
12/06/2025
قافلة الصمود والنوايا الحسنة:
رغبات الشعوب في التحرير والإنقاذ، ومصر بين الحذر والدبلوماسية
الكتب/طه محمود يحيى
في مشهد يتكرر عبر التاريخ، تتحرك القوافل تحت شعارات النوايا الحسنة، محمّلة برغبات الشعوب لا بقوة الدول، وبدفء الضمير لا ببرود السياسة. "قافلة الصمود" ليست مجرد شاحنات أو مجموعات من المتطوعين، بل تعبير نقي عن إصرار شعبي على كسر الحصار، على إطعام الجياع، على إنقاذ الطفولة من أنياب الجوع والمرض، وعلى تحرير الإنسان من منطق القوة إلى ضمير العالم.
لكن ما بين هذه الرغبة الإنسانية، وبين الواقع السياسي الملبد بالشكوك والمخاوف، تقف مصر، كما وقفت دائمًا، في قلب الحدث. ليست مصر الرافضة، بل هي مصر الحذرة؛ مصر التي تدرك تمامًا أن ما يبدو على السطح عملاً نبيلاً قد يختفي وراءه حسابات أكثر تعقيدًا، وأن فتح طريقٍ واحدٍ دون ضمانات قد يعني فتح بابٍ لموتٍ محتوم لا حياة مرجوة.
دبلوماسية على حد السكين حيث تُتهم مصر أحيانًا بأنها تغلق المعابر، أو تتلكأ في السماح بمرور القوافل، لكن هذه نظرة لا ترى إلا الصورة من طرفها المضيء. الحقيقة أن مصر، في إدارتها لهذا الملف، تمارس دبلوماسية بالغة الصعوبة، دبلوماسية على حد السكين: أن تفتح طريقًا للرحمة دون أن تكون وسيلة يُزج بها في صراع لا يُريد أحدٌ أن يدخل فيه، أو فخًّا مرسومًا بإتقان ليُقال لاحقًا إنها قصرت، خانت، أو سهلت.
فما بين شعب يصرخ ألماً، وطرف آخر لا يُؤتمن، وحسابات إقليمية معقدة، تتحرك السياسة المصرية بمحاذير شديدة. لا لأن مصر بلا قلب، بل لأنها لا تستطيع أن تُخاطر بأرواحٍ أكثر، ولأنها تدرك أن بعض الطرق إلى الجحيم مفروشة بالنوايا الحسنة.
لا للهروب.. نعم للتعقل ,, يقول البعض إن مصر تتهرب من مواجهة حتمية، لكن الحقيقة أن مصر تعرف نتائج تلك المواجهة أكثر من غيرها. تعرف ثمن الدخول في حروب بالوكالة، وتعرف أن من يطلق الشعارات من خلف الشاشات لا يرسل أبناءه إلى الجبهات، ولا يشارك في دفن الجثامين. مصر لا تتهرب، بل توازن بين دمعة أمٍ فلسطينية، ودمعة أمٍ مصرية تخشى أن يعود ابنها في تابوت خشبي، لأن أحدهم قرر أن يرسل قافلة دون تأمين، ودون تفاهم، ودون ضمانات.
الرغبة في الإنقاذ لا تكفي ففي السياسة، لا تُبنى القرارات على النوايا، بل على النتائج. نعم، الأطفال الجوعى يستحقون الحياة، والمرضى لا يجوز أن يُتركوا فريسة للخذلان، لكن لا بد من طرق آمنة، وضمانات حقيقية، وشركاء موثوقين. لا يمكن لمصر – أو أي دولة – أن تكون طرفًا في مسرحية نتيجتها معروفة سلفًا، وكلفتها ستكون دماء جديدة تُضاف إلى صفحات الألم العربي.
قافلة الصمود تعبير إنساني رائع، لكنها تصطدم بحقيقة أن العالم ليس بريئًا، وأن للشر وجوهًا كثيرة، بعضها يتقن التسلل عبر بوابات الخير. وفي وسط كل هذا، تظل مصر تمشي على خيطٍ رفيعٍ، تُدير دبلوماسية دقيقة بين الإنقاذ والانزلاق، بين الواجب والخطر، وبين صوت الشعوب وحدود السيادة.
إن من يحب السلام حقًا، لا يستهين بالحذر. ومن يسعى لتحرير الناس، لا يرسلهم إلى موت مجاني. والحق أن الصمود لا يعني الاندفاع، بل الصبر والوعي، وهو ما حاولت مصر دائمًا أن تمارسه، حتى في أقسى اللحظات وأكثرها تعقيدًا.