The Real Knowledge

The Real Knowledge أصل الحكاية

20/08/2025

أصل الحكاية

الحلقة الثالثة

من هو الله؟

حين نتأمل في أبسط مظاهر حياتنا ندرك أنّ كل شيء يقوم على أساس.
البناء الذي نسكن فيه قد يبدو متماسكا بجدرانه وسقفه، لكن حقيقته قائمة على ما لا نراه: القاعدة العميقة المغروسة في الأرض. لو زال هذا الأساس لانهار كل ما فوقه مهما بدا شامخا.
وهذا المنطق نفسه يتكرر في الطبيعة: الجنين لا يتكوّن إلا داخل رحم، والرحم هو الحاضن الأساس، هو البيئة التي تؤمّن مقوّمات النمو. فإذا غاب هذا الرحم لم يعد للحياة أن تبدأ أصلا. ما نراه من مولود حيّ ليس إلا النتيجة النهائية لأساس خفيّ سبقه.

وهذا المعنى يتجلّى أوضح ما يكون في الفيزياء الحديثة. فالمادة التي تبدو لنا صلبة وواقفة بذاتها ليست في حقيقتها كذلك؛ الإلكترون، الفوتون، الكوارك… كلّها ليست أجساما مكتفية بنفسها، بل هي اهتزازات في حقول غير مرئية تملأ الكون كلّه. هذه الحقول هي الأساس الذي يمنح الجسيمات وجودها، ويعطيها خصائصها.
ولعلّ أبرز دليل علمي حديث على ذلك كان في عام 2012، حين اكتُشف "بوزون هيغز" في مصادم الهادرونات الكبير، وهو الجسيم الذي يبرهن أنّ الجسيمات لا تملك كتلتها من ذاتها، بل تكتسبها من تفاعلها مع حقل غير منظور يغمر الفراغ. بعبارة أخرى: ما نراه "شيئا" إنما يقوم على أساس باطن غير مرئي.

القرآن قدّم صوراً عميقة لفكرة الأساس:

﴿أَفَمَن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى… أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ → البنيان لا يقوم إلا على أساس، وإذا كان الأساس هشًّا انهار البناء كلّه.

صورة بليغة من القرآن: بناءٌ مشيّد على تقوى، وبناءٌ آخر مشيّد على جرفٍ هارٍ ينهار بصاحبه.
ليست القضية هنا مجرّد أحجارٍ أو جدران، بل قاعدة كونية: كل شيء يحتاج إلى أساس.
فإن كان الأساس صلبا، قام البنيان واشتدّ. وإن كان الأساس هشّا، فلا بدّ أن يسقط مهما بدا شامخا.

هذا المبدأ البسيط ينطبق على كل شيء:
البيت يقوم على أساسه، الجبل على جذوره، الجنين في رحم يحتضنه.
لكن ماذا عن الكون نفسه؟ أليس له أساس؟
هل كل هذه المجرات، وكل هذه القوانين، قائمة في الهواء بلا قاعدة؟ أم أن وراءها أساسا خفيا هو الذي يمنحها الثبات ويمنعها من الانهيار؟

العلم اليوم يكشف أن ما نراه من مادة ليست أصلا في ذاتها بل لا بدّ أن تقوم على شيء أعمق… على أساس مطلق.
والقرآن يلمّح إلى ذلك حين يقول: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾،

الأساس إذن ليس فكرة شعرية ولا وهما صوفيا، بل هو قانون الوجود نفسه.
بدونه لا بناء، ولا حياة، ولا معنى.
وإذا كان لكل شيء في حياتنا أساسا يحملُه، فمن باب أولى أن يكون للكون كلّه أساس أعظم، هو الله: الحقّ، النور، الخفي الذي يقوم عليه كل شيء.

