
14/08/2025
صنع الله إبراهيم.. الروائي كاذب كبير ولو صدق
ممدوح النابي
كاتب وناقد
لا يختلف اثنان من المتابعين للشأن الثقافي ومؤرخي الأدب ونقاده على أن صنع الله إبراهيم (1937 - 2025) يُمثّل في الثقافة العربية (والمصرية تحديدًا) حالة استثنائيّة دون مجايليه ممّن أُطلق عليهم "جيل الستينيات"، وهو الجيل الذي شكّل ظاهرة فريدة في التاريخ الأدبي، سواء على مستوى الإنتاج الذي جاء مُخالِفًا لأستاذتهم بتبنيهم مقولة "نحن جيل بلا أساتذة"، وفرادتهم في تبنّي إستراتيجيات كتابية مغايرة، تروم إلى تحطيم مواضعات القصّ الروائي كما كان سائدًا، ومن ثم شكّلت حدثًا مهمًا (أو لنقل صدمة) في تلقي الأدب، وتذوقه. وصنع الله أحد أبرز كُتّاب هذا الجيل، بل يمكن اعتباره المُدشِّن الأوّل لكتابة هذا الجيل برائعته "تلك الرائحة" التي صدرت في منتصف الستينيات (1966)، وكانت أشبه بمنافيستو الكتابة الجديدة التي تبناها أصدقاؤه من الكُتّاب.
تبنّى صنع الله إبراهيم في كتاباته موضوعات شائكة، يتضافر فيها السياسي والاجتماعي، والذاتي مع الجمعيّ، والمحليّ مع القوميّ في نسيج عجيب، والأمر ليس عجبًا، وهو القادم من أبواب السياسة، إلا أنه لم ينخرط في كتابات أيديولوجية زاعقة، وإنما كتابة واعية مثقلة بالسّلطة وتتصارع معها، فغدا أدبه كما يقول محمد بدوي "فضلًا عن كونه (شهادة) رؤية أيديولوجية بالغة الدلالة في فترة مهمّة من فترات التكوين الاجتماعي المصري الحديث، وهي أيديولوجية مُصاغة بشكل أدبي، يتبنّى فيها جماليّة مُعينة، ويكشف عن أيديولوجية جمالية، مُناهِضة للتسطيح، ومناوئة لاختزال الواقع وتزييفه، وساعية إلى أن ينهض الأدب بدور في دحض الأيديولوجيا السائدة".
هيمنة البعد السياسي في أعماله، لا تجعله يغفل الواقع الاجتماعي المتهرئ من نتائج السياسات الفاشلة، وهيمنة سياسة الانفتاح الاقتصادي ونظام السّوق الحرّة والخصخصة والعولمة والسياسات النيولبراليّة على السياسات الاقتصادية للدولة، ومن ثم يكون انعكاسات هذه السياسات الخاطئة فادحًا على طبقات المجتمع المتوسطة والدنيا، نتيجة ما يحدث من هزات سياسية، وركود اقتصادي، أو انفتاح سداح مداح، يدفع ضريبته الباهظة أبناء هذه الطبقات التي تترنح مع كل إخفاق. فلا تخلو رواية من روايات صنع الله إبراهيم إلا وتأثير السلطة واقع على أبطالها، وهو ما ظهر جليًّا مع روايته الأولى "تلك الرائحة"، حيث البطل يُصاب بفشل على كافة المستويات من جرّاء ما وقع عليه من فعل قهر السلطة، وهو ما استمرّ في رائعته "اللجنة" (1981) التي كانت أشبه بسخرية مريرة من واقع هذه السلطة التي تجسدت في هيئة اللجنة، وراحت تحاكم مواطن أعزل، وتجرده من إنسانيته، بدعوى اختباره، ومن جراء ضغطها المباشر ومراقبتها الحثيثة لتصرفاته، وحياته الخاصة ينتهي الموقف بجريمة قتل لأحد أفراد هذه اللجنة، في إشارة دالة على ما يمكن أن يحدث نتيجة لممارسات الإكراه والضغط التي تُمارِسُها السلطة بكافة أشكالها، أو عبر مُمثليها. وفي "ذات" (1992)، أو كما أسماها سيد البحراوي "قاتلة الذات وثيقة الإدانة"، يرصد التغيرات التي لحقت المجتمع المصري نتيجة سياسة الهدم والبناء، عقب عودة السماسرة والمقاولين والتجار من رحلة الاغتناء في بلاد النفط، من خلال شخصية ذات الفتاة المتوسطة اجتماعيًّا ودراسيًّا، ونتيجة لضغوط الحياة تضطر للعمل في أرشيف صحيفة، ومع إصرارها على الاكتفاء بذاتها، إلا أن فيروس الخارج يتسرب إليها، أولا إلى عمارتها، ثم إلى شقتها، وصولًا إلى ذاتها، ومن شدة الضغوط، لا تجد لذاتها متنفسًا إلا "المرحاض" كي تبكي، فالفساد محيط بها، وكأنه وباء مستشرٍ في كافة أجهزة الحكم، في البنوك، والمؤسسات الاستثمارية، وعبر أخبار الحوادث، وما يتردد من نهب الأموال وتهريبها، وتهريب السلع الفاسدة، والرشاوي والسرقات. وغيرها. عالم ذات مُحاصر بفساد لا نهائي.
