
15/09/2025
كيوكو.. موسم حصاد الأحلام
حضور الغياب في فيلم عن العودة إلى صورة الوطن
الكتابة من خلال لوحة مفاتيح الحاسوب أصبحت عادة، عندي كما عند الجميع؛ لكن عندما يتمكن فيلم أشاهده من دفعي للعودة إلى القلم والورقة البيضاء، وتأنيق الكتابة، هذا أثر يعلمني أنني بصدد فيلم مختلف يزحف داخل مشاعرنا فيظل ملهمًا ويبقى مؤثرًا في التاريخ الغامض للنفس البشرية وسعيها الحثيث نحو فهم جوهرها.
فيلم (كيوكو.. موسم حصاد الأحلام)..
هنا ستواجه فكرة أنك تعاين تجربة طازجة، لكنها ليست طزاجة البدايات، إنها بداية تَفَتُّح وعيٍ مفارِق، يتخطى المعرفة ويتجاوز العلم. إنه وعي بذات عصية، وبحث في المفاهيم الغامضة عن الفن والعلاقة بين الفنان والعمل الفني والموضوع المحتمل أن يتحول إلى عمل فني، والفضاء الذي يضمن مساحة من التواصل بين العمل والفن والحياة.. بين فن وآخر: الرسم والتصوير الفوتوغرافي، التصوير الفوتوغرافي والشعر، والرقص، والموسيقى والسينماتوغرافيا، والخط، والحياة ذاتها بجمالها.. جماليَّاتها، وجماليَّتها.
إنه نص فلسفي لن يفهمه الجميع، ولا يشترط أن يفهمه الجميع.
كل ما هو مطلوب منك كمتلقٍ أن تتأمل الصور المتدفقة وتكتشف ذاتك التي لن تراها إلا على شاشة السينما، وتحديدًا في فيلم كهذا.
عند هذه النقطة أجد قولًا مأثورًا يلح عليَّ للفنان الأمريكي الذي صُنّف على أنه تجريدي (مارك روثكو Mark Rothko): "الرسمة ليست تصويرًا لخبرة؛ الرسمة في حد ذاتها خبرة A painting is not a picture of an experience, It is an experience".
صانع الأفلام الجزائري الفرنسي (حميد بن عمرة) في هذا الفيلم، وربما في أفلامه السابقة أيضًا يقدم لنا هذه الخبرة الجديدة كلِّيًّا ويشاركنا في تأمل رحلته التي يقتفي خلالها أثر ذات عمرها تخطى آلاف السنين. عمرها من عمر حضارة الإنسان على الأرض التي بدأت منذ وعي هذا المخلوق المتفوق بقدرته على التواصل مع بني جنسه ليَخُطَّ أول أعماله التي قد تُعَدُّ فنًا وقد نعتبرها اللغة منحوتة على الصخر.
فيلم (كيوكو.. موسم حصاد الأحلام) يتتبع عودة الفنانة كيوكو ساكازاكي Kyoko Sakazaky وهي خطاطة وفنانة أزياء فرنسية من أصل ياباني إلى موطنها الأصلي.
هذا ما يبدو في البداية من العنوان الذي يأخذ من اسمها الأول واجهة ومن اللقطات الافتتاحية التي تصور من خلال لقطات قريبة رحلتها تلك إلى اليابان، وفي الخلفية مقطع من أغنية عربية غناها مارسيل خليفة من كلمات الشاعر محمود درويش؛ تقول: "يطير الحمام .. يحط الحمام" وهي إشارة لن يغفل عنها أحد حيث الحمام رمز للسفر والعودة الدائمة إلى عُشِّه (وطنه) آخرَ النهار، عندما يرهقه التعب من الدوران في الفضاءات الرحبة؛ يفضل العودة إلى مساحته المحدودة بجسده المهدود الراغب فقط في ليلة أنيسة ودعة آسرة.
يتماهى مع ذكر الحمام ذلك العنوان الذي يشير إلى موسم الحصاد، لكن الحصاد هنا للأحلام، كلمة الأحلام في العنوان فتحت عيني على فكرةٍ شخصيةٍ تراودني دائمًا عندما أسافر خارج الوطن، حيث أشعر كأنني في حلم وأن كل ما حولي غير حقيقي، الناس والأشياء رموز وعلامات تسبح في عالم خرافي.. ربما تكون الأحلام سعيدة وقد تتحول أحيانًا إلى كوابيس، لكنها تتفق جميعًا في يقين لدَيَّ أنها ستنتهي حتمًا في نفس اللحظة التي تطأ فيها قدمي اليمنى أرض المنتهى.
