
15/09/2025
الناقد السكندري الدكتور أحمد حسن صبرة يكتب في عدد هذا الأسبوع من جريدة القاهرة عن الأديب السكندري القدير الدكتور شريف عابدين
"رحلة آدم" لشريف عابدين، والاستعارة السردية الكبرى
د. أحمد صبرة
تجتمع في كلمة fiction "المتخيل السردي" معان كثيرة تلخص ما نريده في هذا المقال، فالتخييل هو لب الحالة السردية، حتى وإن كان مبنيا على وقائع وأسماء حقيقية، لكن هذه الوقائع والأسماء حين تدخل في السرد، تفقد كينونتها الحقيقية، وتخلق لنفسها عالما موازيا له شروطه المعقدة في ارتباطه بالواقع. هذه الشروط المعقدة يمكن أن نتمثلها بلاغيا في صورتين؛ الأولى أن يرتبط العالم السردي بالعالم الواقعي تشبيهيا، والثانية أن يرتبطا معا استعاريا. والفرق بين الاثنين جوهري، فالتشبيه يحافظ على أطرافه أو كائناته في حالة أصلية نقية، ومن ثم تظل قوانين الفهم لهذه الكائنات هي هي، فما يحدث في المتخيل السردي يشبه ما يحدث في العالم الواقعي، وتصديقك للسرد مبني على المقارنة بينه وبين الواقع. بينما تخلط الاستعارة هذه الكائنات خلطا مدهشا، بحيث أن ما يتخلق عنها يحتاج إلى قوانين فهم جديدة، ولا يمكن في هذه الحالة أن تعقد مقارنة حتى تصدق ما تقرأ.
على ضوء هذه الفكرة، يمكن تقسيم المنتج الروائي إلى قسمين؛ الأول، وهو الكتلة الأكبر والأكثر حضورا وهو التشبيه، وفيه تنعكس قوانين العالم الواقعي على العالم المتخيل، بحيث نقبل هذا العالم أو لا نقبله بمدى انعكاس هذه القوانين عليه، فهذا الحدث مقبول لأنه يضاهي الواقع، وهذا الحديث للشخصية منطقي لأنها هكذا في الواقع. والثاني هو الأقل، وفيه تبنى الوقائع والشخصيات بناء استعاريا، ويتخلق عالم أقرب إلى أن يكون عالما أسطوريا، وفي هذه الحالة تكون لها قوانينها الجديدة في الفهم.
تنتمي رواية "رحلة آدم" للروائي شريف عابدين إلى هذا النوع الثاني. لقد وصفها في عنوان فرعي بأنها "فانتازيا سردية"، وهو شكل من أشكال التوجيه في القراءة، فيجب ألا نقرأها عن أنها تماثل الواقع؛ أي لا نقرأها على أنها حالة تشبيهية، بل نقرأها على أنها "فانتازيا"؛ أي حالة استعارية. والفرق كبير. فكرة الرواية عن طفل مصاب بالتوحد "آدم"، ماتت أمه "سعدة"، فظل طوال الرواية يبحث عنها محاولا التوحد معها. رحلة الطفل قد تعرض تشبيهيا، فتعرض ما نعرفه ويعرفه الطب النفسي عن الأطفال المتوحدين، لكن شريف عابدين عرضها استعاريا، فخلق عالما أسطوريا يستمد مكوناته الأولية من الواقع الحقيقي، لكنه يعيد تشكيلها، ويضعها في علاقات جديدة لا يمكن فهمها إلا من داخلها. في هذا العالم تتحول أمه إلى فراشة، ويتحول هو إلى كائن قريب في حجمه من النملة، ويظهر شيخ قرب نهاية الرواية أقرب في صفاته من شخصية "الخضر" عليه السلام.
تظهر أمه فراشة في نهاية الفصل الأول، وعند قبرها الذي رفض أن يغادره، ويعود مع خالته وابنتها، ومن تبقى من أهله، وفي هذا الجزء تتكشف حالة آدم، وطبيعة علاقاته مع المحيطين به في البيت والمدرسة، ونعرف أنه طفل في الثالثة عشرة من عمره، ومن ذوي الاحتياجات الخاصة. وكل هذا يقود إلى معالجة إنسانية تعكس ما نفهمه عنها في الواقع سواء في حدود الإدراك لهذه الشخصية المركزية، أو في اللغة التي يتحاور بها مع الآخرين، أو في الانفعالات التي تعكس طبيعة مرضه. لكن شريف عابدين غاص في آدم، فرأى فيه ما لا يراه الآخرون. واستفاد من معرفته الواسعة، بوصفه طبيبا، في فهم آدم، كما يرى نفسه، لا كما يراه الآخرون. وجاءت كل فصول الرواية التالية لتحاول تأكيد هذا الفهم العميق لهذه الفئة من البشر ممثلة في آدم. وأول تقنية سردية استخدمها شريف عابدين، ولعلها أكثرها أهمية هي "الحوار". وتعكس لغة الحوار مستوى عاليا من الفهم وإدراكا عميقا للحياة وتحولاتها كما يراها آدم، فهو يعرف ما يريد، ويبحث عنه، ومن أجل ذلك فهو يخصص وقتا طويلا للقراءة حوله في مركز رعاية النحل الذي يعمل به بتوصية من أحد العمال الذي رآه، فأخذه، وآواه، وزكاه عند مسؤولي المركز. تظهر في آدم قدرات وأفكار استثنائية. وكلها يدور حول رغبته المحمومة في البقاء مع أمه التي تحولت إلى فراشة، والكيفية التي يمكن أن يتكيف هو معها في هذا الوضع الغريب، فيرغب أن يتحول إلى كائن أقرب إلى النملة في حجمه حتى يمكن للفراشة أن تحمله. ولقد كان تحوله إلى هذا الكائن مناسبة للغوص في عالم النمل، وبيان طريقته المدهشة في تنظيم حياته، وقدرته على البقاء، وكان مناسبة أيضا للغوص في عالم النحل، بكل التعقيد الذي يتسم به، وكل الأسئلة الكبرى التي ترتبط به.