إذاً ما هو هذا الأساس؟

القرآن يعطينا الجواب بلغة مدهشة: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. النور هنا ليس ضوءًا مادّيًا، بل هو الأساس الذي به يظهر كل شيء، الحقل الخفي الذي تستمدّ منه السماوات والأرض وجودها وقوانينها وطاقة استمرارها.

1. الجذر اللغوي (ن و ر)

الجذر "ن و ر" في العربية يدلّ على: الضياء والظهور والهداية.

من معانيه:

النور = ضدّ الظلمة.

النوار = الزهرة المتفتّحة (فيها معنى الظهور والحياة).

الإنارة = الكشف والإظهار.

في لسان العرب: النور ما يُبصر به، والضياء ما يكون في ذات الشيء.

إذن "نور" ليس مجرد ضوء مادي، بل هو كل ما يجعل الأشياء ظاهرة، مفهومة، مبصَرة.

2. تحليل الحروف

النون (ن):

حرف البداية والانبعاث.

في المخارج: يخرج من طرف اللسان مع الغنّة → فيه خفاء داخلي (الباطن).

رمز للاحتضان: نون والقلم وما يسطرون، "نون" في بعض التفاسير = الحوت الذي يحمل الأرض.

دلاليا: النون = الاحتواء (الرحم، البذرة، الأساس).

الواو (و):

حرف الربط والوصل.

في الصوت: دائري، يرمز إلى الامتداد والاستمرار والدوران.

الواو هو العروة التي تصل بين طرفين: الواسطة.

دلاليا: الواو = الوصلة بين الباطن والظاهر.

الراء (ر):

حرف الحركة والاهتزاز (الرّاء فيها تكرير وارتجاف).

يرمز إلى الامتداد في الفعل والانتشار.

في المعنى: الراء = الحركة المعلنة (الظهور بعد الباطن).

3. المعنى المركّب (نور = ن + و + ر)

النون (الأساس/الباطن/الاحتواء).

الواو (الوصل/الوساطة/الاستمرار).

الراء (الاهتزاز/الحركة/الانتشار).

الناتج: نور = من الأساس الباطن (ن) يخرج وصْلٌ ممتدّ (و) يُنتج حركةً وظهورا (ر).

4. المطابقة مع الفكرة العلمية والقرآنية

النون = الأساس (الحقل الخفي).

الواو = العلاقة/القانون الذي يربط.

الراء = الاهتزاز/الظهور/المادة المرئية.

إذن كلمة "نور" بذاتها تحكي قصتنا: أساس باطن → وصلة وقانون → ظهور واهتزاز.
الله "نور" = الله الأساس الذي يربط كل شيء ويُظهره بالاهتزاز والطاقة.

﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]
﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: 10].

لاحظ هنا:

الاهتزاز: بداية الحياة، حركة خفية في التربة بعد نزول الماء.

الربوّ/الارتفاع: نتيجة الاهتزاز، يبدأ النمو.

الإثمار/الإنبات: ظهور الحياة للعيان.

هذه صورة قرآنية مطابقة للفيزياء الكمية:

الوجود كله قائم على اهتزاز الحقول الأساسية.

الاهتزاز = الطاقة الديناميكية.

الربوّ/الثبات = القانون الذي ينظّم الاهتزاز (الحقّ).

الإنبات = تجلّي المادة والحياة.

ربط الآيات بالمفاهيم:

الله نور → أي أنّ الله هو الاهتزاز الأول، الحقل الطاقي الذي يبعث الحركة في الساكن.

الله حق → أي أنّ هذا الحقل الطاقي ليس فوضويا، بل ثابت، منتظم، لا يتغير: الحق الذي لا يتبدل.

إذن: الله = الحقل الاهتزازي الثابت، يجمع بين الحركة (النور/الاهتزاز) والثبات (الحق/القانون).