يبدو افتتاح الفيلم هكذا تقليديًا، لكنه لن يستمر كذلك طويلًا ليتحول إلى عمل فني تغريبي، يكسر الاعتياد فيما يفسره التعليق لاحقًا بصوت ستيفاني بن عمرة عندما تقول: "لقد سافر إلى طوكيو ليصوِّرَ امرأة تطارد طفولتها؛ فإذا به يصور أحلامه القديمة" هذه نقطة مهمة لفهم الكيفية التي تطور بها فيلمنا، حيث -كما يُذكر في التعليق- هناك "البلد الذي نحمله في أحلامنا، والبلد الذي ينمو بعيدًا عن حياتنا".
وكما أن (البلد الذي ينمو) سيُخَيِّب دائمًا تصوراتنا عنه والتي تنمو هي أيضًا في بيئة مستقلة منفصلة وبعيدة تمامًا عن الأصل؛ لا يصبح هناك جدوى للاستمرار في خداع أنفسنا بفيلم عن عالم غير موجود، لأن (حميد بن عمرة) رغم الأسلوب الشعري الذي يحرص عليه في سردياته السينمائية، لا يميل إلى الصور الكاذبة.. إلى الحيل والتقنيات المفروضة على الواقع، فيحول مسار فيلمه إلى بحث عن الفن يتطور سريعًا إلى بحث عن الذات في الفن، والفنية في الذات، وهو ما يجعلني أستطيع وأنا مطمئن تمامًا أن أصنف فيلمه كفيلم انطباعي يكتشف مؤلف الفيلم (صانعه المهيمن على تفاصيل روايته) ذاته من خلال مظاهر العالم المحيطة فتتحول الشخصيات والأماكن والتكوينات إلى انعكاس لروح هذا الفنان مثلما فعل رموز المدرسة الانطباعية في لوحاتهم قديمًا.
يمكننا تفكيك الفيلم إلى عدة مراحل: في البداية ومنذ ما قبل التترات نجد السرد كما ذكرنا، يحيلنا إلى رحلة الطير المسافر، الفنانة اليابانية المهاجرة إلى وطنها. بعد ذلك؛ يمهد لنا التعليق فهم العمل الفني الذي يشرع أن يكشف لنا حاله من خلال التساؤل السلبي عن ما لَيْسَهُ الفيلم؟!
نقاط عديدة تبدأ ب(هذا الفيلم ليس كذا وكذا وكذا…) إنه إدراك سابق من صانع الفيلم، وأعتقد أنه إدراك جاء في مرحلة ما بعد التصوير وقبل المونتاج، أن موضوع فيلمه قد تغير، أو يجب أن يتغير، فتحول من الحديث عن العودة إلى الوطن إلى بحث في كنه الفن، مفهوم السينما، علاقة الرقص بالفضاء والموسيقى باللغة والخط باللوحة والشعر بالمونتاج السينمائي، وتصميم الأزياء بحميمية التقاء القماش بالجسد.
نتعرف على أبطال العمل الذين يشكلون محاور السرد الرئيسية من خلال تساؤل كل منهم عن فنه، الراقصة التعبيرية الفرنسية سناء داردن Sanae Dardennes، والموسيقي الإسباني رودريج برڤويه Rodrigue Bervoet وفنانة الخط والملابس اليابانية كيوكو ساكازاكي Kyoko Sakazaki التي تكون عادة صامتة، نادرًا ما تتحدث لكنها تعبر دائمًا من خلال ممارستها لفنها على اللوحة أو القماش الذي تفصِّله للراقصة وعلى جسدها، وصانع الفيلم (المؤلف) حميد بن عمرة الحاضر بصورته على الشاشة وصوته من خلال التعليق الصوتي، دون أن يجتمع صوته وصورته معًا!
لا يتحدث مباشرة في المَشاهد التي يظهر فيها، كأنه أثناء التصوير التزم بدور الشاهد، لكنه من خلال التعليق الصوتي يظهر كثيرًا بكثافة شارحًا مفهومه عن السينما باستفاضة وتفصيل، كأنه قرر في مرحلة المونتاج الذي قام به هو أيضًا أن تكون مشاركته أكبر، أو حتى أنه يستحق أن يكون الفيلم عنه أكثر من أي شخص آخر.
مع استمرار السرد يتحول تساؤل الأبطال من (ما هو الفن؟) و(ما العلاقة بين فن وآخر؟!)، إلى التساؤل: (من أنا؟!)، ثم أخيرًا يأتينا صوت (ستيفاني بنعمرة) الفنانة والكاتبة الفرنسية، الشريكة الأثيرة لصانع الفيلم في كل أفلامه وفي حياته أيضًا، والتي تحضر هنا كذلك ولو لم تكن ظاهرة على الشاشة وهي أصلا ممثلة، لكنها تأتينا بصوتها مجيبة عن سؤال: من هو؟!