الكتابة الصادمة
يُعبّر صنع الله إبراهيم بكتاباته عن صورة المثقف الإشكالي، ويمكن يكون متماثلًا مع مفهوم المثقف عند فوكو؛ أي المثقف المتخصص الجديد، الذي ليس مهمته سنّ القوانين، واقتراح الحلول، وتقديم النصح، وإنما تتجلّى مهمته الحقيقية والفاعلة في التحويل، أو التغيير من خلال ميدانه، وذلك بتشخيص الحاضر. فهو دائمًا يقف على نقيض هذه السلطة بمعناها الفوكوي (أي السلطة ممارسة، بلا جوهر، بل هي إجرائية، أو علاقة تُمارس عبر نشاط عن طريق علاقات غير متساوية، غير متجانسة"، ويشاكلها، بل ويتمرد عليها، حتى بأشكال من الحيل، ربما فيها من القهر لذاته أكثر من القهر للسلطة ذاتها. ومن ثم يلوذ راويه دائما بالراوي الأنا الملتصق بالذات، وهو ما سبّب له مشاكل جمّة، حيث يميل القراء إلى اعتبار ما يرويه "واقعًا موكدًا حدث له"، على الرغم من تأكيده بأنه يترك مسافة بين ما يسرده عن ذاته، وما يلتقطه من مواقف وخبرات حياتية مرّ بها. وهذه الإشكالية عبر عنها في نهاية المقدمة الثالثة لرواية” تلك الرائحة” التي دشنت لكتابة مغايرة، بأسلوب تلغرافي يلوذ بالتقطير والصفاء اللغوي، ونفي الزوائد، بعيدًا عن الزخرفة اللغوية، أو حتى المواربة، ونظرًا لدرجة الربط الشديد بين بطل روايته وشخصيته، والتي تعتبر الطبعة الوحيدة الكاملة دون سائر الطبعات التي صدرت بعد مصادرة الرواية، يبيّن صنع الله عواقب لجوئه إلى الضمير الشخصي / المتكلم، وربط القراء بينه وبين شخصيات رواياته، فيقول: "ربما أمكن اعتبار كل ذلك مؤشرًا على نجاحي في إقناع القارئ بالأكذوبة التي هي الرواية، لكني ما زلت أتمنى أن يفصل القارئ بين شخصي والرواية، فالروائي كاذب كبير حتى لو صدق".
