
16/07/2025
الخطوط الحمراء وحدود الحقيقة: قراءة في خطاب الأمن الوطني وتحديات حرية الصحافة في جنوب السودان.!
بقلم/ دكتور فولينو جوض
في هذا التقرير الصادر عن جهاز الأمن الوطني في جنوب السودان، يتجلى صراع كلاسيكي لكنه بالغ الحساسية بين ضرورات الأمن القومي من جهة، و حرية الصحافة والتعبير من جهة أخرى. وعليه، يمكن قراءة هذه التصريحات وتداعياتها من ثلاثة مستويات متكاملة: التحليل القانوني، والسياسي، والمجتمعي الإعلامي.
بين الأمن القومي وحرية التعبير – الإشكالية القانونية
من حيث المبدأ، لا خلاف على أن كل دولة ذات سيادة تحتفظ بحقها المشروع في حماية أمنها القومي، بما يشمل حماية المعلومات الاستخباراتية، العسكرية، ومصادر الخطر المحتملة. هذا ما تُقرّه المعاهدات الدولية مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية(المادة ١٩) التي تسمح بتقييد حرية التعبير "عند الضرورة لحماية الأمن القومي أو النظام العام".
لكن تكمن الخطورة في العبارات الفضفاضة مثل "الخطوط الحمراء" أو "التهديد للأمن القومي" التي لا تتضمن معايير قانونية واضحة ومحددة، مما يُمكّن السلطة التنفيذية، خاصة الأمنية، من توسيع دائرة التفسير لتشمل حتى التغطيات الصحفية المشروعة، والتي قد تُسلّط الضوء على الفساد، أو سوء الإدارة، أو تجاوزات الدولة.
وبدلاً من توفير بيئة قانونية ضامنة للمهنية، فإن هذا النمط من الخطاب يولد أجواء من الرقابة الذاتية والخوف داخل المؤسسات الإعلامية.
البعد السياسي – التحذير أم الهيمنة؟
تصريحات جهاز الأمن جاءت في توقيت بالغ الدقة، مع تزايد الأصوات الإعلامية المنتقدة للانغلاق السياسي، وانسداد آفاق الإصلاح، وتراجع الثقة في أداء الحكومة الانتقالية.
وبذلك، يمكن النظر إلى هذا التصريح كنوع من الردع المسبق أو استباق أي تغطيات مستقبلية، خصوصًا مع اقتراب الانتخابات (إن وُجدت إرادة حقيقية لإجرائها) أو تصاعد التململ الشعبي في بعض الولايات.
في الأنظمة الانتقالية، حيث تتسم المؤسسات بالهشاشة، غالبًا ما تُوظف شعارات الأمن القومي كأداة لشرعنة القمع السياسي، بدلًا من استخدامها في مواجهة التهديدات الفعلية، مثل الجريمة المنظمة أو الإرهاب.
الإعلام بين الشراكة والمساءلة
صحيح أن الإعلام مطالبٌ بمراعاة معايير المسؤولية المهنية، وعدم الانزلاق نحو الإثارة أو نشر الشائعات، لكن في المقابل، لا يمكن أن يصبح الإعلام شريكًا أمنيًا إلا إذا كان يمتلك مساحة من الحرية والمعلومات تمكّنه من أداء دوره الحقيقي في المساءلة وكشف الخلل.
حين يُطلب من الإعلام “المساهمة في رفع الوعي”، دون أن يُسمح له بطرح الأسئلة الجريئة أو نقد السياسات الأمنية الفاشلة أو الفاسدة، فإنه يُختزل إلى مجرد منصة دعاية رسمية، لا يُعتد بها في بناء مجتمع ديمقراطي.
الحاجة إلى ميثاق أمني-إعلامي متوازن
من أجل الخروج من مأزق "الرقابة باسم الأمن"، هناك حاجة ماسة إلى:
1. إصدار قانون واضح للمعلومات المصنفة، يحدّد بدقة ما يُعدّ "سريًا" دون أن يخلّ بحق الجمهور في المعرفة.
2. إشراك نقابة الصحفيين والجهات الإعلامية في صياغة ميثاق شرف مهني–أمني يوازن بين حرية التعبير وحماية الدولة.
3. إنشاء هيئة رقابية مستقلة (قضائية أو برلمانية) لمراجعة أي حالات اعتقال أو محاكمة للصحفيين في القضايا الأمنية.
4. تعزيز التدريب الأمني–الإعلامي المشترك لخلق ثقافة من التفاهم بدلًا من التنازع.
بين الخطوط الحمراء والمناطق الرمادية
تصريحات جهاز الأمن الوطني في جنوب السودان ليست مجرد بيان رسمي، بل مؤشر لخلل أعمق في العلاقة بين الدولة والإعلام، وهي دعوة، سواء قُصدت أم لم تُقصد، إلى إعادة تعريف مفاهيم "الأمن" و"العدو" و"الشريك".
فإن كان الإعلام عدوًا، فالوطن في خطر. وإن أصبح الإعلام شريكًا، فليُمنح حق الأسئلة، لا مجرد واجب السكوت.