حين يصف القرآنُ اللهَ بأنه نور السماوات والأرض، فهو لا يحدِّثنا عن ضوءٍ مادّي تلتقطه العين، بل عن أصلِ الظهورِ كلِّه: عن المشكاة التي بها تُرى الأشياء وتستقيم القوانين. في لغة الوجود: ما يظهر لا يقوم إلا على أساسٍ باطن؛ إن سُحب الأساس انهدّ البناء، وإن بقي استقام ما فوقه. هذا هو معنى النور هنا: الأساس الذي يُقيم ويُمسك.

2) الآيات التي ترسم مفهوم “الأساس/الإمساك/الإظهار”

النور/الظهور:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35] — النور هنا أصل الظهور، به تتجلّى الموجودات ولا تُدرك ذاته بالحس.

الأوّلية والباطنية (الأساس):
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد: 3] — “الأوّل/الباطن” هو الأساس الذي يحمل “الظاهر”.
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103] — الأساس لا تُدركه الأداة الأدنى.

الإمساك/التثبيت (وظيفة الأساس):
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [فاطر: 41] — الإمساك هو وظيفة الأساس.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: 25] — قيام المنظومة بأمرٍ مُمسِك.
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ … وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] — القيّومية: دوام الإمساك والحفظ.

البناء والاتّساع (وجود البنيان فوق الأساس):
﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47] — لفظ “البناء” يقتضي قاعدة.
﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [النازعات: 27–28] — رفع/تسوية: هندسة على أساس.
﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: 2] — “غير عمد ترونها”: أعمدة غير منظورة = أساس باطن.

التقدير والقانون (معمار القوانين):
﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2] — قانون مُقدَّر سابق.
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49] — انتظام معياري (ثوابت/مقادير).
﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصّلت: 12] — “أمر” السماء = قانونها الداخلي.
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82] — نفاذ الأمر = فاعلية الأساس.

الوِحدة الضامنة لانتظام القانون:
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] — توحيد المصدر شرط ثبات النظام.

الحفظ الدائم/الجريان المنتظم:
﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40] — حركة مضبوطة تشير لثبات مُمسِك.
﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29] — دوام الفعل/الإمداد.

خلاصة قرآنية: “النور، الباطن، الإمساك، البناء، التقدير” خمس مفاتيح تصف أساسا خفيا ممسِكا يقوم عليه البنيان الظاهر.

3) المقاربة العلمية: من “النور الوجودي” إلى “الحقل الأساس”

الفكرة العلمية المجرَّبة: ما نسمّيه “جسيمات” (إلكترون، فوتون، كوارك…) ليس لبناتٍ صلبة مستقلّة، بل اهتزازات في حقول أساسية تملأ الكون (نظرية الحقول الكمية – QFT). المادةُ ظهورٌ، والحقولُ أساس.

حقول تملأ الوجود: كل نوعٍ من الجسيمات يظهر كـ اهتزاز في حقله الخاص:
– الإلكترون ← اهتزاز في الحقل الإلكتروني.
– الفوتون (الضوء) ← اهتزاز في الحقل الكهرومغناطيسي.
– الكواركات/الغلوونات ← اهتزازات في حقول الشدّة النووية.

دليل تجريبي حاسم – حقل هيغز: عام 2012 رُصِد بوزون هيغز في مصادم الهادرونات الكبير (ATLAS/CMS). وجوده يثبت أن ثَمَّ حقلا غير مرئيّ ذا “قيمة توقعية في الفراغ” يمنح كثيرا من الجسيمات كتلتها. أي: خصائص المادة ليست “من ذاتها”، بل من تفاعلها مع الحقل الأساس (آلية الكَسْر التلقائي للتناظر).

دقّة تنبؤ تقطع بالأساس الحَقلي:
– الكهروديناميكا الكمية (QED) تُطابق القياس بدقة مذهلة (العزم المغناطيسي الشاذ للإلكترون، وانزياح لامب)، ما يؤكد أن وصف “المادة ← اهتزاز حقلي” ليس تشبيها، بل واقعا مُقاسا.
– تأثير كازيمير وتذبذبات الفراغ يبرهنان أن “الفراغ” ليس خلوّا، بل مستودع طاقة وقوانين.

