
10/10/2025
بما إن الجو بدأ يبرد، والليل بدأ يطول، واحنا اليوم في إجازة، قلنا في ضفاف النيل نقدم لقرائنا الاعزاء واحدة من قصص الرعب "الخفيفة" الملائمة للأمسيات الباردة.. ولكن بما أنها طويلة "شوية"، فكرنا ننزلها بدري شوية..
القصة بعنوان "العجوز المخيف" بقلم الكاتب الأمريكي "هوارد فيليبس لافكرافت"؛ الاسم المعروف في عالم قصص الرعب.. والقصة من ترجمة الزميلة الأستاذة "شهد مجدي عُطيان" Shahd Otyan ؛ الاسم الواعد في عالم الترجمة.....
العجوز المخيف
عقد "أنجیلو ریتشي" ورفیقاه "جو تشانك" و"مانویل سیلفا" العزم على زیارة بیت الرجل المخیف. كان هذا الرجل يسكن بیتًا قدیمًا جدًّا بشارع ووتر على مقربة من البحر. وكانت الألسنة تتهامس بأنّه یملك من المال ما یفتن العقول، ومن الضعف والوھن ما یثیر الشفقة. ومثل ھذا الحال یستثیر شھیة أمثال "ریتشي"، و"تشانك"، و"سیلفا"؛ فهُم لم یعرفوا من المهن إلا تلك التي تخاصم الشرف والكرامة؛ ألا وھي السرقة.
یقول أھل كینجزبورت أشياء كثیرة عن ذلك العجوز المخیف، ویشیعون عنه ما یكفي لأن یُبقي رجالًا من نوع "ریتشي" ورفاقه بعیدین عنه، على الرغم من یقینهم تقریبًا أنّ بین جدران بیت العتیق الذي يعبق برائحة العفن كنزًا لا یُقدّر بثمن. كان في حقیقته رجلًا غریب الأطوار، یظن الناس أنّه قاد یومًا سفن الھند الشرقیة الكبرى؛ فقد مضت به السنون حتى غابت ملامح صباه عن ذاكرة الناس، وانسدل على اسمه ستار العزلة والصمت، حتى جهل الناس اسمه الحقیقي. وفي فناء بیته المهمَل، وبین الأشجار العجفاء الملتویة وضع الرجل العجوز مجموعة غریبة من الصخور الضخمة، رتّبها على نحو عجیب ودھنها بألوان تُظهرها؛ كأنّها أصنام متهالكة في معبد شرقي مھجور. كانت تلك الأشجار وحدھا كفیلة بأن تردع معظم صبیة الحي؛ أولئك الذین یجدون متعة في السخریة من شعره الأبیض الطویل، ولحیته المرسلة، أو قذف نوافذ بیته الضیقة بأحجارھم العابثة. غیر أنّ ثمة ما هو أدهى؛ ما یثیر في نفوس الكبار ـ المتطفلین بدافع الفضول ـ رهبة أشد حین یتسلّلون في الظلام لیتجسّسوا على الرجل العجوز من النوافذ المغبّرة.
ویروي الناس أنّ في غرفة خالیة في الطابق الأرضي، لا یؤنسھا إلا الصمت، مائدة تنتشر علیھا زجاجات عجیبة في جوف كل منھا قطعة من الرصاص تتدلى من خیط كأنّها بندول ساكن ینتظر الإشارة. ویقال أیضًا إنّ ذلك العجوز یتكلم مع تلك الزجاجات منادیًا إیاھا بأسماء غریبة مثل: جاك، وسكار فیس، وتوم لونج، وجو الإسباني، وبترز، ومات إلیس. وما أن یوجِّه الخطاب إلى واحدة منها، حتى یهتز الثِّقَل داخلها بحركات محددة؛ كأنّما تجيبه بلغة وصوت لا یفهمهما غیره. ومَن رأى العجوز في ذلك المشهد المروع؛ وھو غارق في حدیثه مع زجاجاته، لم یجرؤ على أن یخطو ھناك مرة أخرى.
غیر أنّ "ریتشي"، و"تشانك"، و"سیلفا" لم یكونوا من أبناء بلدة كینجزبورت، ولا من أھلھا الضاربین بجذورھم في تقاليدها، وعراقتها، بل جاءوا من نسل مختلط لا رابط بين مكوناته، یقف على الهامش خارج تلك الدائرة السحرية من العادات والأنساب؛ فلم یروا في العجوز المخیف سوى شیخ مترنح عاجز یكاد یسقط من الوھن، لا یقوى على السیر، إلا متكئًا على عصاه المعقودة، وقد أخذت یداه الهزیلتان في ارتجاف یثیر الشفقة، بل إنّھم في قرار أنفسھم أشفقوا على حال ذلك العجوز المنبوذ الذي نفر منه الجمیع، ونبحت الكلاب في وجهه؛ كأنّها تراه وحدها بعیون أخرى. وللصوص كما لغیرھم قانون لا یرحم، فإذا استقرت الحرفة في الروح صارت قیودًا لا فكاك منها، وبات الشیخ الهرم الواھن غنیمة تُغوي وتستفز. وما أفتن الإغراء حین یكون الرجل بلا حساب في بنك، یقضي حاجته القلیلة في دكان القریة بقطع من ذھب وفضة إسبانیة سُكّت منذ 200 عام.
