
23/04/2025
في الغربة، تتبدّل الملامح وتغدو القلوب مرآة شوقٍ لا ينطفئ.
ينظر إليّ قومي، لا كما كنت بينهم، بل كما خُيّل إليهم أني صرت، كأن البُعد صيّرني غير الذي عهدوه.
يراني والدي رجلًا اشتدّ عوده، وهو لا يدري أنّي في الليالي الباردة أحنّ إلى ظلّه كما يحنّ الغصن إلى الجذع.
لكنّ القدَر كان أسرع من خطاي، خَطَفه الموتُ قبلي، ولم تسمح لي الأقدار أن أقبّل جبينه قبل أن يُوارى الثرى.
جاءني الخبر كطعنةٍ لا تنزف، جمدت الدموع في عيني، وارتجف قلبي كأنّه فقدَ بوصلته إلى الحياة.
لم أُلقِ عليه نظرة الوداع، ولا سمعت وصيته الأخيرة، ولا حملت نعشه كما يليق بابنٍ لأبيه.
ولمّا صلّوا عليه، كنتُ هناك، في بُقعةٍ أخرى من الأرض، أحدّق في جدارٍ صامتٍ كأنّي أنتظر أن يردّ عليّ الصوت من التراب.
وتحسب أمي أنّي في سعةٍ من أمري، تسرّها ابتسامتي عبر الهاتف، ولا تعلم أني أقتات من صوتها حياة، وأرتقُ بغصّتي حديثها الدافئ.
كلّما قالت "كيف حالك؟"، قلتُ: بخير.
ولم أُخبرها أنّ قلبي منذ رحيله ما عاد كما كان، وأنّ الغربة لم تَعُد غربة وطنٍ فحسب، بل غربة صدرٍ دافئٍ لن يعود.
وأما الأصدقاء، فمنهم من جعل المسافة سطرَ وداعٍ صامت، ومنهم من بقي على العهد، يذكرني في المجالس ويبعث لي بفتات الذكرى.
يروني غريبًا في أرضٍ جديدة، فلا يسألون كم من مرةٍ بكيتُ كي أبدو صلبًا، وكم من حلمٍ أجلته لأبدو ناجحًا.
يحسبون الغربة كسبًا، وهي في حقيقتها فَقْد، يرونها سُلمًا، وهي في جوهَرها هُوّةٌ من الحنين.
الغربة ليست في المكان، بل في غياب الذين كانوا يُشبهون الوطن.
---