حقل الجاذبية/النسيج الحامل: في النسبيّة العامّة، الجاذبية ليست قوّة دافعة تقليدية بقدر ما هي هندسة نسيج الزمكان (مجال متريّ يحدّد حركة المادة). رَصْد موجات الجاذبية (LIGO, 2015) وصورة الثقب الأسود (EHT, 2019) يبرهنان أن النسيج الحامل نفسه ديناميّ ويعمل كأساس موجّه لمسارات كل شيء.

الكون البنّاء المتّسع: تمدّد الكون (قياسات المستعرات العظمى، وإشعاع الخلفيّة الكونية، ورصدات متعدّدة) يوافق ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ من حيث ظاهرة الاتّساع؛ أمّا تفسيره الفيزيائي فبقانون ثابت هابل/الطاقة المظلمة—وهو بعض ما يشي بأن “المشهد الظاهر” يستند إلى مستوى أعمق من المعادلات.

التأطير الفلسفي العلمي:
إذا كانت الجسيماتُ ظهوراتٍ فوق الحقول، وكانت القوانينُ الحاكمة مُضمَّنةً في صلب هذه الحقول، فالذي “يُمسك” انتظام ذلك كلّه ويمنحه المقادير هو، في الاصطلاح الفلسفي، “الحقل الأساس”.
هنا نقارب المعنى القرآني: النور الباطن الممسِك الذي به يقوم البنيان، لا يُدرك بالحسّ الأدنى (﴿لا تُدْرِكُهُ الأبصار﴾) لكن تُدركه الآثار والقوانين.

4) المطابقة الدلالية (من غير خلطٍ ولا ابتذال)

النور القرآني ≠ فوتونات، بل أصل الإظهار. وفي العلم، “الإظهار” الدقيق للمادة والقوى يكون عبر حقولٍ تحمل الخصائص وتمنحها.

الإمساك القرآني = وظيفة الأساس، وفي العلم يوازيها ثبات الحقول والقوانين التي لو اختلّت انهار النظام.

البناء القرآني = بنية مرصوصة على قاعدة، وفي العلم: الجسيمات، الذرّات، المادّة الحيّة… طبقات ظهور فوق حقولٍ وقوانين أعمق.

5) الخلاصة الموحّدة

القرآن يضع القاعدة: هناك أساسٌ باطنٌ ممسِكٌ مُظهِر (نور، باطن، إمساك، بناء، تقدير).

العلم يُسعفنا بأداةٍ وصورة: الحقول الأساسية التي تملأ الكون، والمادةُ ليست إلا آثارَ اهتزازها.

وعليه، فصياغتنا لمدخل الحلقة:
الله نورُ السماوات والأرض = الأساس الوجودي الأعلى الذي به تظهر السماوات والأرض، والذي تستمدّ منه الحقولُ وقوانينُها “الطاقةَ” ومعنى القيام.
هذا ليس خلطا بين لاهوت وفيزياء، بل تقابُل دلالي: لغة الوحي تصف الحقيقة المطلقة، ولغة العلم تصف آثارها ونُظُمها في المشهد المادّي.

عندما نقول “الله = الحقل الأساس” فنحن لا نحصر الله في كيانٍ فيزيائي؛ بل نستخدم التمثيل التقريبي: كما أنّ كل ظاهر في الكون قائمٌ على حقلٍ/قانونٍ باطن، كذلك كل الوجود قائمٌ على الحقّ المطلق/النور الذي وصفه القرآن. العلم يصف الكيفية، والوحي يصف الأصالة. ولا تعارض.

يرجى مشاركة آرائكم...

ترقبوا الحلقة الرابعة بكشف أسرار.

