04/11/2025
يكذبون علينا ويقولون هذا تاريخكم
جلد ثور وقرية قديمة #أوتيك وأخرى حديثة #قرطاج
الحمد لله بدأنا نكتب تاريخنا بأنفسنا
✍️ : محطات في ولاية بنزرت
كتب في 2019)
تقع المحطّة الرابعة من بحثنا حول المدن التاريخية لمنطقة بنزرت في الشمال الشرقي من البلاد التونسية على بعد 25 كلم عن بنزرت و30كلم عن العاصمة تونس، وهي أشهر المدن التاريخية في الجهة حيث يزورها السواح من مختلف دول العالم.
وهي تحتوي على متحف يضم العديد من الكنوز التاريخية بالإضافة إلى عديد الأحياء والمعالم القديمة التي تعود إلى الفترة البونيقية والرومانية مما سنكتشفه في هذا البحث، وقد احتلت هذه المحطة عبر التاريخ ذلك الساحل الذي كانت تصب فيه روافد نهر مجردة حيث كان يتواجد أوّل ميناء أسسه الفينيقيون القادمون من صور في هذه البلاد، ولكنه اليوم يبتعد بنحو 11 كيلومترا عن البحر بعد أن توسعت فيه اليابسة وغمرت التربة أجزاء واسعة من المدينة التاريخية.
إنها من دون شك مدينة أوتيك العريقة التي حافظت على اسمها القديم إلى اليوم بضمّ الهمزة (أُو) Utique. ويؤكد جملة من الباحثين أن اسمها مرادف للعتاقة والقدم "قرية عتيقة" مثلما أشار صمويل بوخارت الذي يكتبها 'Atica' 'عתיקא'، وأنها أثّرت في تسمية قرطاجة لاحقا باعتبار أن "قرت حدشت" تفيد "قرية حديثة".
> وقد أثرتُ (في هذا البحث الذي كتبته منذ عام 2019) على أنّ هذا الرأي يواجه نقداً لاذعاً، فكيف يعقل أن يسمى أول تجمع سكني (قديماً أو عتيقاً) وهو في الأصل أحدث إنشاء أوجده الفينيقيون في هذه السواحل، وأن هذا المعنى المرادف للقِدم هو مجرد أوهام. ولعلّ العلامة ابن خلدون الذي دعاها باسم "وطاقة" عبّر عن الاسم المحلّي الذي يتحدث به سكان البلاد الأصليين في إشارة إلى سهولة الرسو على تلك الأرض قديماً خاصة وأن الشريط الساحلي الذي يكون بعدها شديد الوعورة ويتميّز برياحه العنيفة وشواطئه الصخريّة، وهذا يعني أن تلك اليابسة يمكن وطؤها أو تطيق السفن الرسوّ فيها بسهولة، أو أن يكون الاسم مستمدّا من شكل الميناء القديم الذي وقع تشييده لأنّ (الطَّاقُ : ما عُطف وجُعل كالقوس من الأبنية ) أو لشكل الساحل الذي يحمي هذا الميناء انطلاقاً من رأس سيدي على المكيّ في غار الملح.
>
وقد أكدتُ على الرّغم من غموض معنى هذا الاسم، أنّه يجب أن يكون مستندا إلى قيمة هذه المحطة البحرية في رحلة طويلة تمتد من شرق المتوسط إلى غربه وباعتبارها المكان الأنسب للرسوّ بأمان في منتصف الرحلة والتزوّد بالمؤونة واصلاح أعطاب السفن المسافرة ولا يمكن أن يكون مرادفاً للقِدم (عتيقة) ولكنه يعني بالتأكيد (الجميلة)، وربّما (عاتكة) بمفهوم الجمال والصفاء حيث يفيد (العَاتِكُ) معنى : الكريم و الخالِصُ من الألوانِ والأشياء وأَحْمَرُ عاتِكٌ : شديدُ الحُمْرَةِ.
أمّا أوتيك في عصرنا فهي معتمدية، يبلغ عدد سكانها 19.922 ساكنا حسب إحصائية سنة 2014 وتضم عديد القرى: أوتيك، أوتيك الجديدة، البسباسية، الحويض، المبطوح، عين غلال، سيدي عثمان، باش حانبة.
وهي تنتمي إلى الغطاء المناخي الرطب ودون الرّطب حيث تشهد معدلاً سنوياً لتساقط الأمطار: في حدود 446 مم مقابل معدّل جهوي بكامل ولاية بنزرت يقدّر بـ: 608مم. وتمسح أراضيها: 37.613 هك بما يمثل عشر المساحة الجملية لولاية بنزرت وتحدّها شمالا غار الملح والعالية وغربا منزل بورقيبة وماطر وجنوبا ولاية أريانة.
أ) تأسيس أوتيك:
يرى البعض أن سبب إنشاء أوتيك يعود إلى مشاكل داخلية منها زيادة عدد سكان صور (في لبنان) وخاصة الشباب الباحث عن العمل والثروة، وصراع بين الطبقة الارستقراطية الحاكمة التي تريد المحافظة على مصالحها التجارية في البحر الأبيض المتوسط أمام تنامي القوى المجاورة على صعيد الملاحة والتجارة.
وهذا مادفع بالصوريين إلى تأسيس مصارف قارة في البلدان التي يمرون بها وينتهجون سياسة حكيمة عند انشائها بتحسين العلاقات مع الجيران، وهو ما أثمر إنشاء العديد من المستوطنات منها أوتيك وهي من أقدم المصارف التي أقامها الفينيقيون في بلاد المغرب، وقد مثلت محطة يرتكز عليها الأسطول الفينيقي للتزود بالماء والمؤونة لتمكين البحارة من الراحة وترميم السفن قبل مواصلة الرحلة، ومن المصارف الأخرى التي أسسها الفينيقيون بالقطر التونسي نجد هيبون ( بنزرت ) وهدرتيم (سوسة) وهو اسم فينيقي الأصل حوّله الرومان الى هدروميتوم بإضافة اللاحق اللاتيني "توم" على الجذر السامي.