الإجابة تتحدث عن ال(هو) دون أن تخبرنا من يكون (هو)، لكن يبدو شبه واضح لنا أنها تقصد حميد بن عمرة نفسه الذي خرج باحثًا عن (آخر) ثم ما لبث أن اكتشف ذاته في ذلك الآخر.
خدعة التشظي:
البعض ذهب للقول بتشظي الحبكة في فيلم (كيوكو.. موسم حصاد الأحلام) إحالة إلى مقولات منظري ما بعد الحداثة، وهو من وجهة نظري انخداع مسبَّب لكنه لا يشير إلى حقيقة الحبكة، أسباب الانخداع عديدة منها على سبيل المثال ذلك الكم الضخم من اللقطات شديدة الإحكام تكوينيًّا وتعبيريًّا، ذلك الإحكام الذي جعل الفيلم أشبه بقصيدة عربية عمودية قديمة كل بيت فيها وحدة كاملة متكاملة يمكن تناولها كعمل فني مستقل، كل لقطة في الفيلم يمكن عرضها كصورة فوتوغرافية ثابتة وستكون مكتفية بذاتها، ضنينًا ما يلجأ صانع الفيلم إلى تحقيق تتابع مشهدي (Sequence)، لا يبدو أنه من الأساس شغل باله بذلك.
نقطة أخرى تحيل إلى هذا الاعتقاد وهي البينية في النمط، الفيلم ليس تسجيليًا بحتًا لأنه لا يتابع أو يعيد تصور الواقع، بل يعيد صناعته: المكان في اليابان لكن الأبطال جاؤوا من الخارج، ووُضِعوا في الحيز الزماني والمكاني دون أن تكون هذه التجربة محور الفيلم، لكنه يناقش من خلال التجربة مفاهيم غير مادية مثل ماهية الفن والعلاقة بين الفنون وكنه السينما وتفسير ما هي عليه ومعنى وجودها وكيفية تحققها، أي سيرورتها وصيرورتها.
في نفس الوقت، هل يمكن اعتبار الفيلم تخييليًا؟!
الإجابة أيضًا لا، رغم أن العلاقات بين الشخصيات تبدو مفتعلة ومقصودة حتى نتساءل في لحظات معينة إن كانت الراقصة الشابة هي حفيدة الفنانة اليابانية بطلة الفيلم، أم أن الأمر كما ورد في الحوار مجرد تشابه، لكن جميع شخصيات الفيلم يظهرون بحقيقة واقعهم ولا يؤدون أدوارًا تمثيلية، لذلك فالفيلم لا يمكن اعتباره تسجيليًا ولا تخييليًا (روائيًا)، لكن بيني وبينكم؛ لو كنتُ موزعَ الفيلم لفضلت أن يصنف الفيلم كوثائقي، ذلك أقرب لتمكين توزيعه على المنصات دون أن يواجه رفضًا سببه عدم الفهم.
التحول الصادم في موضوع الفيلم من كونه أصلًا عن عودة الفنانة اليابانية إلى مسقط رأسها، ثم نفاجأ بالانخراط في البحث عن ذات المخرج ومفهومه عن السينما، سبب آخر للانخداع وتصديق أن الفيلم مرتجل، وأن كل لقطة كانت وليدة اللحظة، لكنه اعتقاد مردود عليه في الحوار بشكل مباشر، عندما جاء التعليق بصوت المخرج معلنًا أن الارتجال (رغم حضوره) أمر محسوب وليس عشوائيًا؛ إنها ملاحظة مهمة تذكرنا بكون الارتجال مكونًا أساسيًّا من مكونات ثقافتنا العربية، لطالما عقدت حلقات الارتجال بواسطة شعراء الفصحى والشعراء الشعبيين، ونذكر في تاريخ المسرح المصري بينما أراد فنانوه الأوائل، في القرن التاسع عشر، القادمون من الشام بعد ارتحال في أوروبا فرض ذلك النمط الرصين للمسرح الأوروبي في أقصى حالات تطوره ورسوخ تقاليده، تقبل عامة الجمهور في مصر نوعًا آخر من الفرق المسرحية الشعبية التي كان الارتجال جزءًا من أدائها، والحوار بين الممثل والجمهور محتملًا دائمًا وممكن عادة، وحاضرًا في أغلب الأوقات. كذلك كان الشعراء الشعبيون دائمًا يتبارون في الارتجال وما يزالون في مختلف الأقطار العربية يفعلون ذلك، فليس غريبًا علينا أن يتشبث بهذه الروح مخرجنا الجزائري الحاضر بثقافته العربية رغم طول عيشه بفرنسا.