أصل الحكاية

13/08/2025

الحلقة الثانية – أصل الحكاية

"الله في عيون العلم… حين تواجهت المعادلة مع السماء"

من النصوص إلى المختبر

في الحلقة السابقة، سرنا مع الإنسان منذ لحظة وعيه الأولى، ورأينا كيف رفع عينيه نحو السماء يسأل: من خلقني؟ من يحكم هذا الكون؟
تأمل في الرعد والبرق، خاف من الموت، ومن قسوة الطبيعة، فلجأ إلى الدين… إلى النصوص المقدسة، إلىالمعابد، إلى الصلوات، إلى كل وعدٍ بالخلاص.
لكن، هل أُجيب السؤال تماما؟
كثيرون وجدوا في الدين السكينة، لكن آخرين ظل في قلوبهم عطش… أسئلة لم تروها النصوص، أو إجابات بدت لهم رمزية، غامضة، أو غير كافية.
وحين جاء العصر الحديث، لم يعد الإنسان يقف فقط على أبواب المعابد، بل اتجه إلى أبواب العلم… فكانت المواجهة.

المشهد الجديد: حلبة العلم

العلم ليس مكانا للتراتيل، بل ساحة للأرقام، للأدلة، وللمعادلات التي لا ترحم.
هنا، وُضعت فكرة الله على طاولة الفحص… لا على المذبح، بل تحت المجهر.
وفي هذه الحلبة، انقسم العلماء إلى ثلاثة معسكرات واضحة:

من قال: "نعم، وراء هذا الكون عقل أعظم."

من قال: "لا، القوانين تكفي."

من قال: "ربما… لكننا لا نعرف بعد."

المعسكر الأول: رأوا بصمة عقل في الكون

هؤلاء لم يصلوا إلى الإيمان عبر تلاوة، بل عبر معادلات وملاحظات.

ألبرت أينشتاين، الفيزيائي الذي غيّر فهمنا للزمان والمكان، رفض فكرة الإله الشخصي، لكنه كان يردد:

"انسجام القوانين الكونية يوحي بعقل كوني منظم."
كان يرى أن هذا التناسق أشبه بكتاب رياضيات مكتوب بلغة لا تخطئ.

ماكس بلانك، الأب المؤسس لفيزياء الكم، صرّح بجرأة:

"وراء المادة، هناك قوة واعية."
كان يعتقد أن الوعي نفسه هو أساس كل وجود، وأن المراقب يؤثر في الواقع على المستوى الكمي.

إسحاق نيوتن، وإن كان من عصر سابق، إلا أنه كان يرى أن الكون آلة دقيقة صممها عقل إلهي، حتى لو لم يتدخل بعدها في تفاصيلها.

فرانسيس كولينز، قائد مشروع الجينوم البشري، بدأ حياته ملحدا، لكن دراسة تعقيد الشيفرة الوراثية غيّرت موقفه. قال:

"الـDNA هو لغة الله، مكتوبة بأربعة أحرف كيميائية."

أوين جنجرش، عالم الفلك في هارفارد، يؤكد أن الضبط الدقيق للثوابت الكونية — كتوازن القوى النووية والمغناطيسية والجاذبية — لا يمكن أن يكون محض صدفة.

المعسكر الثاني: نفوا الله باسم القوانين

في هذا الجانب من الحلبة، وقف من رأوا أن الكون لا يحتاج إلى صانع، وأن القوانين كافية لتفسير كل شيء.

ريتشارد دوكينز، عالم الأحياء التطوري، يرى أن نظرية داروين ألغت الحاجة لفكرة الإله، لأن الانتقاء الطبيعي يفسر التعقيد دون مصمم.

ستيفن هوكنغ، أسطورة الفيزياء النظرية، كتب في التصميم العظيم:

"القوانين، مثل الجاذبية، تجعل الكون قادرا على خلق نفسه من العدم."
اعتمد على النماذج الكونية التي تفسر نشأة الكون دون تدخل خارجي.

لورانس كراوس، فيزيائي فلكي، قدّم في كتابه كون من لا شيء طرحا يقول إن الفراغ الكمي ليس فراغا حقيقيا، بل حقل يمكن أن تنشأ منه الأكوان ذاتيا.