الكتابة الصادمة التي تهدف إلى التعرية والكشف، لم تقتصر على تعرية المجتمع وما حدث فيه من خلل العلاقات الذي تفشّى بصورة مزرية على مستوى الواقع، وهو ما هدّد النسيج الاجتماعي، وأصابه بالهشاشة والضعف، أو حتى السلطة (على وجه الخصوص) وسياسات التوحش التي مارستها على معارضيها، أو تلك التي تُمارسها على نفسها (الجبهة الأضعف: العساكر والجنود مقابل الضباط) وإنما أيضًا عرت السُّلطة النقدية، فيكشف في مقدمة تلك الرائحة التي عنونها ب"على سبيل التقديم" عن حالة الإقصاء التي مارسها النقاد لمثل هذه الكتابة الصدمة، والخشية من تَقبُّل الذوق لها، فيستعرض لموقف يحيى حقي من الرواية، وما مارسه من دور الرقيب، دون الالتفات إلى فنيات وجماليات الرواية، وإنما اكتفى بما اكتظت به الرواية من أفعال (رأها) منافية، فكما يقول: "لا زلت أتحسر على هذه الرواية القصيرة التي ذاع صيتها أخيرًا في الأوساط الأدبية، وكانت جديرة بأن تعد من خيرة إنتاجنا لولا أن مؤلفها زلّ بحماقة وانحطاط في الذوق، تقززت نفسي من هذا الوصف الفيزيولوجي تقززًا شديدًا لم يبقَ لي ذرة من القدرة على تذوق القصة رغم براعتها، إنني لا أهاجم أخلاقياتها، بل غلظة إحساسها وفجاجته وعاميته، هذا هو القبح الذي ينبغي محاشاته، وتجنيب القارئ تجرع قبحه".
مثلما هاجم يحيى حقي الرواية في مقالته في جريدة المساء، فعل الشيء نفسه الكاتب أحمد بهجت في جريدة الأهرام، وقال ساخرًا منها ومن موضوعها وكاتبها: "نحن أمام معدة تكتب رواية، لا رأس للمؤلف، ولا تفكير، ولا قلب، ولا وجه، وبالتالي فليست ثمة ملامح إنسان".
ومع إخفاق الأمل في النقد، مثلما أخفق في السلطة، واظب صنع الله على عمله، ولم يُثْنِهِ هذا أو ذاك عن مغامراته الكتابية، بل كان كل همّه هو سؤال الفن: ماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟ والسؤالان قاده إلى اختبار موضوعات جديدة غير مستهلكة من تلك التي عكف عليها كُتّاب الخمسينيات، من ناحية الموضوع، أما من ناحية الشكل فقد سعى إلى تحطيم مواضعات الشكل القديم، بتبني إستراتيجيات كتابية جديدة تلوذ بآليات التجريب التي صاغها آلان روب جرييه في "الرواية الجديدة"، وتبتعد في أسلوبها عن التقعّر اللغوي، أو سلامة اللغة، بل تفرّ من المجاز، وتراعي الدقة، وتعمد إلى التعرية، وعدم التكلف، والولع بالتكثيف. وهذا الولع بالتشكيل لم يأتِ عشوائيًا، وإنما هو نِتاج دأب وكدح متواصليْن؛ فالكاتب هو نِتاج ثقافة غربية، أو بالأحرى كما يقول محمد بدوي "نتاج تجربة جماليّة، كوّنتها روائع الأدب الإنساني" هذا من ناحية، وإن كان حماس التجريب جعله لا يقف عند تجربة واحدة أو مدرسة بعينها، وإنما امتدّ نظره إلى تجارب في الشرق كما في شعراء السوفييت، الشابين يوفتوشنكو وفوزينيينسكي والعجوز تفاردوفسكي وهم يفجرون الأبنية العتيقة، وأخرى في الغرب في أمريكا حيث تجارب الكتابة التلقائية، وفنون الضوء والحركة، إلى جانب ما أنتجته موجة الرواية الجديدة في فرنسا، وهو ما خلق روح التمرد في داخله، وتلك انعكست على شكل الكتابة. ومن ناحية ثانية كان سؤال الفن هاجسه، يطارده، ومن ثم يسعى إلى الإجابة عليه عمليًّا، فكما يقول: "أذكر أنني كنت أتساءل عن السبب الذي يجعل الروائيين يهتمون بأشياء دون أخرى، وكأن ثمة اتفاقًا سريًّا بين الجميع على أن هناك أشياء تكتب، وأشياء هي من المحرمات، التي يجب الابتعاد عنها، ولم أكن قادرًا على فهم الأسباب التي تمنعني من الكتابة في كل شيء".
