19/12/2024
ثلاثة وعود وغواية واحدة
وليد عبد الحي
لو جعلنا نقطة البداية لا يوم سقيفة بني ساعدة ، بل لنبدأ من يوم اعلان استقلال كل بلد عربي في التاريخ المعاصر ، فان وعودا ثلاثة صبغت الخطاب السياسي العربي بألوانه الآيديولوجية المختلفة، وقد تبادل على كرسي السلطة في جميع الدول العربية منذ استقلال كل منها 134 حاكما ، وعند اجراء تحليل لمضمون خطاباتهم تبين أنها قامت على وعود ثلاثة مجتمعة او منفردة ، هذه الوعود هي:
1- تحرير فلسطين
2- الديمقراطية والعدالة الاجتماعية
3- الوحدة العربية واحيانا الاسلامية.
وكان احد هذه الوعود يتغلب على الوعدين الآخرين حسب المرحلة التاريخية، واحيانا يترافق اكثر من وعد في ذات الخطاب السياسي للنظم الجديدة ، ومع أن درجة " استقرار الوعد " في النظم الملكية كان اقل ضجيجا منه في النظم الجمهورية ، إلا أن "الفشل" في كل هذه الوعود هو ما يجمع ال 134 حاكما، ويكفي الوقوف عند المؤشرات الكبرى التالية:
أ- الوعد الاول: بدلا من تحرير فلسطين ، توسعت اسرائيل جغرافيا على حساب الضفة الغربية وقطاع غزة، وعلى حساب دول عربية اخرى، في الجولان، وتقييد السيادة المصرية على سيناء، بل ان الطائرات الحربية الاسرائيلية ضربت الاردن ومصر وسوريا والعراق ولبنان واليمن والسودان وتونس علنا، ولا ندري كم مرة ضربت استخباراتيا دولا اخرى بقتل العلماء والقادة ..الخ ، كما أن مكاتب الموساد اصبحت مستقرة في دول عربية لتساهم معها في الوساطة بين المقاومة واسرائيل ، وبدلا من المقاطعة لاسرائيل تزايد التطبيع مترافقا مع المذابح في الضفة الغربية وقطاع غزة ، وتحولت دول عربية من مشارب آيديولوجية مختلفة الى وسيط علني وسري بين الفلسطيني والاسرائيلي، واصبحت اية مقاومة للمشروع الاستيطاني الصهيوني " مغامرة"...وهكذا توسعت جغرافية اسرائيل ، وبدأ تنفيذ مفهوم اسحق رابين لاسرائيل الكبرى والذي يعني اسرائيل الكبرى الاقتصادية وليس السياسية، وتتشارك الآن دول عربية مع اسرائيل في مشاريع اقتصادية مختلفة ناهيك عن تبعية الطرفين للقيادة المركزية للقوات الامريكية ولتفاهمات مشتركة مع حلف الناتو...
ب- أما الوعد الثاني بالديمقراطية والعدالة الاجتماعية ، فلا اريد الخوض في تفاصيلها الناصرية والبعثية والقذافية والنميرية و مشاريع خصومهم من الوهابية والاخوانية والشيوعية ، ولكني احيل القارئ الى نماذج القياس العلمية المعتمدة ليجد أن المنطقة العربية تقف في معدل ترتيبها في البعدين(الديمقراطية والعدالة الاجتماعية) بعد المرتبة 132 من 193 دولة في الامم المتحدة، وتقف في طليعة دول العالم في مؤشر العسكرة، مما يعني ان التحول نحو ثقل المؤسسات الخشنة هو بديل الديمقراطية وتآكلت الطبقة الوسطى بدلا من تحقيق العدالة الاجتماعية، اي ان الكذب هو الظاهرة التاريخية في الخطاب العربي بخصوص هذا الوعد.
ت- الوحدة العربية "والوحدة الاسلامية": منذ الاستقلال المزعوم وانشاء الجامعة العربية ، ظهرت عدة تجمعات او مجالس اقليمية فرعية عربية( الوحدة المصرية السورية، ميثاق طرابلس، مجلس التعاون العربي، مجلس التعاون الخليجي ،اتحاد المغرب العربي...الخ)، وكانت نتيجة هذه الشبكة انفصال جنوب السودان، وظهور تنازع حاد حول الصحراء الغربية بين المغرب والجزائر، وتنامي النزعات الانفصالية للاقليات العربية من اكراد او مسيحيين وبربر ودروز، وبين يَمَن شمالي وآخر جنوبي ناهيك عن صراعات خليجية واكثر من 37 حربا اهلية عربية عربية بعد الاستقلال..، ويضاف لذلك كله، ان حجم التجارة البينية بين العرب هو الاقل قياسا للتكتلات الاقتصادية الإقليمية، اما البعد الخاص بالوحدة الاسلامية، ورغم قلته في الادبيات الاسلامية العربية فقد انتهى الى سنة وشيعة، وحزب تحرير واخوان مسلمين وعشرات الطرق الصوفية ، بل وانتهى باعتراف 32 دولة اسلامية باسرائيل، وهكذا تجزأت الجغرافيا والواقع القائم شاهد على ذلك، بل ان حزب البعث الذي وعد بالوحدة والاشتراكية استولى على السلطة في بلدين عربيين هامين ومتجاورين بل ملتصقين ولمدة تقارب النصف قرن، لكنه لم ينجز إلا صراعا بين فرعي البعث يكاد أن يكون من اسوأ ما عرفه التاريخ العربي بوعوده الكاذبة، بل كانت الحرب بينهما اقسى من حروب من جزأ الوطن العربي الذي جاء البعثيون لتوحيده.
ومن خلال اطلاعي الدائم على نماذج قياس مؤشرات الاختراق الخارجي للدول ، اجمع تسعة من الباحثين المرموقين من دول مختلفة وباستخدام مناهج وطرق قياس مختلفة على ان اعلى اختراق أجنبي لأروقة السلطة السياسية والتاثير في استقلالية قرارها هو في الدول العربية وبفارق كبير عن بقية دول العالم النامي.