كارل ساغان، عالم الفلك والشاعر العلمي، كان يردد:

"الكون كل ما كان، وكل ما هو كائن، وكل ما سيكون."
رأى أن الاكتفاء بالكون أجمل من أي أسطورة دينية.

المعسكر الثالث: الواقفون على الحافة

هم الذين لم يعلنوا إيمانا كاملا، ولا نفوا الله تماما، بل بقوا في منطقة السؤال.

نيلز بور، أحد رواد فيزياء الكم، كان يرى أن الواقع أكثر غرابة مما نظن، لكنه لم يحسم رأيه بشأن الإله.

روجر بنروز، الرياضي والفيزيائي، لا يؤمن بإله تقليدي، لكنه يرى أن الكون والوعي متشابكان عبر قوانين أعمق من أن تكون مجرد صدفة.

كارلو روفيلي، صاحب الجاذبية الكمية الحلقية، يعلن ماديته، لكنه يعترف بأن أصل القوانين نفسها لغز لم يُحل.

أسلحة كل معسكر

المؤمنون: الضبط الدقيق، تعقيد الحياة، والنظام الرياضي الصارم.

الملحدون: الانتقاء الطبيعي، القوانين الذاتية، ونماذج النشأة من العدم الكمي.

المشككون: حدود المعرفة البشرية، وغموض أصل القوانين.

حين دخلت العلوم الأخرى المعركة

علم الأعصاب:

سام هاريس، ملحد، يرى أن الوعي نتاج الخلايا العصبية.

ماريو بيوريغارد، مؤمن، يستشهد بتجارب الاقتراب من الموت ليقول إن الوعي قد يتجاوز الدماغ.

علم الاجتماع:

دوركهايم وماكس فيبر، اعتبرا الدين ظاهرة اجتماعية لتنظيم المجتمعات.

لكن علماء آخرين يرون أنه استجابة لحاجة فطرية عميقة للمعنى.

الرياضيات والفلسفة الطبيعية:

مفاهيم مثل اللانهاية، ونظرية الأكوان المتعددة، أثارت جدلا حول ما إذا كانت تشير إلى تصميم واع أو إلى فوضى غنية بالاحتمالات.

الثورة العلمية الحديثة… حين صارت عيوننا أكبر من السماء

لم ينقسم العلماء لأن الحقائق تغيرت، بل لأن أدوات النظر تغيّرت.
في القرن التاسع عشر، كان عالم الفلك يضع عينه على تلسكوب بصري محدود المدى، وفي القرن العشرين كان عالم الفيزياء يراقب الجسيمات في غرف فقاعات ومغناطيسات هائلة الحجم.
أما اليوم… فقد صار العالم يمتلك عيونا إلكترونية ترى ما لا تراه العين، وآذانا كونية تلتقط ذبذبات المجرات، وعقولا صناعية تعالج مليارات البيانات في لحظات.

١ – من التلسكوب إلى المراصد الكونية العملاقة

اليوم، لم يعد الأمر يقتصر على مرصد أرضي.

تلسكوب جيمس ويب يلتقط ضوءا عمره أكثر من 13 مليار سنة، يكشف لحظات تشكل المجرات الأولى، مما يسمح للعلماء بقراءة "طفولة الكون".

المراصد الراديوية مثل ألما في تشيلي ترصد سحب الغاز البعيدة، حيث تولد النجوم، وتعيد رسم مشهد الخلق بلغة الموجات.

هذه الصور لم تكن متاحة قبل عقود، ولهذا كثير من أسئلة القرن الماضي أُعيد طرحها الآن بجرأة أكبر.

٢ – ميكروسكوبات تسبر أعماق الجزيئات

كما صارت أعيننا تراقب المجرات، صارت أيضا تبحر في أعماق المادة:

المجاهر الإلكترونية الحديثة ترى تفاصيل على مستوى النانومتر، لتكشف عن هندسة البروتينات، وعُقد الـDNA.

