23/08/2025
بينهم ترامب وجولياني وسبايك لي
"آلهة نيويورك" : كتاب جديد يكشف حكاية مدينة تصنع العالم
بقلم- أحمـد حامـد:
من بين صخب الجريمة وأصوات المظاهرات وتحوّلات وول ستريت، وُلدت نيويورك جديدة بين 1986 و1989. هذه السنوات الأربع، التي بدت في ظاهرها فوضوية ومثقلة بالإيدز والكوكايين والتوترات العرقية، كانت في جوهرها نقطة التحول التي بعثت المدينة من جديد وأعادت تشكيل هويتها الحديثة.
في كتابه الصادر عن راندوم هاوس بعنوان "آلهة نيويورك"، يرسم الصحفي الأمريكي جوناثان ماهلر لوحة بانورامية لمدينة على حافة الانهيار، لكنها في الوقت ذاته تضع أسس صعودها الأسطوري، بين وجوه بارزة مثل ترامب وجولياني وآل شاربتون وسبايك لي، ممن تجسدوا كـ "آلهة" يحركون مصير المدينة التي لا تنام.
وخلال مراجعة ملهمة من مجلة الايكونوميست في عددها الأخير، كشفت عن أن كتاب "الهة نيويورك" يشير الكاتب جوناثان ماهلر، مؤلف الكتاب، ان الفترة (1986-1989) تعتبر نقطة تحول ابتعدت فيها مدينة نيويورك عن حقبة السبعينات وبداية الثمانينات الصعبة التي انتشرت فيها الجريمة وتفشى سوء المعيشة، ودخلت مرحلة جديدة من التطور السريع والتحولات السياسية والاهتمام الاعلامي المكثف.
وقال مايك بلومبيرغ متاملا ذات مرة إن نيويورك "منتج مخملي "، وكان العمدة السابق يعني أن الشركات - وبالتالي موظفيها - يجب أن يكونوا على استعداد لتحمل تكاليف أعلى مقابل مزايا العيش في مدينة عملاقة.
لكن الحقيقة ان الناخبين يريدون ان يستمتعوا بالعيش في ضجيج منهاتن ولكن باسعار رخيصة مثل الغرب الأوسط، و هذا أحد أسباب دعم الديمقراطيين في نيويورك مؤخرًا للمرشح الشاب ذي الشخصية الكاريزمية واليساري المسلم لعمدة المدينة " زهران ممداني " الذي يخشى ان خططه لتخفيف تكاليف المعيشة (مثل تجميد الإيجارات) أن تزيد الأمور سوءًا (من خلال تثبيط البناء الجديد).
بالرغم من ان بين عامي ١٩٨٦ و١٩٨٩، بلغ متوسط عدد القتلى ١٧٦٠ شخصًا سنويًا: اي ما يقرب من خمسة أضعاف عدد القتلى في عام ٢٠٢٤. وزاد الإيدز، والكوكايين، والتوترات العرقية، والاحتيال على الرعاية الاجتماعية، والمحسوبية من حدة الفوضى.
الا ان جوناثان ماهلر في كتاب "آلهة نيويورك " يجادل بان نيويورك "الراقية" وُلدت في تلك السنوات الأربع المضطربة.
يُوثّق ماهلر فترةً برزت فيها شخصيات سياسية أمريكية بارزة لأول مرة على الساحة العامة، فها هو دونالد ترامب، يُقاضي الجميع، ويُطلق العنان لغطرسته وتبجحه، ويُنفق ببذخ على كازينوهاته في أتلانتيك سيتي، ويُواعد مارلا مابلز وهو لا يزال متزوجًا من إيفانا.
وايضا هناك آل شاربتون، مُحرِّض الشغب الذي يقود احتجاجات الشوارع - شخصية مختلفة نوعًا ما عن النسخة النحيلة ذات البدلة الرصينة التي تظهر على شبكات التلفزيون اليوم.