وحین أسدل لیل الحادى عشر من أبریل سدوله، كان "ریتشي"، و"تشانك"، و"سیلفا" قد عزموا أمرھم على موعد لا یعرفه سواهم. وكانت الخطة كالآتي: بينما یتولى "ریتشي" و"سیلفا" استجواب الرجل العجوز، ینتظرھما "تشانك" في شارع شیب ومعه سیارة مغطاة، قرب بوابة الجدار الخلفي لحدیقة العجوز استعدادًا لحمل الغنیمة الذهبیة المتوقعة. كانوا قد رأوا في ھذا الترتیب حصنًا يقيهم أي خطأ محتمل، في حال حدثت مداهمة مفاجئة من الشرطة؛ حيث خططوا لمغادرة ھادئة، لا تثیر ضجیجًا ولا ریبة.
ووفقًا للخطة المرسومة، خرج الثلاثة كل على حدة درءًا لأي شبهة خبیثة قد تُثار لاحقًا. التقى "ریتشي" و"سیلفا" في شارع ووتر عند بوابة بیت الرجل العجوز. كان ضوء القمر يسقط فوق صدريهما؛ وهو ینسكب فوق الأحجار الملونة بین أغصان الأشجار الملتویة التي بدأت تظهر براعمها، ولكنّهما لم یشغلا بالهما بخرافات عابرة؛ فلدیهما ما هو أهم من ذلك. كانا یخشیان أن تكون المهمة شاقة لإجبار الرجل العجوز على البوح بأي شيء عن كنوزه من الذھب والفضة؛ فشیوخ البحر عُرفوا دائمًا بعنادهم وصلابة رؤوسهم، غیر أنّ العجوز كان غارقًا في شیخوخته؛ وهو یقف؛ وفي مواجهته رجلان یعرفان جیدًا أسرار الحیل، وطرق انتزاع الكلام من أفواه الصامتین. وما كان صراخ عجوز متهالك، بلغ أرذل العمر، لیعجزهما؛ إذ يسهل كتمه وحجبه عن الأسماع؛ ومن ثم اتجها نحو النافذة الوحیدة المضیئة؛ فإذا بهما یسمعان الرجل العجوز يهذي كالأطفال مع زجاجاته المعلّقة بخیوط متدلّیة. عندها شدّا الأقنعة على وجهيهما، وتقدما لیطرقا برفق الباب الخشبي العتیق الموشوم بندوب الزمان.
بدا لـ"تشانك" الوقت بطیئًا ثقيلًا؛ وھو یتململ ضجرًا في جلسته داخل السیارة المغطاة الواقفة عند باب الحدیقة الخلفي لبیت العجوز في شارع شیب. كان ذا قلب رقیق على غیر عادة أمثاله؛ فلم تطب له تلك الصرخات الوحشیة التي مزّقت سكون اللیل من أعماق البیت العتیق، عندما أزف الموعد المحدد للفعل الآثم.
ألم یوصِ رفیقیه أن یتوخّیا الرفق بذلك البحّار المسكین؟ وأخذ یرمق الباب الخشبي الضیق المغروس في جدار حجري عالٍ تكسوه عروق اللبلاب؛ وعیناه تضطربان قلقًا؛ وهو یراجع ساعته كل حین متسائلًا: أترى الشیخ أسلم روحه، قبل أن یُفضي بسرّ كنزه؛ فاضطر الرجلان إلى تقلیب أركان البیت بحثًا عن الكنز؟ بید أنّ "تشانك" لم یكن یطیق الانتظار الطویل في ظلمة كئیبة، ومكان موحش كهذا. وفجأة تناھى إلى سمعه وقع خطوات وئیدة، أو رنین عصا تنقر أرض الممر وراء البوابة، تلیھا أنامل واھنة تعبث بمزلاج صدئ، وإذا بالباب الثقیل ینفتح رویدًا. ھنالك، وتحت ضوء باهت ینبعث من مصباح وحید؛ كأنّما یلفظ أنفاسه الأخیرة، أجهد "تشانك" عینیه محاوِلاً أن یُبصر ما أخرج رفیقاه من ذلك البیت المظلم الذي تهیمن علیه الكآبة. غیر أنّ ما وقع علیه نظره لم یكن ما توھّم، إذ لم یبدُ أثر لرفیقیه، بل تجلّى أمامه العجوز المخیف وحده متكئًا على عصاه الملتویة، یبتسم ابتسامة تثیر في النفس رجفة باردة. لم یسبق لـ"تشانك" أن عرف لون عینیه؛ فإذا بهما الآن تسطعان أمامه؛ صفراوین كومیض الموت.
تكبر الصغائر في المدن الصغیرة حتى تغدو قضایا كبرى، ولهذا ظل أھل كینجزبورت یتحدثون، طوال الربیع والصیف، عن الجثث الثلاثة المجهولة التي قذفتها أمواج البحر، وذهب بعضھم إلى الأمور الأهون شأنًا كحكایة العربة المهجورة في شارع شیب، أو تلك الصرخات الوحشیة التي سمعھا ساھرون، وظنوھا آتیة من طائر غریب، أو حیوان ضل طريقه. غیر أنّ الرجل العجوز لم یُبدِ أدنى اھتمام؛ فقد كان رجلًا مُحبًّا للعزلة، والشیخوخة، حین تثقل كاھل المرء، تزید من میله إلى الصمت والتحفّظ، ثم إنّ بحّارًا عتیقًا مثله شهد في صباه ما ھو أفظع وأعجب، لذلك لا تثیره مثل ھذه الصغائر.....
كل الشكر للزميلة الأستاذة "شهد مجدي عُطيان"، المترجمة الواعدة بإذن الله..
ًّا