مسرعات الجسيمات، مثل مصادم الهادرونات الكبير، تتيح لنا إعادة خلق ظروف الانفجار العظيم في جزء من الثانية، والبحث عن الجسيمات التي قد تفسر أصل الكتلة والمادة نفسها.

هنا، لم يعد السؤال "هل الله موجود؟" مجرد فكرة فلسفية، بل صار مرتبطا بمسألة: هل هناك بداية فيزيائية للوجود لا تحتاج إلا لقوانينها؟ أو: هل القوانين نفسها صُممت؟

٣ – الذكاء الاصطناعي كمخبر جديد للكون

في السابق، كانت المعادلات تُكتب باليد، واليوم صارت تُحلّل عبر أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على:

فرز كمّيات هائلة من بيانات التلسكوبات في ثوانٍ.

محاكاة نشأة الكون في بيئات رقمية، ورؤية ما إذا كان يمكن أن يظهر كونٌ "مهيأ للحياة" بالصدفة.

تحليل أدمغة البشر أثناء التأمل أو التجارب الروحية، بحثا عن أنماط عصبية قد تفسر (أو تنفي) الشعور بوجود قوة عليا.

٤ – أدوات سبر الزمن نفسه

لم نعد ننظر إلى الماضي فقط عبر التاريخ أو الأساطير، بل عبر ساعات كونية:

قياسات إشعاع الخلفية الكونية تكشف لنا بقايا الضوء الأول بعد الانفجار العظيم.

التتبع الدقيق لتمدد الكون باستخدام "الشموع القياسية" (مستعرات عظمى من النوع Ia) سمح لنا بتأكيد وجود طاقة مظلمة تدفع الكون للتوسع.
هذه الطاقة المظلمة… هل هي "يد الله الخفية" كما يلمح بعض المؤمنين، أم أنها مجرد خاصية فيزيائية باردة لا تعني شيئا روحيا؟

٥ – لماذا يشتد الصراع اليوم؟

لأن هذه الأدوات جعلت كل معسكر أقوى في حجته:

المؤمنون يقولون: كلما رأينا دقة أكبر، ازداد يقيننا بوجود تصميم واعٍ.

الملحدون يقولون: كلما فسّرنا ظاهرة بالقوانين، قلّت حاجتنا إلى فرضية الإله.

المشككون يرون: كل اكتشاف يفتح أبوابا جديدة من الأسئلة، فلا أحد يملك الكلمة الأخيرة.

من الظن إلى اليقين… حين تحوّلت النظريات إلى صور وأرقام

في العقود الماضية، كان كثير من أفكار الفيزياء والفلك أشبه بـ خرائط في الضباب… مدهشة، مثيرة، لكنها غير مؤكدة.
العلماء كانوا يتحدثون عنها وكأنهم يلمحون أطيافها من بعيد، لكن لا أحد كان يملك الدليل الحاسم.
ثم جاءت العقود الأخيرة، ومعها أجهزة أقوى، وعقول أكثر جرأة… فصار الضباب ينقشع، وصارت النظريات التي كانت على الورق حقائق يمكن رصدها، وقياسها، بل وتصويرها.

١ – بوزون هيغز… "الجسيم الإلهي"

في ستينيات القرن الماضي، طرح بيتر هيغز نظرية عن جسيم يمنح الكتلة لكل ما في الكون.
لكن هذا الجسيم لم يُرَ قط، وظل يلقب بـ "الجسيم الشبح".
عام 2012، وفي أعماق مصادم الهادرونات الكبير، رُصد أخيرا "بوزون هيغز" — الجسيم الذي يؤكد أن المادة ليست مجرد فراغات عشوائية، بل هناك "حقل خفي" يغمر الكون، يمنح الأشياء وزنها ووجودها.
بعض العلماء، بدافع التشويق، سمّوه "جسيم الله"، لا لأنه يثبت الإله، بل لأنه يشرح كيف يكتسب الكون ملامحه المادية.