هذا الإلحاح في انتهاج شكل كتابي مغاير، وطرق موضوعات غير مألوفة لا تستنكف الواقع المزري وتنقله بكل قبحه وفجاجته، أو تصطدم بالسلطة وتشاكلها، كان ثمرته الحقيقية التدشين لكتابة تلوذ بالصدق، أو كما وصفها رؤوف مسعد وكمال القلش في تدشين روايته الأولى "الكتابة الصادقة، المؤلمة أحيانًا"، وهو الشعار الذي لاذ به في كل كتاباته، حتى لو ادّعى بطله الكذب، من تأثير نشوة الخمر والحشيش، لكن ما يلبث أن يعود إلى الصدق، كما حدث مع شرف وهو في شقة جون بالزمالك، فأنكر بعد لحظات كل ما ذكره من قبل عن غرفته التي تطل على حديقة، ويشم منها رائحة الياسمين، وقدرته على شراء السلسلة التي أراد أن يهديها له جون، فهو حتى الآن لم يستطع شراء شيء، ولم يدخل الجامعة، ورائحة الياسمين هي الرائحة الدائمة لخرانا الذي يتجمع في بئر أمام باب المنزل".
السجن الجامعة
الكتابة الصادقة تُعرّي ولا توراي، تفضح ولا تستر، فنراه يعير بطله كاميرا محايدة ترصد، بدقة متناهية ما تقع عليه عينه بكل فجاجته وقبحه، فتارة في "تلك الرائحة" يصوّر مشهد اغ**اب الصّبي داخل حجرة الحجز، وحالة الصّمت التي اكتنفت الجميع، بما فيها الراوي، وتارة ثانية ينقل صور حقيقية ومزرية من المعاناة التي عاناها بطله "شرف"، أو أشرف عبد العزيز سليمان الذي دخل السجن دفاعًا عن شرفه، لأنه قتل سائحًا أجنبيًّا، حاول الاعتداء عليه، عندما استضافه في شقته، فيرصد لحالة الانهيار الكامل والبؤس التي يعيشها المحتجزون (شرائح من المجتمع على اختلاف طبقاته تكشف الفساد المستشري في المجتمع: اغ**اب، إدمان، سرقة، إرهاب، مخدرات، جزار خَرب الذمة، وغيرهم) على ذمة قضايا لم يُبّت فيها، منذ لحظة الاحتجاز، وما يتعرضون له من ابتزاز وقهر وامتهان للكرامة، وسحق معنوي وبدني، بالإضافة إلى تعرية وجه السلطة في صورة أجهزتها الأيديولوجية، بعكس صورة قاتمة لأحوال المسجونين، وما يتعرضون له من انتهاكات جسدية، والخروقات التي تحدث داخل السجن بسبب فساد هذه الأجهزة، من رشاوي، وطبقية مقيتة، فالمساجين موزّعون بين طبقتين، طبقة ثرية في العنبر الملكي، ومساجين من الطبقة الفقيرة في العنبر الميري.
وكأنه بعدسته ينقل صورة معكوسة للواقع خارج السجن، فداخل السجن لا يفرق كثيرًا عن خارجه، ثم في "يوميات الواحات" ينقل تجربة السجن كاملة، والقهر الواقع على المسجونين بكافة أصنافه، وكذلك أشكال التنكيل المادي والمعنوي، ومحاولة محو الذات التي تسعى إليها السُّلطة من وراء تجربة العقاب، ومن شدة تأثّره بتجربة السجن، غدا السَّجن بالنِّسبَة إليه جامعته كما يقول في "يوميات الواحات" (2005) "ففيه عايشتُ القهر والموت ورأيتُ بعض الوجوه النادرة للإنسان، وتعلّمت الكثير عن عالمه الداخلي وحيواته المتنوِّعة ومارستُ الاستبطان والتأمُّل وقرأتُ في مجالات متباينة. وفيه أيضا قرّرت أن أكونَ كاتبًا". ويمكن اعتبار الكتابة التلغرافية، المقتصدة لغة وبلاغة، فالمدلول لا يحتاج إلى دال يرشد إليه، جميعها من تأثير إكراهات السجن، فالكاتب في السجن يكتب خلسة، ويخشى أن تُمحى أوراقه في لحظات التفتيش المفاجئة، ومن ثم كان الاختيار الأمثل هو الاقتصاد في كل شيء، كي تكون سهلة في عملية التهريب إلى خارج السجن، وهو ما انطبع عليه شكل كتاباته فيما بعد. وكذلك تجلّى بصورة صادمة في روايته "التلصص" التي تحكي اقتطاعات من تجربته الشخصية، فيرصد واقع المجتمع المصري من منظور عين طفل في دلالة على البراءة والصدق والحيادية في النقل.