يعطي شريف عابدين المساحة الكبرى لهذه الكائنات؛ الفراشة، النمل، النحل، العنكبوت، ويعطي مساحة لبعض الأساطير اليونانية بآلهتها الشهيرة، وكما أشرت، فإن الثيمة المركزية في كل هذا هو رغبة آدم في التوحد مع أمه التي تحولت إلى فراشة. فما الذي تعنيه هذه الثيمة؟ وكيف يمكن فهمها أولا في ذاتها، وثانيا بوصفها رموزا وإحالات لمعنى أعمق؟ هنا يعطي المؤلف معنى إضافيا للتوحد لهذه الفئة من البشر، فآدم هنا ليس متوحدا مع نفسه، متقوقعا حول ذاته فقط، إنما هو يحاول التوحد مع أمه، حتى وإن تحول إلى كائن أدنى في حجمه وفي قدراته. وهي رغبة ترفضها أمه، وتحاول بكل الطرق أن تثنيه عنها، وتنجح في النهاية. لكن نجاحها لا يخلخل الثيمة المركزية في الرواية، فماذا تعني الرغبة المحمومة في التوحد مع الفراشة؟ لا بد هنا أن نستعيد تعبير Mother nature، وهو تعبير أسطوري تجلى في ثقافات كثيرة بأشكال مختلفة، لكن ما يجمعها كلها هو الخصب والنماء والحب والعطاء والراحة والسلام الذي تمنحه الطبيعة للبشر، وهي نفسها المعاني التي تعطيها الأم لأولادها. رغبة آدم هي العودة للطبيعة، وترك هذا العالم المؤذي الذي لم يستطع التكيف معه. لقد تكرر في الرواية سؤال هل أنت مختلف أم متخلف؟ وأي اختيار هنا يعني عدم التوافق مع البشر المحيطين به، لذلك اختار آدم الهروب والعودة إلى الطبيعة، واختيار عالم الفراشات والنمل والنحل بديلا عن عالم البشر.
لكن رحلته ورغبته لم تصل إلى النهاية التي تمناها، فقد دفعته أمه الفراشة سعدة دفعا لأن يركب القطار، في فصل طويل حمل عنوان "النهاية"، وهو أطول فصول الرواية. والقطار لم يكن عاديا، فلا وجهة واضحة له، وركابه يرتبطون فيما بينهم برباط غريب يمسك طرفه شيخ قريب في صفاته من الخضر في قصة النبي موسى، فحين يطلب منه آدم أن يرافقه لينتفع من علمه، يقول له الشيخ: لن يناسبك ما تشهد من مواقف، فما زلت غضا، ربما لا تحتمل، ربما لا تتفق معي". وحين يسأل آدم عن بعض تصرفات الشيخ الغريبة، لا يجيبه بما يريحه، بل يتركه ليستنتج، ويتعلم. لب حوارات الشيخ مع آدم ومع بقية الركاب حول المعرفة والتعلم المقترن بالعمل المفيد. تساءل الركاب في بداية الرحلة، هل القطار هو قطار الحياة أو المعرفة؟ ولا تأتي الإجابة واضحة من الشيخ، وإن كنا نعرف في سياق التفاعل داخل القطار أن القطار هو الاثنان معا، وأن الحياة هي سعي وراء المعرفة التي تطورها وتجعلها أجمل. ما يلفت النظر في رحلة القطار أن علاقة آدم مع البشر داخل القطار لا تشبه علاقته بالكائنات الأخرى في الجزء السابق، فعلى حين كان يتمتع براحة وسكينة وهدوء مع هذه الكائنات أوصلته إلى أن يكون رئيسا للجنة التحكيم بين النمل والنحل، فإنه عاد مع البشر في رحلة القطار إلى حالة التنمر والسخرية التي حاول الهروب منها قبل ذلك. الشيخ وحده هو الذي أعاد له التوازن مع الحياة، وأقنعه بما لم تستطع أمه أن تفعل، حتى أنها تظهر له على هيئة فراشة في الصفحة الأخيرة سعيدة بما وصل إليه.
وإذا كان الحوار تقنية أساسية في هذا العمل، فإن التعليق لم يقل عنه أهمية. ومن خلال التعليق أفاض شريف عابدين في بيان رؤيته للحياة والبيئة والعلاقات بين الكائنات، وغاص في أهمية المعرفة وجدواها وطبيعتها. وبدت الرواية من خلال تعليقات المؤلف المستفيضة أنها رواية أفكار، ومن ثم فإن الصراع فيها صراع ذهني انتصرت فيه المعرفة المقترنة بالعمل في النهاية، وهي الرؤية التي أراد المؤلف أن يكرسها لدى المتلقي.
كل ما سبق لا يمكن قراءته إلا معزولا عن العالم الواقعي، أن يُقرأ في ذاته؛ أي يُقرأ استعاريا. لقد خلقت الاستعارة هنا عالما أسطوريا كائناته وعلاقاته وأجواءه أقرب إلى أن تكون رموزا لمعان أكثر عمقا، أراد بها شريف عابدين أن يقدم موقفا من الحياة.
رواية بديعة موحية مدهشة، مكتوبة بلغة محكمة، وسرد سلس. لا تتركها إلا بعد أن تكون أحدثت في نفسك أثرا عميقا.