15/11/2025
#سوريا
الاقتصاد المتغير
أ.د. عماد الدين أحمد المصبح
يشهد الشارع السوري حالة من التململ الاجتماعي كرد فعل مباشر على تعديل هياكل التكاليف ورفع الدعم ولفهم جذور القلق الحالي، لا بد من تفكيك معمار علاقات الإنتاج والتوزيع الذي حكم سوريا منذ ستينيات القرن الماضي (تحديدا من عام 1958). في هذا النموذج، لم تكن المتغيرات الاقتصادية الأساسية كالأجور والأسعار تخضع لمنطق السوق الحر، بل كانت أدوات سيادية في يد الدولة لإدارة المجتمع وتحقيق التوازنات السياسية.
فالأجور، في القطاع العام تحديداً، لم تكن مقابل الإنتاجية، بقدر ما كانت منحة اجتماعية تضمن بها الدولة ولاء الموظف وتؤمّن له حداً أدنى من العيش. هذا الدور الاجتماعي للأجر رسّخ انفصاله المنهجي عن الإنتاجية والواقع، وبالتالي فك ارتباطه بمنطق التسعير القائم على التكلفة الحقيقية.أما الأسعار، فكانت أبعد ما يكون عن كونها المعادل النقدي للقيمة. لقد كانت أسعارا إدارية بامتياز، تستخدمها الدولة كأداة سياسية لإعادة التوزيع.
هذا التشابك المعقد بين الاقتصاد والاجتماع أدى الى الاستقرار الاجتماعي على حساب الديناميكية الاقتصادية، حيث ضحّت الدولة بالاقتصاد من أجل الاستقرار الاجتماعي وهذا الوضع شكّل في الوعي المجتمعي شبكة أمان هشة ضمنت فيها الدولة شكلياً التوظيف، وفاتورة كهرباء قليلة، وربطة خبز بسعر قليل، وأجرة نقل قليلة، هذه التفاصيل نسجت مفهوم السعر المعقول
اليوم، ومع الشروع في تفكيك هذا الإرث والانتقال نحو نموذج اقتصادي حقيقي ، فإن الإجراءات المتخذة ليست مجرد تعديلات تقنية فرفع الدعم وتحرير الأسعار هما بمثابة هدم لشبكة الأمان، وهنا يكمن جوهر ردة الفعل الشعبية التي تتجاوز الأيديولوجيا.
إنه ليس حنيناً للماضي الاشتراكي، بل هو حنين إلى الاستقرار وفي هذا السياق، تبدو متلازمة العبد الذي يقاوم حريته دقيقة للغاية؛ فهي تصف حالة الفرد الذي اعتاد على نظام من التبعية المضمونة والأمان المكفول، ليجد نفسه فجأة في مواجهة السوق الحر المحفوف بالمخاطر والغموض. إنها مقاومة نفسية للانتقال من عالم الحقوق الممنوحة إلى عالم الفرص المفتوحة
إن تجاهل هذا في عملية التحول الاقتصادي خطأ فادح. فالتحدي الأكبر ليس تقنياً أو مالياً، بل هو تحدٍ اجتماعي وثقافي. فالانتقال الناجح لا يحتاج إلى أدوات تقنية فحسب، بل إلى سردية وطنية مقنعة ودراسات اجتماعية تجيب عن أسئلة وجودية يطرحها المواطن اليوم: لماذا نُصلح؟ من سيدفع الثمن ومتى؟ وما هو المقابل المأمول؟
الإجابات لا يمكن أن توجد إلا في صياغة عقد اجتماعي جديد يضمن الاستقرار بمفردات محدثة مثل شبكات أمان اجتماعي ذكية ومستهدفة، أجور عادلة مرتبطة بالإنتاج الحقيقي، وأسعار تكشف الحقيقة الاقتصادية مع حماية الفقراء.عندها فقط، يمكن للسعر أن يتحول في الوعي الجمعي من كونه وعداً أبوياً قديماً بالحماية، إلى أداة شفافة وعادلة لبناء الثقة في اقتصاد المستقبل.