إذا تجنبنا خدعة التشظي الظاهري للحبكة؛ نستطيع أن نرى بوضوح أن الفيلم قائم على بنية خطية تقليدية، إنها حتى ليست بنية دائرية تنتهي من حيث تبدأ بل ثمة حبكة خطية واضحة تبدأ بوصول (كعادة الأفلام) وتنتهي بمغادرة.
هناك محور رئيس هو رحلة الفنانة اليابانية إلى مسقط رأسها، وهناك خطوط فرعية كل منها مرتبط بإحدى الشخصيات: الشابة الفرنسية، والموسيقي الإسباني، والمخرج العربي.
كل خط من هذه الخطوط يتقدم مستقلًا ومتفاعلًا مع الخطوط الأخرى.
الراقصة الفرنسية هي أكثر الخطوط التقاء وتفاعلًا مع الخط الرئيس، صحيح أنها فرنسية، ملامحها أقرب إلى الأوروبيين ببشرة فاتحة وشعر وعينين ملونتين وقَدٍّ منحوت على مثالٍ أقرب إلى صور الإغريق والرومان القدامى عن ربات الجمال، لكنها كما تحكي بنفسها تجري في عروقها دماء يابانية إذ إن جدتها قدِمت من اليابان واستقرت في فرنسا حيث نسيت يابانيتها لكنها أيضًا لم تتحول إلى فرنسية. علاقة بين الشابة والفنانة اليابانية يصفها السرد بأنهما تمثلان المستقبل والماضي واحدة للأخرى.
سناء داردن كراقصة تعبيرية حاضرة بفنها الذي تمثله لكنها أيضًا تحقق التعبير عن العلاقة بين المحاور الأخرى، لا تكتفي بتمثيل تلك التأملات في طبيعة فن الرقص وعلاقة الراقص بالفراغ ومقاومته للهواء، التيار الذي لا يمكن أن يجرفه إن لم يسمح له هو بذلك، إنها أيضًا تكرس جسدها لتعبير كيوكو فنانة الملابس والخطاطة عن فنها، فتصبح مرة موديلًا تنطبع على ثنايا جسدها موجات القماش الحريري، ويتحول جسدها نفسه للوحة حية تنقش عليه الأخرى كتاباتها اليابانية، والكتابة في اليابان لها تاريخ أنثوي مميز حيث طورت نساء الطبقات النبيلة أسلوبًا تشكيليًا خاصًا في النقش، خطٌ مميز عن خطوط الكانجي الصعبة التي استوردها اليابانيون من الصين، لم يكن ذلك فقط لصعوبة خط الرجال، لكن أيضًا لأن النساء كن ممنوعات من التعلم فتحايلن بابتكار خط تشكيلي يمكن أن يتحول إلى لوحات وتطريز على الأقمشة ويبقى في نفس الوقت وسيلة للتواصل. إنها الأنوثة التي تطغى على صناعة الفيلم كما يذكر صانعه في التعليق.
رودريج برڤويه، الموسيقي الإسباني الذي يتجول في اليابان مع جيتاره، يجلس وحيدًا يغني ويعزف ويشرح تفاصيل تخص الموسيقى ورؤيته عن هذا الفن، يلتقي أحيانًا بالراقصة، فكلاهما يمارسان فَنَّين متعانقين، هو يعزف وهي ترقص، وفي مشاهد محدودة يظهر الأبطال الثلاثة معًا في تكوينات تعبيرية يتبادلون خلالها المواقع دون أن يكون هناك تفاعل حقيقي مثل الذي لاحظناه في مشاهد الأنثيين، حتى عندما تظهر الراقصة كما لو كانت ترقص على أغنية العازف نجد التقطيع بين اللقطات يكسر تسلسل هذه العلاقة فيتحول المشهد إلى سلسلة من اللقطات التي تقدم تكوينات مختلفة لنفس الأشخاص في نفس المكان، وليس تتابعًا مشهديًا تقليديًا.
أخيرًا المحور الرابع وهو بن عمرة نفسه الموجود دائمًا مع الجميع، حاضر بتكويناته البصرية وبذاته أيضًا، غالبًا كشاهد دون أن ينخرط في فعل ما مع الآخرين، رغم إشارات محدودة مثل ظهوره مع الراقصة/الموديل في لقطات محددة أو تكرار عنصر ما عند ظهوره منفردًا وتصويرها منفردة؛ مثل التمر أو غرفة الفندق نفسها التي التقطت صورته وصورتها فيها، وهي علامات قد يمكننا الإسهاب في تفسيرها. لكنني أتركها لخيال المتلقي.