يُصدّر صنع الله إبراهيم روايته الأولى بمقتبس من رواية جيمس جويس "صورة الفنان في شبابه" هكذا: "أنا نتاج هذا الجنس وهذه الحياة.. ولسوف أُعبّر عن نفسي كما أنا"، وكأنه التزام منهجي في الحياة والكتابة، فالصدق الذي يبتغيه صُنع الله في الكتابة، لا ينفصل عن الصدق في الواقع مع الذات، وعدم تناقض قناعاته الشخصية، مع مواقفه، وهو الأمر الذي يجعله يغرد وحيدًا خارج سرب الجماعة الثقافية، مؤثرًا العزلة الطوعية والإخلاص للكتابة، بعيدًا عن الظهور الإعلاني المجاني، أو الانتشار بلا قيمة، فكما يقول لأنه يميل الى الوحدة، كما أنّه لم يعد لديه وقت "ليضيّعه في الجلسات و’القعدات’ في وسط البلد"، بالرغم من أنه من الأعضاء المؤسسين لاتّحاد الكُتّاب، وشارك في أوّل اجتماع تأسيسي له عام 1975.
حالة الانعزال التي صار عليها، لا تنفي أثر حالة الاختلاط الجماعي، وتأثير هذه الفترة عليه، فأنتج كتابه "إنسان السد العالي" بتأليف مشترك مع رفيقيه "كمال القلش ورؤوف مسعد". كما كان للرحلة ثمرتها في إنتاج رواية “نجمة أغسطس″ وهي رواية طموحة تسعى لتقديم رؤية متكاملة لحركة المجتمع والتاريخ المصرييْن، والأهم أنها تسجيل مهم لحدث مهم هو بناء السد العالي، عاكسًا صراعية العلاقة بين السلطة والطبقة المتوسطة في صورة العمال الذين يقومون بأعمال تشييد السد.
المثقف الحرّ
وقد تجلّى الصدق المؤلم في موقفه المشهود يوم تتويجه بجائزة الرواية في ملتقى الرواية الثاني الذي عقد في القاهرة عام 2003. وقد أعلنت اللجنة المشكلة من سيزا قاسم وفريال غزول وعبد الله الغذّامي ومحمد برّادة وفيصل دراّج ومحمد شاهين ومحمود أمين العالم، وبرئاسة الروائي السُّوداني الطيب صالح. قرّرت اللّجنة منح جائزة الملتقى للدورة الثانية (بعد أن مُنحت جائزة الدورة الأولى لعبد الرحمن منيف) للكاتب المصري صنع الله إبراهيم، وهو ما خالف برصة التوقعات والتكهنات التي ذهبت إلى أنّ الجائزة ستذهب لواحدٍ مِن ثلاثة أسماء هي: إدوار الخراط، أو خيري شلبي من مصر، أو إبراهيم الكوني من ليبيا.
