08/11/2025
من العدد 169 لمجلة "العمامة"؛ فريضة حفظ الإخوان: قراءة اجتماعيّة، سياسيّة وعلميّة في مرآة الواقع
بقلم د. عنان وهبه – دالية الكرمل؛ شادي حلبي – باحث في قسم العلوم السياسية جامعة حيفا – بيت جن
حين تنبع القوّة من الفطرة
يتطلّب بعض المجهود أن تشرح فريضة حفظ الإخوان لمَن لم يعشها. فهي شعورٌ متجذِّر، وسلوك فطريّ ينشأ في البيوت التّوحيديّة ويتناقل عبر الأجيال.
حين يصدح صدى العمامة من أعالي الجبال: “نخيناكم يا أهل النّخوة، يا غيرة الدّين!،” يصل نداؤها إلى الجبال الأخرى. لا حاجة لشرح، بل يكفي النّداء ليُستجاب، ويكفي الصّوت ليُفهم. لا خريطة تُفْتح، ولا هويّة تُراجع، بل يُستدعى شعور صادق، حقّ وعميق.
ليست فريضة حفظ الإخوان شعارًا، بل ممارسة حيّة تنبض في الموقف والسّلوك اليوميّ، فكم بالحريّ في الأوقات الصّعبة. إنّها نداء من أعماق الدّاخل الحسّيّ، يدفع الإنسان لترك راحته، عمله، وربّما مخاطرة بحياته، لا ليُقال عنه شيء، بل لأنّه لا يتخيّل نفسه في غير هذا الموضع. لأنّه يرى في تلبية النّداء واجبًا لا يُؤجّل، وانتماءً لا يُشترط.
فريضة بديهيّة… وفكر عالميّ
هذه الفريضة، الّتي يعيشها أبناء الطّائفة التّوحيديّة كجزء من هويّتهم الأخلاقيّة والدّينيّة، هي في جوهرها مفهوم إنسانيّ عميق، تمّ التّطرّق له بأشكال مختلفة وربما للأجزاء منها، من قِبل كبار المفكّرين الاجتماعيين، السّياسيّين والفلاسفة.
تناولها ابن خلدون، المتأثِّر بفلسفة أرسطو، في كتاب ديوان العبر، حين تحدّث عن نشوء الدّول والحضارات، مشددًّا على أن استمرار المجتمع لا يُبنى فقط بالقوّة، بل على تماسكه الدّاخليّ وروح العمران. فليس المقصود هنا العصبيّة بمعناها الضّيّق، بل تلك الوحدة الأخلاقيّة الّتي تجعل الفرد يرى نفسه جزءًا من كلّ أكبر، ويشعر أن مسؤوليّته نحو إخوانه ليست فضلاً، بل أصلًا.
كارل ماركس، في كتاب البيان، تناول مرض البرجوازيّة والبروليتاريا، الانقسام المجتمعيّ لكنّه ختم بيانه بدعوة إلى الوحدة، إلى تجاوز الفروقات الطبقيّة من خلال وعي مشترك وجماعيّ.
أنطونيو غرامشي أشار إلى عواقب غياب العدالة الفكريّة والإنصاف، مؤكِّدًا أنّ التّفكُّك الجماعيّ والثّقافيّ هو أوّل ما يضُعف المجتمع، بينما التّماسك الأخلاقيّ هو من يحميه.
أمّا فرنسيس فوكوياما، واستنادًا على فلسفة الحكيم أفلاطون، شرح مفهوم “التّيموس” أىّ الرّوح الّتي تكمن فيها قِيم المجتمع، فقدّم مفهوم رأس المال الاجتماعيّ، مُعتبرًا أنّ الثّقة، والاحترام المتبادَل، وروح التّعاون، هي أساس المجتمعات السّليمة الّتي تبني مستقبلها على الاستقرار والتّكافل.
أولئك غيض من فيض من العلماء، بحثوا وتحدّثوا عن أفكار، نعيشها نحن واقعًا: حفظ الإخوان، صائنة البناء من الدّاخل
الميدان يشهد: حين تتجاوز الرّوح الحدود
في صيف 2025، تعرّضت طائفة التّوحيد في سوريا إلى هجوم عسكريّ بنيَّة واضحة لإبادة الطّائفة في سوريا وانتهاكات بربريّة لا إنسانيّة. عبَّرت فريضة حفظ الإخوان عن نفسها بصورة صادقة، راقية، ومؤثِّرة. لم يكن هناك تنظيم مُسبق، ولا دعوات شعبويّة، بل كانت استجابة وجدانيّة تلقائيّة من أبناء الطّائفة، تفاعلت مع ما شعروا أنّه نداء صادق يستحقّ التّلبيّة.
ما جرى على الحدود لم يكن استثناءً، بل استمرارًا طبيعيًّا لفريضة يُمارسها أهل التّوحيد بنيّة واضحة، وقلوب حاضرة. لا أحد حمل معه خريطة، ولا أحد راجع موقعه، لأنّ المواقع هنا أخلاقيّة قبل أن تكون جغرافيّة. عبور الحدود لم يكن عُبورًا فيزيائيًّا فقط، بل دليلاً على أنّ الشّعور الجماعيّ لا تحدّه خطوط ولا تصنعه المسافات. المساس برموز الحضارة على أيد غاشمه ظالمة الّتي تعمّدت تعدّي الخطوط الحمراء قوبل بجواب واضح لا يقبل التّأوّل لتتناوله الصّحافة المحليّة والعالميّة بالخطوط والعناوين الرّئيسيّة.
