
23/04/2025
الرسالة التي لم تُفتح أبدًا... (الجزء الثاني)
العودة إلى البيت القديم
حين خرج ذياد من المطار، لم يحمل سوى حقيبته القديمة والظرف ذاته في جيبه. الهواء البارد لعمّان بدا له مألوفًا على نحو مؤلم.
ثماني سنوات منذ أن وطئت قدماه هذه المدينة، وثماني سنوات منذ أن نظر في عيني والده لآخر مرة... وكانتا غاضبتين.
استقل سيارة أجرة دون أن يخبر السائق وجهته بدقة. قال له فقط:
"خذني إلى جبل الويبدة... قريب من شارع الرينبو."
في الحقيقة، لم يكن يريد الوصول بسرعة. أراد أن يتأمل المدينة، كما يتأمل رجلٌ خسر ذاكرته ويحاول استعادتها.
كان المنزل ما يزال كما تركه، لكنه بدا أصغر.
الحديقة اليابسة، الباب الحديدي، النافذة التي كان يتسلل منها في صغره... كل شيء في مكانه، ما عدا والده.
فتح الباب الاحتياطي بمفتاح قديم احتفظ به طوال تلك السنوات، لا لشيء، إلا لأنه لم يستطع رميه.
وحين دخل، اندهش أن المنزل ما يزال مرتبًا، كأن أحدًا يعيش فيه.
على الطاولة الخشبية الصغيرة في الزاوية، وجد دفترًا صغيرًا، وفوقه وُضعت صورة قديمة له مع والده وهما يضحكان في أول رحلة سفر لهما.
لم يفتح الدفتر.
جلس في المقعد الجلدي ذاته الذي كان يجلس فيه والده كل مساء، وفتح سترته، وأخرج الظرف.
مرّت دقائق وهو ينظر إليه دون أن يتحرك.
ثم، ولأول مرة منذ ثماني سنوات... فتحه.
الرسالة:
*"يا ذياد،
أكتب لك من مكان لا أعرف إن كنت سأراك فيه مجددًا.
ربما تقرأ هذه الكلمات بعد أن أكون قد رحلت.
اعذرني لأنني لم أكن أبًا كاملًا. كنتُ قاسيًا أحيانًا، صامتًا كثيرًا، وغائبًا حتى وأنا حاضر.
لكن ما لم تعرفه، أنني كنتُ دائمًا أراقبك من بعيد.
حين تركت البيت، كنتُ مكسورًا... لكن كبريائي لم يسمح لي أن أركض خلفك.
كل يوم كنت أضع صورة لك على مكتبي، وأتخيل أنك ستعود، حتى لو فقط لتأخذ قهوتك وتغادر.
كتبت لك هذه الرسالة بعد أن علمت من الطبيب أن وقتي قد يكون قصيرًا.
طلبت من عمّك أن يسلمك إياها حين تطير وحدك لأول مرة.
لأن الطيران وحده، هو اختبار الرجولة، والحرية، والمواجهة...
وأردت أن تكون مستعدًا حين تقرأها.
أنا آسف يا بني.
آسف لأنني لم أقل لك أنني أحبك كثيرًا... وأني فخور بك، حتى وأنت تعارضني وتغادر.
إن استطعت، سامحني.
وإن لم تستطع... فاقرأ هذه الرسالة ثانية، حين تكبر بما يكفي لفهم ضعفي."*
والدك.
حين أنهى ذياد القراءة، كان كل شيء ساكنًا.
حتى الهواء لم يعد يتحرك.
الدموع لم تسقط، لكنها كانت هناك، تملأ قلبه دون أن تنسكب من عينيه.
أغلق الرسالة ببطء، ووضعها داخل أحد كتب والده المفضلة في المكتبة القديمة.
ثم وقف، وفتح النافذة.
نسمات الليل دخلت ومعها رائحة البيت الذي تركه يومًا وهو يظن أنه لن يعود.
لكن العودة، كما أدرك الآن، لم تكن إلى البيت فقط... بل إلى قلب لم يغلق بابه أبدًا.
بعد ثلاثة أيام...
قرر ذياد البقاء في عمّان لبعض الوقت.
زار قبر والده، ووضع على ضريحه وردة بيضاء، وقرأ له الفاتحة بصوت مكسور.
وحين همّ بالمغادرة، همس بهدوء:
"أنا سامحتك... وأرجو تسامحني."
في تلك الليلة، حلم حلمًا غريبًا... رأى فيه والده يجلس بجانب مقعد 7A في طائرة، يبتسم له ويقول:
"السماء ما بتبعدنا... هي اللي جمعتنا من جديد."
استيقظ مذعورًا، لكن بقلب أخف.
الختام
أصبح ذياد يعود كل سنة إلى نفس المقعد على الرحلة ذاتها، يحمل معه رسالة صغيرة جديدة، يكتبها لنفسه، ويحتفظ بها في الظرف ذاته.
لكن هذه المرة... لم يكن الظرف مغلقًا.
لقد تعلّم أن بعض الرسائل لا تُفتح لتُقرأ... بل لتُغفر.