وفي مشهد غير مسبوق، ولن يُنسى من قبل الحاضرين وعلى رأسهم وزير الثقافة آنذاك فاروق حسنى، وكبار قيادات وزارة الثقافة، والضيوف العرب، صعد صُنع الله إلى المسرح لا ليتسلمَ الجائزة، ولكن ليقلب المشهد كله، ويسدد ساهمه ونيرانه إلى السلطة التي دائما يتحرش بها في كتاباته، ها هي الفرصة واتته، ليسدّد لها ضرباته لا على الورق، وإنما على مرأى الشهود ل"يقول كلمته ويرحل" دون أن يخشى العاقبة، وبالفعل يتجه إلى منصة التتويج في خطوات ثابتة، لا لاستلام الجائزة، ويلقى كلمة الفوز، وتوجيه الشكر للمسؤولين/السلطة، وإنما ليعلن رفضه للجائزة، ومُطْلِقًا نيرانه على الجميع مبرِّرًا ذلكَ بسبب سياسات القمع والتطبيع وبغياب العدالة الاجتماعية، نطق صنع الله بما يتوارى في الصدور، أملأ في منحة أو جائزة، أو تكريم، جأر بكل ما يجيش في صدر مثقف حرّ ملتزم فعله بقوله، قائلًا: "في الوقت اللي ما فيش فيه أمّة لا حاضر لها ولا مستقبل، وفي الوقت اللي فيه إسرائيل بَتِجْهِز على ما تبقى من الأراضي الفلسطينية وسفيرها آمن في مصر، وفي الوقت اللي موجود فيه السفير الأميركي في القاهرة، ويحتل حيًا بالكامل وينتشر جنوده في كلِّ شبر من الوطن، وفي الوقت اللّي بتتفرج فيه الحكومات العربية على المجازر التي تحدث في العراق وفلسطين ولا تصنع حيالها شيئًا، أرفض قبول هذه الجائزة لأنها صادرة عن حكومة غير قادرة على منحها".
ورغم حالة الجدل التي تركتها قنبلة صنع الله إلا أنه كان مقتنعًا بما فعل، وهو ما ترجمه أحد أئمة المساجد في خطبة الجمعة، بالإشادة بما فعل، بل أكّد على أن ما فعله "كان يجب أن يقوم به الشيوخ قبل غيرهم"، وهو ما جعله يشعر بالفخر.
كانت قنبلة صُنع الله التي ألقاها، ذات دويّ كبير في الأوساط الثقافيّة آنذاك، بل جعلت القائمين على الملتقى فيما بعد يتخذون قرارًا بإلزام الفائز بإقرار كتابي بتسلّم الجائزة حتى لا تتكرّر واقعة صُنع الله التي أحرجت الدولة. موقف صنع الله لم يرُقْ لبعض المثقفين الذين تساءلوا عن سبب طباعته رواية "شرف" في دار الهلال وهي إحدى مؤسسات الدولة التي اعترض على جائزتها، بل تساءل آخرون لماذا قَبِلَ جائزة سلطان العويس؟ وغيرها من الأسئلة التي لم يكن يُبالي بالرّد عليها، فهو مقتنعٌ بما فعل.
هكذا صنع الله إبراهيم نفسه كمثقف حرّ، ينشد الحرية والعدالة، كان وما زال على نفس المبدأ، ففي محنة مرضه الأخير، لم يجأر بالشكوى، طالبًا العلاج على حساب الدولة، أو مُتهِمًا أحدًا بالتقصير، لم يلذ بأحد، أو يستعطف السلطة التي وقف على يسارها، ظلّ على موقفه الثابت، فقط أحباؤه وأصدقاؤه هم مَن طالبوا الدولة بالتدخل، وهي لم تتأخر في صورة وزيري الثقافة والصحة.
أيديولوجيا مزيفة
ولد صُنع الله إبراهيم في مدينة القاهرة عام 1937، لأب كان يتنقّل في كثير مِن المدن، وعن سبب تسميته بهذا الاسم الذي سبّب له الكثير من المشاكل يقول: "عند ولادتي كان والدي يبلغ الستين من العمر وقام بصلاة استخارة ثمّ فتح المصحف فوضع أصابعه على كلمة "صُنع الله الذي أحسن كل ّشيءٍ خلقه"، ومن هنا تمت تسميتي بصُنع الله، ولكن هذا سبّب لي مشاكل كثيرة، فعندما كنتُ في المدرسة لأنه كان اسمًا غريبًا، وكان دائما مثار فكاهة للناس، أذكر أنَّ المدرس كان يقول لي (صُنع الله؟ ما كُلنا صُنع الله). وفي السنوات الأخيرة لما حدث المدّ الديني بدأتِ الناس تسألني إذا كنت مسيحيًّا أم مسلمًا، ولكنى أرفض الإجابة عن هذا السؤال، وأقول أنا قبطي بمعنى مصري".