وتتحدّث المصادر أن الفينيقيين كانوا قد وضعوا أيديهم على أفضل الأماكن في شبه جزيرة أيبيريا وفي ليبيا قبل عصر هوميروس.
ويتفق المؤرخون أن تأسيس أوتيك قد سبق قرطاجة بحوالي 287، سنة حيث تذكر المصادر أنها تأسست بعد تسع سنوات من مدينة قادس في سنة 1110. ق م وهو ما يعطينا تاريخ سنة 1101 م.ق .
في بداية تأسيسها يرى الدارسون أنها كانت قليلة السكان، كما أنها كانت عبارة عن مكان مؤقت خلال الثلاث أو الأربع قرون الأولى لأنّ المستوطنين من الفينيقيين كانوا يعودون إلى وطنهم الأم قبل موتهم. وفي القرن الثامن قبل الميلاد مع ظهور مقابر أوتيك أصبحت مدينة ( مستوطنة) ذات كيان سياسي واقتصادي واجتماعي، ومع ازدياد عدد التجار المهاجرين الذين استقروا بها أصبحت هذه المحطة مستوطنة إسكان وفسر البعض أن هدف الفينيقيين من وراء الاستيطان في أوتيك يعود إلى تأمين حاجياتهم من القمح الذي تنتجه سهول الشمال في تونس.
لم تعرف على وجه التحديد نوعيّة العلاقة بين صور (موطن الفينيقيين) وأوتيك، حيث لا تتوفّر معطيات تسمح بالتّحدث عن مراقبة سياسية أو اقتصادية لصور على أوتيكا، ونفس الشيء ينطبق على العلاقات بين قرطاج وأوتيك، والشيء الوحيد المؤكد أنه في فترة تأسيس قرطاج أرسل بعض أعيان أوتيك مبعوثيهم بكثير من الهدايا إلى قرطاج لاستقبال الوافدين .
تطوّر عدد المستقرين من التجار الفينيقيين في منطقة أوتيك بعد اشتهار مينائها الذي يحتل موقعا متميّزا في وسط الطريق بين فينيقيا نحو الجزيرة الايبيرية (اسبانيا) وخاصة قادس الغنية بالمعادن، كان ذلك قبيل بروز قرطاجة التي أخذت المكانة الكاملة في شمال افريقيا بعد تأسيسها.
ومع ازدهار قرطاج كانت أوتيك مدينة مستقلة سيدة على أراضيها، ولكن في القرن الخامس قبل الميلاد تلقت قرطاجة هزيمة كبيرة في معركة " هيميرا" مع الاغريق في صيقلية فتوجّهت نحو التوسع في المناطق الداخلية بافريقيا.
كانت أوتيك أيضا تتوسط الطريق بين قرطاجة ومدينتي هيبو أكرا (بنزرت) وهيبو ريجيوس (عنابة) وهما مدينتان هامتين في التجارة مما جعلها تزدهر بشكل كبير. وكان ذلك الازدهار سببا لغيرة أعيان قرطاجة الذين أخضعوها لحكمهم وكان ذلك أحد الأسباب التي جعلت سكان أوتيك يترصدون الفرصة المناسبة للتخلص منهم.
وقد ورد ذكر مدينة أوتيك في معاهدة 348 ق.م التجارية بين روما وقرطاجة حيث منعت قرطاجة الرومان من المتاجرة مع الموانئ الفينيقية في الشمال الافريقي وبذلك أصبحت صادرات وواردات تلك الموانئ والحوطات احتكارا لها مع التأكيد أنّ أوتيك تتمتع بحرية محدودة جدا.
على إثر المعاهدة الثانية بين قرطاج وروما تبرز اوتيك كحليف، حيث يتحدّث فيليبيوس عن تشكل صداقات هناك حسب الشروط الموالية بين الرومان وحلفائهم والقرطاجيين ثم الصوريين والأوتيكيين وحلفائهم الموالين لهم.
خلال الحرب البونية الأولى بقيت اوتيك على حلفها مع قرطاج .
في الحرب البونية الثانية نزل الرومان بأوتيك أربعة مرات ، وعلى إثر الإنزال الأخير الذي تم بين 204 و203. ق.م حاول(كورنيليوس سبيون (Scipion Corneliusمحاصرة المدينة والسيطرة عليها، إلا أن هجماته باءت بالفشل.
قبل اندلاع الحرب البونية الثالثة، كانت أوتيك من بين المدن الستة التي تحالفت مع روما، حيث أرست القوات الرومانية في المدينة سنة 149 ق.م ، وفي نهاية الحرب سنة 146. ق م وعلى إثر هدم قرطاج أصبحت أوتيكا المركز الإداري والسياسي لإفريقيا الرومانية كرد للجميل من قبل الرومان، ونالت بذلك حق حرية الملاحة مثل باقي المحطات الأخرى التي كان لها موقف إيجابي مع روما.
Fig. 1: évocation du paysage et du port d’Utique en 46 BC selon Daux (1869)
أوتيك وما جاورها في 46 قبل الميلاد وفقا للوحة صممها داو (سنة1869)
قمنا بتحسين الصورة لتبرز أوتيك على حقيقتها
الكاتب حاتم سعيد