
08/10/2025
العالم يتفكك والنظام العالمي الى زوال ...!!
«يعود هذا المقال الى مثل هذا الشهر قبل خمس سنوات أي أكتوبر من عام 2020»
▪️كتب« ويل ديورانت» صاحب موسوعة قصة الحضارة ان الحضارات العظيمة لاتنهزم إلا عندما تدمر نفسها من داخلها.
▪️بينما ان جوهر نظرية «توينبي» في قراءة انهيار الحضارة تقوم على أن الأمم والحضارات تموت أساسا بسبب عوامل داخلية،وفي القلب من هذه العوامل الداخلية انهيار القيم والقوة الأخلاقية ،ولقد لخص القضية برمتها في عبارة بليغة عندما قال (ان الحضارات لا تموت قتلا، وإنما تموت انتحارا)
▪️وقد اكد (ريتشارد .ن. هيس ) رئيس مجلس العلاقات الخارجية الامريكي في عام 2018 كل ماتقدم بقوله وبعبارة اكثر وضوحا( النظام العالمي : ارقد بسلام ) .وقد استعار في مقاله عبارة للفيلسوف فولتير (بعد مسيرة اقتربت من ألف عام، لم تعد الإمبراطورية الرومانية المقدسة المضمحلة مقدسةً ولا رومانية ولا إمبراطورية). واليوم، وبعد مرور نحو قرنين ونصف قرن تقريبا؛ نستطيع أن نقتبس من فولتير فنقول إن النظام العالمي الليبرالي المضمحل لم يعد ليبرالياً ولا عالميا ولا نظاما.
▪️عبر كل العصور هناك لحظة فارقة في حياة البشرية اسمها النقطة صفر تلك التي يجد الجميع انفسهم فيها في مأزق أمام حائط مسدود حيث تتهاوى كل القواعد التي تحكم اللعبة،فيصبح الصدام بين الكبار نتيجة منطقية،وتصبح ثورات الشعوب ضرورية حتمية ..
ارى اننا اليوم نعيش مرحلة العد التنازلي ولم يتبق سوى ان يطلق الحكم الصافرة معلنا نهاية المباراة فيبدا التسونامي.
لست من المتشائمين ولكنني ارى ان اللعبة قد انتهت وان الجميع بانتظار صافرة الحكم لاعلان نهاية المباراة التي دامت عشرات السنين لتسحق الملايين من الفقراء والمستضعفين عبر العالم،حيث يتفق كل فقهاء التاريخ السياسي على ان اجتماع العوامل التالية يمثل انذارا بقيام الحروب الكونية التي تنتج عنها تغييرات جذرية تجتاح كل العالم ويمكن تحديد هذه العوامل بمايلي:
1 - تصاعد الخطاب الشعبوي وتراجع دور النخب التقليدية
2 – انهيار المرجعيات الاخلاقية التي تضبط سلوك المجتمعات والافراد
3 – الضائقة الاقتصادية والكساد الاقتصادي
4 – وجود مناطق توتر قابلة للاشتعال
5 – ظهور قوى دولية تجد انها تحتاج الى مساحة من النفوذ السياسي على المسرح العالمي يتناسب مع حجمها وهذا مالاحظناه في حالة المانيا في الحربين الاولى والثانية ونراه اليوم في الصعود الالماني حين اصبحت المانيا قائدا لقاطرة الاقتصاد الاوربي والصين التي تخترق جدار الاقتصاد العالمي زائدا الاقتصاديات الناشئة والدول الاقليمية التي تطمح بلعب ادوارا تناسب قوتها الاقليمية ويقابل ذلك كله انسحاب امريكا من مسرح الاحداث واعتماد سياسة الانكفاء خلف المحيط .
يمكن ان نؤرخ بعضا من التحولات الكبرى في التاريخ الاوربي والتي القت بظلالها على العالم :
أولا- تنصير الدولة الرومانية على يد الإمبراطور قسطنطين والذي اصدر مرسوم ميلانوعام 313 قبل أن يعلن المسيحية دينًا للإمبراطورية ويترأس مجمع نيقية عام 325.