ويواصل المؤلف في كتابه، رسم صورة لمدينة تُواجه أزمات مُتعددة، فلم يكن الإيدز في البداية مجرد حكم بالإعدام، بل كان أيضًا لغزًا مُرعبًا، حيث كان الشباب الأصحاء يُصابون بالمرض ويموتون بسرعة، اذ شكّلت نيويورك اناذاك ثلث وفيات الإيدز المسجلة في أمريكا بحلول مارس/آذار 1987، وكان رد فعل المدينة غير كافٍ على الإطلاق، مع قلة الأسرّة والفحوصات، ودور رعاية المسنين العامة التي كانت ترفض استقبال المرضى المصابين خوفًا من التلوث، وبالمثل، كانت جهود نيويورك للتعامل مع التشرد متعثرة، وكانت العلاقات العرقية متوترة، لقد قُتل رجال سود لمجرد دخولهم المناطق البيضاء في بروكلين وكوينز.
وأُدين خمسة مراهقين من السود واللاتينيين ظلماً بضرب واغتصاب رياضية في سنترال بارك؛ ونشر ترامب إعلانات في الصحف يحث فيها نيويورك على إعادة عقوبة الإعدام في عام 1984، تم تبرئة أحد أفراد فرقة العدالة الأهلية من تهمة الشروع في القتل بعد إطلاق النار على أربعة مراهقين سود ظنّ أنهم على وشك مهاجمته، فأصبح بطلاً شعبياً لدى العديد من سكان نيويورك البيض.
كان إد كوخ، الذي انتُخب لأول مرة عمدة لمدينة نيويورك عام ١٩٧٧، هو الاب الروحي لهذه الفوضى.
كان كثير الشكوى، ومشاكسًا، وقال إنه يريد أن يكون "عمدة مدى الحياة". يروي السيد ماهلر تفاصيل نهايته السياسية. كان بمثابة تجسيد لنيويورك القديمة - طبقة عاملة أكثر، مع سيطرة سياسية من قِبل "العرقيات البيضاء" (معظمهم من الأمريكيين الإيطاليين والأيرلنديين واليهود) - وفشل في فهم أو الاستجابة لتغيرات المدينة. انتُخب لولاية ثالثة عام ١٩٨٥، وخسر الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي عام ١٩٨٩ أمام ديفيد دينكينز، رئيس منطقة مانهاتن الهادئ والمهذب، والذي أصبح فيما بعد أول عمدة أسود لنيويورك.
تغير المحرك الاقتصادي للمدينة أيضًا خلال هذه الفترة؛ فقد اختفت القاعدة الصناعية، وأنذر ازدهار وول ستريت في الثمانينيات بظهور قطاعات التمويل والتأمين والعقارات، التي ستقود النمو الملحوظ للمدينة خلال التسعينيات وما بعدها. ومع انحسار وباء الكوكايين، وتحسن أداء الشرطة خلال فترة تولي السيد جولياني منصب عمدة المدينة (1994-2001)، أصبحت نيويورك أكثر أمانًا وجاذبية، وارتفعت الإيجارات مع تدفق الناس إليها.
كتاب السيد ماهلر مبني بمهارة وحيوية. يتجنب المؤلف فخ الحنين إلى الماضي الذي وقع فيه سكان نيويورك المخضرمون، وكما هو الحال في جميع المدن العظيمة، فإن الأشياء دائمًا ما تموت وتولد من جديد.
وكما يوضح ماهلر، فإن ما عاشته نيويورك بين 1986 و1989 لم يكن مجرد سنوات عابرة من الأزمات، بل كانت الشرارة التي أعادت تشكيل المدينة، واقتصادها، وهويتها السياسية والثقافية. فقد وُلدت نيويورك الحديثة من رحم الفوضى، تمامًا كما وُلدت أساطيرها السياسية والإعلامية من قلب الصراع والاضطراب.
واليوم، بعد عقود، لا تزال المدينة تواجه نفس التناقضات: بين المال والعدالة، بين الطموح والانقسام، بين صورة "المدينة العالمية" وصراعاتها الداخلية. "آلهة نيويورك" يذكّرنا أن المدن العظيمة لا تُصنع بالهدوء، بل بالانفجارات التي تهزّها ثم تدفعها إلى ولادة جديدة.
#نيويورك