لا يُنكر تأثير والده وجده عليه في المرحلة الأولى حيث زوّداه بالكتب والقصص للاطلاع. بعد أن تخرج من الجامعة لم يتمكّن من الحصول على عملٍ مُنَظَّمٍ مُسْتَقِرٍ، وبعد خروجه من السجن ظلّ (يُلقِّط رزقه) فيكتب مقالًا لمجلة المجلة وغيرها، ثم عمل فترة في وكالة أنباء الشرق الأوسط، ثم انتقل منها للعمل بدار نشر الثقافة الجديدة، ثمّ تفرّع للكتابة بعدها.
العالم الذي يُشيّده صنع الله في أعماله، هو عالم يتصارع مع أيديولوجيا جماليّة مزيفة، كما يقول محمد بدوي "توصي بأن يكون العالم أكثر جمالًا وبساطة مما هو عليه"، عالم المقموعين والمقهورين بكافة أشكالهم، سواء أكانوا في السجن، أو يعيشون مأساة الواقع بكل إشكالياته وحدته. إنسان صنع الله حريته مصادرة، ومع مصادرة حريته إلا أنه ينشد الحرية والعدالة، وقد يضحي من أجلها. وواقع تحت فعل المراقبة، دائمًا متهم، ومشكوك فيه، ومن ثمّ فهو مطارد، والمطاردة. أحيانًا تكون من جهة خارجيّة كما في روايات تلك الرائحة، و1967، واللجنة وشرف، وغيرها، أو من داخل الإنسان بفعل الرقيب الخارجي، وهو ما عكسه في روايته "تلك الرائحة"، القهر الخارجي ينعكس على ذاته، فيعمل على جلدها، "بيدي لا بيد عمرو"، وهو ما نراه بصورة واضحة في تلك الرائحة. أما في اللجنة، فالقهر خارجي، عبر اللجنة التي تقزم من ذات الماثل أمامها، وتطاردها بأسئلتها العبثية، ثم بإرسال أحد أعضائها ليراقبه عن كثب، حاملًا مسدسا، ينتهي به الحال إلى القتل، بسبب تصرفاته غير المنطقية. القهر الخارجي يمثل الحاجز الكبير لإقامة علاقة مع أفراد المجتمع.
غياب أسماء الأبطال ظاهرة تكاد تكون متكررة في كثير من أعمال صنع الله، وهي حيلة فنية يلجأ إليها، ليجعل من أبطاله شخصيات نمط، نماذج متكررة في الواقع، ومن ثم فلا يهمّ أن يكون أسماؤهم حسن، أو علي، فبطل اللجنة مجهول الاسم والوظيفة، بلا أصدقاء، ولا أهل تقريبا، شخص معزول ولنقُل منبوذا كما كان بطل "تلك الرائحة" و67، ومن ثم يفرض على نفسه العزلة، إلا أن الواقع الخارجي يأبى عليه أن يعيش في عزلته، ويطارده بإكراهاته التي تخلق منه هذا النموذج غير السّويّ في نظر المحيطين، والنقاد صنع الله يفرض عليه الواقع بكل أزماته السياسية والاجتماعية وتوغّل الرأسمالية، لأن يختار أبطال إشكاليين، يشاكلون الواقع ويجابهونه بشتى السبل، فالواقع لن يتغير من وجه نظرهم، ومن ثم لا يسعون إلى تغييره بقدر ما يسعون إلى فضحه وتعريته بسلبيتهم، وباستسلامهم لوضع المراقبة الذي يُفرض عليهم، وعلى الآخرين.
تجربة تلك الرائحة كانت تمردًا على ما حدث من امتهان لذاته وللآخرين في السجن، وبعده بالمراقبة، والإصرار على التوقيع في دفتر السجن كل مساء، ومن ثم كانت الرائحة تزكم الأنوف، سواء الرائحة بصورتها المادية في صورة المجاري، أو رائحة الكاكا التي أطلقها البطل في صالون برجوازي، أو صورتها المعنوية في الفساد، والقهر الذي تعرض له البطل، امتدت الرائحة إلى نصه "67" وهو التكملة لنص "تلك الرائحة"، وقد أفرج عنه صنع الله بعد مدة طويلة، حيث يسود جو النكسة الكابوسي، وهو ما أصاب الشخصيات بفتور، ومبالاة، ومن ثم ما حدث من تجاوزات أخلاقية وعلاقات غير شرعية كان سببه غياب منطق النكسة، وهو ما تردد بصورة موازية في غياب المنطق في العلاقات التي يمكن اعتبارها نشوزًا، وخرقًا للأعراف.