ثانياً- الثورة الفرنسية التي قضت على الحكم البابوي في العام 1789 بعد ما يقارب خمسة عشر قرنا من سلطة الكنيسة التي سادت في أوربا.وكانت الثورة الفرنسية نتيجة موضوعية للثورة الصناعية،بما اصطلح عليه عصر النهضة وايذانا بسقوط النظام الإقطاعي وشهادة وفاة النظام القديم وصعود الطبقة البرجوازية ووضع الاسس العملية للنظام الراسمالي .
ثالثا - نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي،فيما أُطلق عليه تسمية نهاية التاريخ على يد منظر المحافظين الجدد في امريكا( فرانسيس فوكوياما) وأُطْروحَتهُ الأساسيَّة أن مبادئ الليبرالية الاقتصادية، تُشَكِّلُ مرحلة نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان وبالتالي عولمة الديمقراطية الليبرالية كصيغةٍ نهائيةٍ للحكومة البشرية.
وعلى الرغم من الجدل الذي أثاره فوكوياما الا ان احدا لم يتنبّه الى ماهو جوهري في طروحاته التي يعترف بها ضمنا وبلا وعي ان الراسمالية وصلت الى ذروتها وان كل ماتم كماله بدا نقصانه،فالراسمالية التي كانت تعتمد الفائض الصناعي والتجاري أساساً لها تحولت اليوم الى رأسمالية مالية بعد تدشين مرحلة مابعد الصناعة ومابعد التكنلوجيا ..
(الرأسمالية تواجه الآن مشكلة أساسية من انخفاض قيمة رأس المال والانتقال إلى نظام القروض وإلى التقادم المحسوب، الذي يليه سباق في المضاربات المالية.ونموذج الاستهلاك من خلال الائتمان والقروض الذي بات يقترب من نهايته. وبعد أن دمرت كل شيء، الرأسمالية، تماما مثل العقرب، لا بد أن تدمر نفسها من خلال تشبع السوق، وانفجار الديون، والاتجاه النزولي في معدل الأرباح، وانحدار أوروبا، والانتشار واسع النطاق في الوعي الزائف، وتفعيل عملية الفوضى من هدم الحضارة، فإن العالم يبدو قد دخل في مرحلة إندفاعية وختامية.
أوروبا اليوم مع عدم وجود الأفق عندها في النمو هي بالفعل على شفا الركود، ويبدو أنها قريبة من الانهيار. فقاعة السندات الحكومية لجميع دول منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية OECD تؤدي إلى الاستمرار في التضخم. هناك اليوم ما قيمته أكثر من 100 تريليون دولار " في السندات وأكثر من 555 تريليون دولار في المشتقات المالية. ماذا سيحدث عندما تنفجر "فقاعة السندات" هذه؟
إنه التدمير الذاتي للرأسمالية.) ** آلين دي بينويست **
وانظلاقا من تلك الحقيقة فان الجمهور اليوم على ضفتي الاطلسي بات يعيش حالة من انعدام الثقة بمؤسساته السياسية وفقدت النخبة الليبرالية قدرتها على التاثير في تشكيل الراي العام رغم الامكانات المالية والاعلامية التي تمتلكها،وقد بدا ذلك واضحا في تنامي التأييد الشعبي للحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة في كل من امريكا واوربا،فظاهرة ترامب لم تأتِ من فراغ بل نجد جذورها في افكار كبير مسشاريه السابقين "ستيفن بانون" الذي ينتمي الى «اليمين البديل»، وهي حركة معادية للعولمة، جذبت عدداً كبيراً من القوميين البيض الأميركيين. وكانت قد سبقت ذلك، نقطة تحوّل أخرى بالنسبة إليه، هي الأزمة المالية، في عام 2008، التي رأى فيها خيانة للطبقة العاملة، فتبنّى «مبادئ ثورة حزب الشاي» المحافظة، ضد النخبة الجمهورية والديموقراطية. حتى وجد بانون نفسه قائداً لما أسماه «حركة حزب الشاي العالمية» ضد نخبة مالية وصفها بـ»حزب دافوس»، في إشارة إلى المنتدى الشهير الذي يستضيف حدثاً سنوياً يحضره لفيف من النخب الاقتصادية، إلى جانب رؤساء الحكومات والوزراء. وفي خطاب بُثّ أمام مؤتمر عُقد في الفاتيكان، ثار على وول ستريت والطبقة الرأسمالية، التي لا يبتعد كثيراً عنها. «الطبقة الوسطى، الرجال والنساء العاملون في العالم... تعبوا من أن يكونوا مسخّرين لما نسميه حزب دافوس»، قال حينها.