الدّولة والفريضة: انسجام لا تعارض
أجمل ما يُميّز هذه الفريضة، أنّها لا تُمارس على حساب أحد، ولا تأتي في وجه الدّولة الأمّ الرّاعية، بل في انسجام مسؤول مع الانتماء الوطنيّ. الطّائفة التّوحيديّة، منذ نشأتها في هذه البلاد، عرفت كيف توفّق بين وطنها، والوفاء لفريضتها، بتناغم دون أن يُلغي أحدهما الآخر.
لقد تعاملت القيادة الرّوحيّة والمجالس المحلّيّة والأهالي مع الموقف بروح منضبطة، تسعى لفهم الواقع، وتقُدّر السّيادة، وتُعبِّر عن مواقفها بصوت الحكمة. وما لفت النّظر، أنّ الدّولة تجاوبت مع هذا المشهد بتقدير واضح، لأنّها رأت فيه الصّدق وقيمة أخلاقيّة تُعبِّر عن مجتمع متماسك، لا بنظرة متوتّرة، بل القٍيم الإنسانيّة المشتركة.
سلطان الأطرش: من وصيته إلى حاضرنا
وهذا كلّه ليس بجديد. من يمعن ويتثقّف بوصية القائد الوطنيّ الكبير سلطان باشا الأطرش، يرى كيف انطلقت الطّائفة من احتمالات ضئيلة جدًا للنّجاح، يعرف أن الالتزام الحقيقيّ يجعل المستحيل واقعًا.
لقد تغيّر الزّمن، نعم. وتبدّلت الظّروف. لكنّ المحور بقي ثابتًا: الصّدق، التّضامن، والإخلاص لفريضة لا تتغيّر، حتّى وإن تغيَّر شكلها الخارجيّ.
القيادة لا تغيب: الواجب لا يؤجَّل
أحد أبرز وجوه هذا الالتزام، ما نراه في سماحة الشّيخ موفق طريف، الّذي لا يتوقف عن العمل، لا في الدّاخل ولا في الخارج، من أجل خدمة أهله. تحرّكاته، لقاءاته، وجولاته في أوروبا وروسيا والولايات المتحدّة، ليست تحرّكات إعلاميّة، بل تعبير ناضج عن مسؤوليّة يعرفها، ولا ينتظر التّكليف لأدائها.
وحين يقول: “أنا أقوم بخدمة أهلي”، تختصر هذه الجملة جوهرًا كبيرًا، وتنطق بلغة لا تحتاج إلى شرح.
جيل اليوم… استمرار لا انقطاع
كثيرًا ما يُقال إنّ الجيل الجديد منفصل عن تاريخه، أقلّ اكتراثًا بالشّأن العامّ، أكثر انشغالًا بالذّات. لكنّ البحث الّذي أُجريَ حديثًا بين أبناء الطّائفة، من مختلف الأعمار والخلفيّات، أظهر غير ذلك، ونُشر على منصّات علميّة محلّيّة وعالميّة.
لقد بيّنت النّتائج أن الفريضة لا تزال حاضرة في الوعي، وأنّ المواقف الجماعيّة، وخصوصًا في أوقات الاستحقاق، تُوحِّد الجميع: الكبير والصّغير، المتديّن وغير المتديّن، الرّجل والمرأة. فريضة لا تُميّز، بل تجمع على أساس القِيم واللّغة المشتركة.
خصوصيّة لا أفضليّة
في ختام الحديث، من المهمّ أن نُكرّر: ليس الهدف من المقال القول إنّ الطّائفة التّوحيديّة أفضل من غيرها، بل أنّ لكلّ جماعة روابطها، وهويّتها، ومساراتها. فمن البديهيّ إجماع أخلاقيّ لكلّ بيئة سليمة، فإنْ بطلت لفسد الوجود. مع ذلك، الطّائفة التّوحيديّة خُصّت منذ بداية الدّعوة بفريضة جعلت من صدق العلاقة شرطًا للانتماء، ومن حفظ الإخوان شرطًا للصّدق، فوجب التّسديق ليكمل الحفظ والعكس صحيح. ولهذا، ما يبدو للآخرين لربما سلوكًا غير مفهوم، هو عند أبناء التّوحيد أمر فطريّ لا يُسأل عنه، بل يُعاش.
الخاتمة: حين يصبح الواجب هو الهويّة
فريضة حفظ الإخوان ليست قيمة فقط، بل أسلوب حياة. لا تُنظّر، بل تُمارَس. لا يُطلب مقابلها، بل يُطلب منها الثّبات.
إنّ ما نعيشه من تجلّيات هذه الفريضة في الميدان، في البيوت، في القيادة، في الكلمة الطّيّبة، وفي الحضور وقت الحاجة، ليس إلّا دليلًا على أنّ الواجب حين يكون نابعًا من القلب، يصبح هو الهويّة ذاتها. “هذه أختي وهذا أخي… ولن أتركهم، ما دمت أتنفّس.”.
--------
جميع مقالات العدد 169 لمجلة العمامة في موقع المجلة في التعليق الاول.