.
وعن جرير بن عبدالله رضي الله عنه: أن رجلًا تصدّق بصدقة، ثم تتابع الناس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً؛ فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً؛ كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ»؛ رواه مسلم.
ورأيت في كتاب الشيخ الدكتور الأستاذ الأكاديمي عبد العزيز محمد الشناوي المسمى "صور من حياة التابعيات" في قصة مريم الغنوية ما نصه:
"هكذا كان كسرى وملوك فرس يتخذون المدائِن مقرا لهم، وتسمى عندهم اكتيزيغون، وسماها العرب: المدائِن؛ لأنها كانت سبع مدائن يقع بعضها في غربي دجلة وبعضها الآخر شرقه، ولما علم كسرى بهزيمة جيشه في القادسية، وانّ سعد بن أبي وقاص يتقدم بجيش المسلمين نحو بابل أخذ كسرى أهله وما قدروا عليه من الأموال والأمتعة والخواص، وتركوا ما عجزو عنه من الأنعام والثياب والمتاع والآنية والألطاف والأدهان مالا يدرى قيمته، وكان في خزائِن كسرى ثلاثة آلاف الف الف دينار، فأخذو من ذلك ما قدرو عليه، وتركو ما عجزو عنه وهو مقدار النصف من ذلك، أو ما يقاربه، وكانت مريم وزوجها وبعض الجواري والعبيد من الذين تركهم كسرى، ولما جاء سعد بن أبي وقاص بالجيش دعا أهل القصر الأبيض ثلاثة أيام على لسان سلمان الفارسي، فلما كان اليوم الثالث نزلت مريم وزوجها ومن معها من القصر الأبيض فاتخذ سعد إيوان كسرى مصلى، وجمع سعد بن أبي وقاص صلاةالجمعة بالإيوان في صفر من سنة ست عشرة من الهجرة، فكانت أول يوم جمعة بالعراق، وأسلم بعض الأعاجم، وظل البعض يعبدون النار على أن يؤدو الجزية، فقامت مريم وزجها بدفعها في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول.
خرج المسلمون الى الميادين فرحين، وراحو يصلّون، ولعل هـٰذه الصلاة هى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فتساءلت مريم الغنوية: ما هـٰذا ؟ هل هـٰذا يوم عيد عند المسلمين؟
قال رجل من الأعاجم: إنّه عيد وليس بعيد.
فقال زوج مريم: ما ذا تعني؟
قال الأعجمي: إنّهم يزعمون ويدّعون أنّ في مثل هـٰذا اليوم منذ تسع وستين سنة ولد نبيهم، ولد في عام الفيل، قالت مريم الغنوية: كل ذلك من أجل مولد إنسان، لقد كان الأعاجم لا يحتفلون بميلاد كسرى هكذا الى آخر القصة.
- أما القياس من الكتاب؛ فهو أنَّا نقيس ذكرى ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم على قصص مواليد بعض الرسل والصالحين في القرآن الكريم؛ لأنّ الله أنزل في كتابه العزيز آيات من القرآن الكريم تتلى من وقت نزولها إلى قيام الساعة، تحدّث عن قصص مواليد بعض الأنبياء والصالحين:
منهم روح الله ورسوله المسيح عيسى بن مريم، من الآية السادسة عشر في سورة مريم «واذكر في الكتاب مريم» إلى« وإنّ الله ربي وربكم فاعبدوه هـٰذا صر ٰط مستقيم» وهي السادسة والثلاثون من سورة مريم.
ومنهم أمّه الوليّة القانتة مريم بنت عمران، من الآية الخامسة والثلاثين من سورة آل عمران«وإذ قالت إمرأت عمران ربّ، إلى «إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب » وهي السابعة والثلاثون من سورة آل عمران.
ومنهم رسول الله يحيى بن رسول الله زكريا، من الآية الثامنة والثلاثين من سورة آل عمران «هنالك دعا زكريا ربه» إلى «وسبح بالعشي والإبكـٰر» وهي الحادية والأربعون، ومن بدء سورة مريم إلى الآية الخامسة عشر.
ومنهم أبناء خليل الله إبراهيم عليهم الصلاة والسلام في قصص مكررة في القرءان.
- وأما القياس من الحديث: فإنه إذا كان صوم يوم ولادته سنّة شكرا لله تعالى بنعمة ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا فما يمنع أنْ نشكره سبحانه وتعالى بسائر القربات من تعظيمه والسرور بمولده ونشر تعاليمه وسرد سيرته والصلـٰوات عليه وقراءة القرءان الذي أُنزل عليه ومواساة الفقراء والضعفاء بالهدايا والصدقات وإقراء الضيوف الذين تجمّعو لهـٰذا الخير، وأن يسامح بعض الناس بعضا، وأن تجتمع الأمة مسرورين مستبشرين، وأن يدافعوا نبيّهم بقلبهم وقولهم وحالهم وفعلهم عن المؤذين الذين يذيعون الإشاعات ضد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وضد الإسلام والمسلمين، وأن يُدعى المسلمون إلى جمع الكلمة وإلى التحابب والتراحم والتعاطف.
وعلى المخالفين أن يقيسو أيضا جواز الاجتماع والاحتفال للمولد على ندواتهم الدينية واجتماعاتهم ومؤتمراتهم العالمية والمحلية.
- وأما الإجماع: فلا نعلم أحدا من أهل العلم منع الاحتفال لمولد الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما أحدث في القرن الرابع الهجري على ما قاله الأكثر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تجتمع أمتي على ضلالة، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه: ما رءاه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن.
وأما هــٰؤلاء الشرذمة الذين يتكلمون في هذا العصر الذي ظهرت فيه أكثر علامات الساعة: فليس خلافهم معتبرا، كما قال بعضهم
وليس كل خلاف جاء معتبرا
إلا خلاف له حظ من النظر
وقد قلت سابقا مجيبا عن هـٰذا السؤال: المولد ليس بمنكر، والمنكر ليس بمولد.
والمولد لا يحرّم حلالا كما أنه لا يحلّل حراما، فما كان محرّما في الشّهور الأخرى كان محرّما في هذا الشّهر وما كان مباحا فيها كان مباحا فيه، فلا زيادة إلا أن نشكر الله سبحانه وتعالى ونحمده بنعمة ظهور النبي صلى الله عليه وسلم في الدنيا في مثل هـٰذا الشهر ومثل هـٰذه الليلة من سنة ولادته، ولا بأس بتكرر الشكر لتكرر ذكرى ميلاده صلى الله عليه وسلم سنويا كما لابأس بتكرر الشكر بصوم الأثانين أسبوعيا.
فعلينا - معشر المحتفلين الفرحين المستبشرين بميلاده -: أن نراعي آداب الشريعة فيما نفعله ونقتصر على ما يفهم الشكر، ونحسّن النية والقصد، ولست أجد بيننا وبين من منع الفرحة بالميلاد النبوي ويطلبون منّا الاستدلال لها مثلا مناسبا لائِقا بالحال إلا ماقيل شعرا:
وليس يصح في الأذهان شيء
إذا احتاج النهار إلى دليل)
رضي الله تعالى عن شيخنا الحبيب، فو الله ما غادر شيئا 💚.