وفي ضوء هذه المعطيات يمكن تفسير تعاطف حركة ترامب - بانون مع تطلعات الاحزاب اليمينية الشعبوية في اوربا والتي تدعو الى تفكيك الاتحاد الاوربي وصولا الى بلقنة اوربا ..
ولأن إمكانية قيام حرب عالمية امر غير قابل للتحقق الان في ظل امتلاك الاطراف لاسلحة نووية من جهة ،وشعور كل الأطراف ان قواعد اللعبة في ادارة العلاقات بين الكبار لم تعد ذات جدوى بسبب تغير مساحات المصالح والتنافس،فلم يعد امام العالم واوربا خصوصا سوى الانتقال الى مرحلة الحرب بالنيابة،أو إعادة تفكيك المجتمعات لبناء منظومة جديدة من المفاهيم الاجتماعية والسياسية تحقق رغبات القوى الفاعلة ... وهذه المرة ستكون اوربا مسرحا للاحداث ..ويكفي استذكار الاحداث التي سبقت الحربين العالميتين الاولى والثانية لندرك ان اوربا اليوم تسير بخطى ثابتة نحو التفكك والحرب من جديد وستكون على طريقة حرب الثلاثين عاما في الامبراطورية الرومانية المقدسة التي انتهت بصلح وستفاليا (Peace of Westphalia) 1648. وكانت الضحية الخفية للحرب هي الكنيسة الكاثوليكية...
والضحية القادمة هي الراسمالية وادواتها والنخب والاحزاب الليبرالية التي فقدت شرعيتها..
انه عالم يتفكك ...
(ان مأزق العالم الغربي اليوم يتمثل في صورتين أحلاهما اكثر ظلاما من الأخرى فقد أصبحت أمريكا تشكل عبئا أخلاقياً على منظومة الحضارة الغربية من جهة وعلى الجانب الآخر فان انهيار أمريكا او انسحابها من مسرح الاحداث لايمثل خطرا على نفسها كدولة ولكنه يمثل حالة ترعب الكون بكامله لان هذا الانهيار سيؤدي الى انهيار منظومة التوازنات العسكرية والاقتصادية التي كانت تحكم العالم بموجب قواعد اللعبة التي يصنعها الكبار،حيث ستفقد المنظومة الكونية توازنها وسيؤدي ذلك الى كارثة شبيهة بانفلات الكواكب من مدارها،والأخطر من كل ذلك سيجد العالم نفسه امام انعدام مرجعية أخلاقية تحكمه بعد انهيار ثقافة الراسمالية والتي سبقها انهيار منظومة الفكر الشيوعي مما سيترتب عليه ان يعود العالم الى التصنيفات الدينية والقبلية التي سبقت قيام الحضارة ،ولكن المشكلة تكمن في ان هذه المرجعيات اليوم قد فقدت قيمتها في نظر الجمهور من جيل العولمة الذي تمرد على كل شيء.
❗المشكلة التي يعاني منها الغرب انه كان في الماضي يصدر ازماته للاطراف فيتم الصراع والتنافس وحتى الاقتتال في ساحات اخرى بعيدة حيث تدفع الشعوب الفقيرة الثمن،اما اليوم فلم تعد الاطراف قادرة على امتصاص كل هذا الزخم من الصراع والازمات فتحول الصراع الى داخل المؤسسة الغربية نفسها وستكون اوربا هذه المرة هي مسرح الحدث إذ التسونامي قد ينطلق هذه المرة من اوربا نفسها.