فعبّر صنع الله إبراهيم عن حالة الصمت التي أصيب بها الجميع بعد النكسة، بغياب الحوارات، والاعتماد على الوصف، فافتقاد الحوار، كناية بعظم الأمر، وقد تطرق لذات البنية في روايته "تلك الرائحة" حيث جعل لغة الأجساد هي المهيمنة، في استنكار لانتهاك جسد الرجل داخل الحبس، فكان رده مضادًا، باطراد هذه الانتهاكات، وهو ما يمثل سمة غالبة في معظم كتابات صنع الله إبراهيم، أقصد السخرية، السخرية كفعل مضاد لفداحة الواقع، أو فداحة فعل السلطة، ومن ثم فلا مقاومة لهذا القعل إلا بالسخرية، وقد عبر صنع الله إبراهيم عن سخريته المريرة، في رواية "اللجنة"، فما قام به البطل من أفعال انتهت بقتله لأحد أعضاء اللجنة، كان مقاومة بالسخرية لما يحدث له، فمراقبته لم تقف عند تتبعه، بل إرسال شخص يلازمه في كل أفعاله، بما في ذلك لحظة الدخول إلى الحمام، في انتهاك صريح للسلطة لخصوصية البطل.
السّمة الغالبة لراوي صنع الله هو الترقّب والرصد للأحداث فيقع موقع المتربص والجاسوس، الذي يصغي لكلّ ما يدور من حوله، فهو من غرفته يتابع ما يحدث في غرفة زوجة أخيه، وفي الشارع يتأمل العلاقات بين الأحبة والنظرات المختلسة، وكذلك اللمسات التي تبدو كسرقة من العشاق، كما في وصفه لحالة العاشقين عند صعوده إلى الجريدة. وأثناء ممارساته يتتبع تفاصيل الجسد، ويركز عليها. هذه الحالة التي يبدو عليها السارد، إلى جانب سرده للتفاصيل، تعكس التوجس من السلطة، وهو ما انعكس عليه في صورة خوف وتربص وقلق من الآخرين، وكنوع من الحيلة يعكسه على الآخرين فيظهره بصورة تكاد تكون مبالغة لحد ما، حيث تمتد حالة المراقبة في كل أعماله تقريبًا، فسارده مولع بتتبع حركة الآخرين في الشوارع، وتحديدًا في الوجوه البائسة، والخطوات المرتبكة، والنظرات الحائرة القلقة إلى لا شيء التي تعد سمة للناس في الشوارع، فيميل إلى الرصد والتسجيل لمفردات الحياة سواء الخاصة أو العامة؛ فيبدو وكأنه باحث اجتماعي يرصد وقع التحولات السياسية والاقتصادية على أفراد المجتمع، وما انتهى إليه مصيرهم بسياسات التجريب التي اعتمدتها السلطة، وجعلت من شعبها أنبوبة اختبار لسياساتها الاقتصادية التي جعلت الناس في حالة من الضنك واحتراب كرد فعل على قسوة الحياة، وتعنتها. في مقابل حظيت شريحة أقل برفاهية نتيجة لسياسات الاحتكار والاستغلال والتربح بكل شيء.
https://megazine.ultrasawt.com/%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D9%82/%D8%B5%D9%86%D8%B9-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D8%A5%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D9%87%D9%8A%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%A6%D9%8A-%D9%83%D8%A7%D8%B0%D8%A8-%D9%83%D8%A8%D9%8A%D8%B1-%D9%88%D9%84%D9%88-%D8%B5%D8%AF%D9%82
رجل الروائي صنع الله إبراهيم، بعد أن شكّل حالة استثنائية في الأدب العربي والمصري، خاصة ضمن "جيل الستينيات"، حيث تبنى كتابة صادمة وصادقة