مع هذه الخطوط نجد محورًا خامسًا موازيًا لهم جميعًا وهو محور صوتي يتمثل في تكرارية أغنية وموسيقى مارسيل ورامي خليفة. تبدأ مع ما قبل التترات وتصاحبنا من خلال توزيعات مختلفة، أحيانًا بالكلمات وأحيانًا كموسيقى مختلفة السرعات حتى النهاية متعلقة ورابطة بين مختلف المحاور الأخرى، وبذلك يتأكد انغلاق حبكة الفيلم وعدم تشظيها.
حضور اليابان:
اليابان مكان أحداث الفيلم، لكنها غير حاضرة، بدا لي ذلك تأكيدًا من صانع الفيلم على الصدمة التي تلقتها البطلة كيوكو عند عودتها لمسقط رأسها واكتشافها أن العالم الذي كان حاضرًا بذاكرتها، أو بالأحرى في أحلامها، ليس موجودًا في الحقيقة إطلاقًا.
أعتقد أن كثيرين منا مروا بذلك في حياتهم لأسباب عديدة، أذكر يومًا وأنا أفضفض مع صديق عراقي عن صدمتي عندما عدت إلى مدينتي التي ولدت وتربيت بها فلم أستطع أن أتعرف عليها إطلاقًا، فصدمني بأنه عندما عاد إلى بلدته في العراق بعد سنين من الغربة لم يجدها أصلا فقد انمحت من الوجود تمامًا.
تُرجم هذا الغياب من خلال الفيلم بشكل مباشر، تخيل أنك في اليابان ولن ترى اليابانيين كثيرًا حتى عندما ترقص سناء داردن وخلفيتها مطعم أو مقهى كبير يظهر من خلال عدسة متسعة الزاوية مزدحمًا بالناس؛ ستلاحظ أن الجميع -تقريبًا- سائحون بملامح أوروبية، ولن تجد إلا بعض النادلات اللاتي تتحركن سريعًا قد تكن يابانيات.
عندما يظهر اليابانيون في لقطات قليلة إما في الشوارع المزدحمة، على الطريق ربما إلى أعمالهم، أو آخر النهار في قطار الأنفاق منهكين عائدين بوجوه بائسة، كل هذه اللقطات تبدو بألوان قليلة التشبع وعالية التشويش على خلاف معظم لقطات الفيلم، أميل إلى تصديق أن ذلك كان عقابًا فنيًا للأحلام المفقودة في عالم اليابان الحقيقية وليس المتخيلة، لكن ربما كان حلًا تقنيًا للتصوير في إضاءة ضعيفة وغالبًا بكاميرا أكشن صغيرة جودتها لا تضاهي الكاميرا التي صور بها الفيلم، خاصة وأن نفس الكاميرا استخدمت في جانب من لقطات داردن في جو يبدو شتويًا شحيح الضوء، وفي حديثها إلى الكاميرا، وظهر أيضًا في هذا المشهد تشويش محدود في الصوت مما يرجح أن المسألة كانت حلا تقنيًا لكنه كان في محله تمامًا بسبب ما أضفاه على اللقطات من حميمية الطبيعية وعدم الافتعال.
كيوكو.. موسم حصاد، الأحلام هو عمل لا يمكن أن نحكيه ولا أن يوفيه الحكي ما يستحق، إنه مساحة بوح وتجربة تلقٍ يجب لتعرفها حقًا أن تعيشها، هو ليس نوعًا من أنواع الفيلم، لكنه شكل من أشكال الفلسفة، لن تعرف أنك تحتاجه؛ لكنك عندما تعرف.. ستحتاجه.
أحمد صلاح الدين طه
١٥ سبتمبر ٢٠٢٥
[email protected]
(كيوكو.. موسم حصاد الأحلام) حضور الغياب في فيلم عن العودة إلى صورة الوطن
https://dedalum.at.ua/publ/ahmed_salah_el_deen_taha/kyoko_the_dream_harvest_season_directed_by_hamid_benamra_sanae_dardennes_kyoko_sakazaki_rodrigue_bervoet/1-1-0-240
رابط بديل:
https://dedalum.blogspot.com/2025/09/blog-post_15.html
الكتابة من خلال لوحة مفاتيح الحاسوب أصبحت عادة، عندي كما عند الجميع؛ لكن عندما يتمكن فيلم أشاهده من دفعي للعودة إلى القلم والورقة البيضاء، وتأنيق الكتابة، هذا أث....