
14/08/2025
وقود الحروب
لماذا يُستَخدم الفقراء دائمًا في المعارك؟
وإلى متى يظل الوعي أسيرًا للتضليل؟
حقيقة راسخة عبر التاريخ
على مر العصور، ومنذ أن عرفت البشرية النزاعات المسلحة، كانت هناك حقيقة مؤلمة وراسخة: الأغنياء هم من يعلنون الحروب، لكن الفقراء هم من يموتون فيها.
إنها قصة متكررة عن السلطة والثروة والدم، حيث تُستخدم حياة الفقراء كوقود رخيص لإشعال نيران طموحات ومصالح النخب.
هذا الموضوع لا يهدف فقط إلى سرد هذه الحقيقة المرة، بل يسعى إلى الغوص في أعماق الأسباب البنيوية والاقتصادية والنفسية التي تجعل هذه الظاهرة مستمرة في الماضي والحاضر، وتطرح تساؤلاً مقلقاً حول مستقبلها.
والأهم من ذلك، إشكالية "الوعي المضلَّل"، وكيف يتم تطويعه ليصبح أداة في يد من يصنعون الحروب، بدلاً من أن يكون سلاحًا في يد من يقعون ضحيتها.
الفقراء في فوهة المدفع
تاريخيًا.
تلخيص الأسباب التي تجعل الفقراء هم المكون الرئيسي للجيوش المقاتلة في عدة نقاط:
* الضرورة الاقتصادية:
عندما تغيب فرص العمل الكريم والتعليم الجيد والرعاية الصحية، يصبح الانضمام إلى القوات المسلحة خيارًا مغريًا، بل وأحيانًا الخيار الوحيد. فالجيش يوفر راتبًا ثابتًا، وشعورًا بالاستقرار المادي حياتهم المعيشية .
* غياب النفوذ:
الطبقات الفقيرة تفتقر إلى النفوذ السياسي والاجتماعي الذي يمكن أن يحمي أبناءها من الذهاب إلى جبهات القتال مثل أبناء القادة العسكريين و قادات الحركات دارفور المسلحة و قادات الكتائب الإسلامية المعروفة فى السودان .
فعندما يتم إقرار التجنيد الإجباري أو حتى في ظل الجيوش التطوعية، نادرًا ما نجد ايضاً أبناء السياسيين وكبار رجال الأعمال وكبار قادة الجيش في الصفوف الأمامية.
* البحث عن فرصة للترقي الاجتماعي:
يُصوَّر الجيش في كثير من الأحيان على أنه أداة لتحقيق الذات والبطولة والارتقاء في السلم الاجتماعي. يصبح البطل العائد من الحرب، حتى لو كان مثخنًا بالجراح، رمزًا للتضحية.
تضليل الوعي:
كيف يتم تطويع العقول؟
السؤال الأكثر إلحاحًا هو:
لماذا لا يدرك الفقراء، أو قسم كبير منهم، أنهم يُستَغلون كأدوات في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل؟
هنا يأتي دور ما يمكن تسميته بـ "هندسة الوعي" أو "الوعي المضلَّل"، وهي عملية معقدة تستخدم فيها السلطات الحاكمة أدوات متعددة لتوجيه الرأي العام، وخاصة الطبقات الأكثر تهميشًا:
* الدعاية القومية والوطنية:
يتم تقديم الحرب على أنها دفاع مقدس عن "الوطن تُستخدم الرموز والأناشيد مثل أناشيد البرائون والخطابات الحماسية مثل ناجي مصطفى
لشحن المشاعر وتصوير العدو كتهديد وجودي يتطلب التضحية من الجميع. وإذا خالفتهم الرأي وقلت لا للحرب ، يصبح التشكيك في الحرب خيانة وطنية.
* الخطاب الديني:
كثيرًا ما يُستخدم الدين كغطاء أخلاقي لتبرير الحروب. يتم تقديم النزاع على أنه "حرب الكرامة " أو "دفاع عن العقيدة"، هذا الخطاب فعال بشكل خاص في المجتمعات التي يلعب فيها الدين دورًا مركزيًا، حيث يمنح المقاتلين شعورًا بالغاية السامية ويجعل تضحياتهم محملة بمعنى روحي يتجاوز المصالح السياسية والاقتصادية الحقيقية.
* صناعة البطولة وتجميل الحرب:
يقوم الإعلام، سواء عن قصد أو عن غير قصد، بتمجيد صورة الجندي وتصوير الحرب كساحة للشجاعة والبطولة، مع التركيز على قصص "الأبطال" وتجاهل الوجه البشع للحرب المتمثل في الموت والدمار والإعاقات الدائمة والصدمات النفسية. تُعرض الأغاني بعض الفنانين والفنانات تجعل من الخدمة العسكرية مغامرة مثيرة، لا حقيقة دامية.
* شيطنة الآخر:
لتبرير العدوان، لا بد من تجريد العدو من إنسانيته. يتم تصويره في وسائل الإعلام كـ "وحوش" أو "برابرة" أو "مرتزقة "، مما يسهل على الجندي عملية القتل ويقلل من الشعور بالذنب.
هذه العملية تخلق حاجزًا نفسيًا يمنع التعاطف مع الطرف الآخر، الذي هو في الغالب من نفس الطبقة الاجتماعية الفقيرة في بلده.
إلى متى يستمر هذا الواقع؟
إن الوعي الحقيقي لا يكمن فقط في إدراك حقيقة أن الفقراء هم وقود الحروب، بل في فهم الآليات المعقدة التي تُبقي على هذه المعادلة. الوعي الحقيقي هو القدرة على تفكيك الخطابات القومية والدينية والإعلامية، ورؤية المصالح الاقتصادية والسياسية التي تختبئ خلفها.
إلى متى سيظل الفقراء لا يدركون ذلك؟
الإجابة تكمن في مدى قدرتهم على تجاوز "الوعي المضلَّل" الذي يُقدَّم لهم، والوصول إلى "وعي طبقي" حقيقي يدرك أن عدوهم الحقيقي ليس الفقير الذي يقف على الجانب الآخر من الحدود، بل المنظومة التي تزج بكليهما في أتون حرب لا تخدم إلا مصالح قلة قليلة. وهذا الطريق نحو الوعي الحقيقي طويل وشاق، لأنه يتطلب تعليمًا نقديًا وإعلامًا مستقلاً وشجاعة لتحدي المسلمات التي تم ترسيخها على منذو 56.
فالحرب في جوهرها ليست قدرًا، بل هي قرار، والضحايا ليسوا أرقامًا، بل هم بشر كان من الممكن أن يعيشوا لو أن الوعي انتصر على التضليل.
تحياتي لكم
مصطفى صديق