11/12/2023
إمرأة صاحت وامعتصماه فحرك المعتصم الجيش العباسي لإنقاذها، فالمعتصم أعظم رمز للشهامة وعلمنا كيف تصبح الأمة عظيمة عندما يقودها بطل.
إستغل الإمبراطور تيوفيل الروماني فرصة إنشغال الخليفة المعتصم في حربهِ ومطاردة ثورة الخرميين ، فأغار على الحدود الإسلامية وهاجم مدينة زبطرة وهي أقرب الثغور الإسلامية إلى أراضي الدولة البيزنطية، فأحرقها وخربها وقتل رجالها وسبى نسائها وأطفالها و هزم جيش عربي صغير كان هناك ، و عاد إلى مدينة عمورية متباهيا بالأسرى ....
حينها كان الخليفة العباسي المعتصم بالله في مجلسه في سامراء عاصمة الخلافة العباسية آنذاك (أنشأها المعتصم وجعلها عاصمة للخلافة) ، و كان يريد أن يشرب كأساً من ماء ، فدخل له عرب هاربين من مدينة زبطرة في الأناضول وذكروا خبر قيام الامبراطور البيزنطي تيوفيل بمهاجمة مدينة زبطرة، و أخبروه بخبر إمرأة هاشمية إسمها "شراة العلوية" أخذت تصيح عندما وقعت في أسر الروم (وا معتصماه ، وامعتصماه) ....
فغضب المعتصم وشعر بأن صوت هذه المرأة قد وصل لأذنه
، وفي لحظتها أمر بتعبئة الجيش العباسي العظيم ، فبلغ تعداده خمسمائة ألف جندي بكامل عتاده يلبس السواد ، و أقسم بأن ينتقم من الروم و جمع قادته وسألهم فقال: «أي بلاد الروم أمنع وأحصن؟ فقيل: عمورية، لم يعرض لها أحد من المسلمين منذ كان الإسلام، وهي عين النصرانية وبنكها؛ وهي أشرف عندهم من القسطنطينية».
فأقسم الخليفة أن يخرب مدينة عمورية مسقط رأس العائلة الإمبراطورية الرومانية ، و تولى قيادة الحملة بنفسهِ، كما خرج معه كبار جنرالاته الترك كحيدر بن كاوس (الافشين) وأشناس ، وأمر بنقش كلمة (عمورية) على دروع جنوده الخمسمائة ألف .
وقبل أن يخرج من مجلسه، أمر خادمه بأن يبقي كأس الماء التي كان سيشربها في مكانها، لكي يذهب لينقذ المرأة ثم يعود لشربها.
تقدم المعتصم بجيوشه الجرارة وفتح في طريقه مدن كثيرة أشهرها أنقرة، وإلتقى بجيش تيوفيل عام 838 م فقامت بين الجيشين معركة إنتهت بإنتصار جيش المعتصم و سحق جيش الروم ، ثم توجه إلى مدينة عمورية وضرب حصارا عليها وبعد الحصار الشديد تمكن المعتصم من إقتحام عمورية عنوة وتخريبها وأسر من فيها.
وبعد أن دخل المعتصم للمدينة أمر حاكمها الرومي مناطس أن يعطيه مفاتيح السجون، وذهب بنفسه باحثا عن المرأة العربية التي في السجن، وقام بفتح باب سجنها بنفسه، وقال لها: قد لبيت النداء.
وأما الإمبراطور البيزنطي تيوفيل فقد كاد أن يموت كمدا نتيجة هذه الهزيمة المدوية، و فر إلى عاصمته القسطنطينية ، وأرسل للمعتصم يبلغه إستعداده أن يدفع الفدية لإسترداد المدينة ، وعرض عليه 20,000 باوند بيزنطي أي حوالي 6,500 كيلوغرام من الذهب وإطلاق سراح جميع العرب المحتجزين لدى البيزنطيين مقابل إسترداد عمورية. فرفض المعتصم الفدية، وقال مستهزءا للرسول البيزنطي أن الحملة وحدها قد كلفته أكثر من 8 ملايين دينار عباسي , أو ما يعادل 32.500 كليلوغرام ذهب ، كان المعتصم يريد أن يواصل فتوحاته إلى القسطنطينية، غير أنه إكتشف مؤامرة دبرها إبن أخيه العباس بن المأمون مع القائد عجيف بن عنبسه للإنقلاب عليه ، مما إضطر المعتصم لأن ينهي الحرب مع الروم و يعود لبلاده ويقبض على العباس وعجيف فحبسهما ومنع عنهما الماء إلى أن ماتا و قام بتصفية من شارك في المآمرة ...
أما الإمبراطور الروماني فمرض مرضا شديدا بعد هذه الهزيمة و تدهورت صحته حتى توفي بعد ذلك بثلاث سنوات ، المؤرخون البيزنطيون عزوا وفاته قبل أن يبلغ الثلاثين إلى حزنه الشديد على سقوط عمورية مسقط رأسه .
أما المعتصم فعاد إلى عاصمته سامراء منتصرا ودخلها بأبهة عظيمة، و قد جلب معه 42 شخصا من كبار جنرالات الروم قيدوا لسامراء عاصمة الخلافة وأُعدموا ، و من يومها أصبحت الكنيسة الأرثوذكس تحتفل ب "عيد الشهداء" في 9 مارس كل عام لإحياء ذكراهم ...
ونظم الشاعر أبو تمام قصيدة لتخليد النصر، وأول شيء فعله المعتصم بعد دخول سامراء هو الذهاب لمجلسه لشرب كأس الماء التي كان سيشربها قبل أن يأتيه خبر الإمرأة التي أنقذها.
وفي هذا قال الشاعر أبو تمام الذي كان زمانه، عن صوت المراة الذي لباه المعتصم:
لبَّيْتَ صَوْتاً زِبَطْرِيّاً هَرَقْتَ لَهُ---- كأسَ الكرى ورُضابَ الخُرَّدِ العُرُبِ
-
وقال أبو تمام في وصف جيش العباسي بقيادة المعتصم والذي لبى النداء:
تِسْعُونَ أَلْفاً كآسادِ الشَّرَى نَضِجَتْ----جُلُودُهُمْ قَبْلَ نُضْجِ التينِ والعِنَبِ
وغيرها من الأبيات الجميلة الرائعة التي تصف معركة الشرف والنخوة والبطولة.
-
وتم تخليد هذه القصة أيضا في مصادر كثيرة ومنها كتاب (معجم البلدان) لياقوت الحموي والذي شاهد بنفسه وثائق لهذه المعركة بحكم عمله في بلاط الخليفة العباسي أحمد الناصر، وكذلك خلدها إبن خلدون في (المقدمة) والذي إطلع على وثائق عباسية أيضا، وأيضا البلاذري الذي كان قريباً من ذاك الزمان وذكرها في كتابه (فتوح البلدان)، وأيضا البيروني في كتابه (الجماهر في معرفة الجواهر)، والخطيب التبريزي في (شرح ديوان أبو تمام)، وكذلك إبن الأثير في كتابه (الكامل في التاريخ)، وكذلك البكجري في كتابه (مختصر تاريخ الخلفاء)، وأيضا إبن فضل الله العمري في كتابه (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار).
-
وأمام هذه القصة الملحمية التي جعلت من الخليفة العباسي محمد المعتصم أحد أعظم حكام التاريخ ورمزا للشهامة والنخوة والشرف، نقارن بين ما حدث في زمانه وما يحدث في زماننا فندرك أن الفرق بينهما يتجاوز الفرق ما بين الثرى والثريا.