أولًا: بين الأمن الوطني ومهددات الدولة
مفهوم الأمن الوطني:
يُفترض أن يشمل الأمن الوطني حماية الدولة من:
١- الاختراقات العسكرية أو الإرهابية
٢- زعزعة النظام العام
٣- تسريب معلومات أمنية سرية حساسة
٤- لتجسس لصالح جهات أجنبية
وهذه أمور واضحة الحدود ويمكن ضبطها بتشريعات دقيقة، لكن المشكلة تبدأ حين تُعمّم هذه المفاهيم وتُستخدم لتبرير منع الصحافة من تغطية قضايا مثل:
١. الفساد الحكومي
٢. تعذيب المعتقلين
٣. انتهاكات حقوق الإنسان
٤. الانهيار المالي أو المصرفي
٥. الاحتجاجات السلمية أو المطالب الشعبية
ما هي المهددات الحقيقية للأمن في جنوب السودان؟
ليست التغطية الإعلامية هي التهديد الأكبر للدولة، بل:
١. الاقتتال القبلي المستمر– كما يحدث الأن في جميع ارجاء البلاد، الذي خلّف آلاف القتلى والنازحين، دون معالجة إعلامية كافية بسبب الخوف من العقاب.
٢. الفساد واسع النطاق– كاختفاء ملايين الدولارات من صندوق البترول أو صندوق الطوارئ، وهو ما يُفترض أن تتناوله الصحافة للتحذير وليس ليُحسب عليها كجريمة.
٣. ضعف السيطرة الأمنية على الحدود– حيث تنتشر الأسلحة الصغيرة والمتوسطة دون رقابة، بينما يتم التشدد مع من ينشر تقريرًا عن وجود شحنات أسلحة غير قانونية.
٤. تسييس الأجهزة الأمنية– حين تتحوّل من جهاز دولة إلى جهاز حزب أو شخص، تصبح أداة للهيمنة بدلًا من الحماية.
ثانيًا: القضايا الوطنية بين المسكوت عنه والمحظور
الصحافة لا تهدد الدولة، بل تكشف مكامن الخلل. من أبرز القضايا الوطنية التي تتطلب تغطية إعلامية، لا قمعًا:
1. قضية الإصلاح الدستوري والمؤسساتي
— هل الدستور الانتقالي سيبقى؟
— من يشارك في صياغة الدستور الدائم؟
— هل هناك إرادة حقيقية لإجراء الانتخابات؟
الصحفي الذي يسأل عن هذا لا يُهدد الأمن، بل يُنقذ الدولة من الغموض والاحتكار السياسي.
٢. أزمة الخدمات العامة (صحة، تعليم، ماء)
— معظم المستشفيات لا تعمل، والمدارس تنهار.
— هل يحق للصحفي تغطية هذه الكوارث؟ أم يُعد “تشويهًا لصورة الدولة”؟
٣. الاستثمارات الأجنبية الغامضة
— شركات صينية تستثمر في الذهب دون اتفاقيات منشورة.
— عقود نفطية لا يعرف عنها البرلمان شيئًا.
— هل يُسمح للصحافة بمراقبة ذلك؟
٤. مصير اتفاقية السلام
— كم بندًا تم تنفيذه؟
— هل تم دمج الجيش فعليًا؟
— هل الأجهزة الأمنية ملتزمة بالاتفاق أم تعمل بمعزل عنه؟
ثالثًا: الإعلام الحر كدعامة للأمن لا تهديد له
خطأ استراتيجي:
أن يُنظر إلى الإعلام كخصم للأمن، وليس كـ جهاز إنذار مبكر ضد الانهيار. فالدول المستقرة لا تقمع الإعلام، بل تستثمر فيه لضبط الرأي العام، وكشف الفساد، وتحفيز المشاركة الوطنية.
رابعًا: بين المعلومة العامة والمعلومة السرية – من يحدد؟
غياب قانون واضح لـ”حرية الحصول على المعلومات” يخلق فراغًا يُستغل من قبل الأجهزة الأمنية لتعريف أي معلومة على أنها “سرية”.
اقتراحات واقعية:
١. وضع قانون معلومات وطني:
- ينص على المدة الزمنية التي تُصنف فيها الوثائق
- يحدد من الجهة المخوّلة بتصنيف المعلومات
٢. إنشاء مجلس إعلام وأمن مشترك:
- بعضوية قضاة، نقابة الصحفيين، والداخلية
- لفصل ما هو تهديد فعلي وما هو تغطية مهنية
٣. إصدار “دليل عمل صحفي للأمن القومي”
يشمل تعريفات ومعايير وتدريبات للصحفيين والضباط معًا
خلاصة: الإعلام لا يُربك الأمن، بل يُرشد السياسة
الخط الأحمر الحقيقي ليس هو التغطية الإعلامية، بل:
- السكوت عن النزاعات الداخلية
- التواطؤ مع الفساد
- مصادرة حق الشعب في المعرفة
الدولة التي تخاف من الكلمة، لا تستحق سيادتها
إن الدولة التي تعتبر السؤال تهديدًا، والكلمة قنبلة، والمواطنة مشروطة، لا تبني أمنًا، بل تُعمّق هشاشتها الهيكلية.
وإذا كانت جنوب السودان تطمح إلى الخروج من نفق ما بعد الحرب، فإن أول خطوات التعافي هي استعادة المعنى الحقيقي للدولة: كيان يحمي لا يهدد، يسمع لا يقمع، يحتضن لا يفرّغ، يحاسب من يخرق لا من يكتب.