٢ – الثقوب السوداء… من أسطورة رياضية إلى صورة تلتقطها عدساتنا

قبل نصف قرن، كانت الثقوب السوداء مجرد حلول غريبة في معادلات أينشتاين، حتى أن بعض العلماء شككوا في وجودها الفعلي.
لكن في 2019، قدّمت مشروع تلسكوب أفق الحدث أول صورة لثقب أسود في مجرة M87، صورة تردد صداها في كل وسائل الإعلام: حلقة نار تحيط بفراغ مطلق، باب بلا عودة في نسيج الزمكان.
واليوم، صارت هذه الأجسام الغامضة هدفا مباشرا للمراصد، وصُورت أكثر من مرة، مما جعلها من حقائق الكون التي لا جدال فيها.

٣ – موجات الجاذبية… همس الزمكان

في 1916، تنبأ أينشتاين بأن الأجسام الضخمة المتحركة تُحدث تموجات في نسيج الزمكان نفسه.
لكن لم يكن هناك أمل في رصدها، حتى جاء عام 2015، حين أعلنت تجربة LIGO أنها التقطت موجات جاذبية ناتجة عن اندماج ثقبين أسودين على بعد أكثر من مليار سنة ضوئية.
هذا الاكتشاف فتح نافذة جديدة على الكون، نافذة تسمع بدل أن ترى.

٤ – الكواكب الشبيهة بالأرض… من خيال علمي إلى قوائم حقيقية

منذ عقود، كان البحث عن كواكب خارج نظامنا الشمسي فكرة مثيرة لكن بلا دليل.
اليوم، بفضل تلسكوبات مثل كبلر وتيس، اكتُشف آلاف الكواكب، وبعضها في "المنطقة الصالحة للحياة"، حيث قد يوجد ماء سائل، وربما حياة.
هذا الاكتشاف جعل سؤال "هل نحن وحدنا؟" أكثر إلحاحا.

٥ – ماذا يعني ذلك لفكرة الله؟

كل اكتشاف من هذه الاكتشافات يعيد إشعال النقاش:

المؤمن يرى فيها دليلا على دقة الخلق وتناغمه.

الملحد يراها انتصارا للقوانين الطبيعية وقدرتها على تفسير كل شيء.

والمشكك يقول: إذا كانت نظريات الأمس قد صارت حقائق اليوم، فكم من "مستحيل" آخر سيتحول غدا إلى يقين؟

ترقّبوا… فالباب الثالث هو باب الكشف الحاسم.

يهمنا ان نسمع رأيكم وان نرى نقاشاتكم على صفحة المعرفة الحقيقية لنزداد غنى معرفي.

ننتظر تفاعلكم اصدقائي.

أصل الحكاية

زلزال بالكسير 6.1… قراءة في المعطيات الجيولوجية والتداعيات المحتملة1. موقع الحدث ومعناه الجيولوجيالزلزال وقع على بعد 48 ...
10/08/2025

زلزال بالكسير 6.1… قراءة في المعطيات الجيولوجية والتداعيات المحتملة

1. موقع الحدث ومعناه الجيولوجي

الزلزال وقع على بعد 48 كم جنوب مدينة بالكسير التركية، بقوة 6.1، وهو تصنيف يقع في نطاق الزلازل القادرة على إحداث أضرار مادية في المناطق القريبة من مركز الهزة، خاصة إذا كانت المباني غير مجهزة لمقاومة النشاط الزلزالي.
المنطقة التي ضربها الزلزال تقع على امتداد النظام الفالق الأناضولي الشمالي (North Anatolian Fault)، وهو أحد أكثر الفوالق نشاطاً في العالم، ويمتد من شرق تركيا حتى بحر مرمرة وصولاً إلى بحر إيجه.

2. الطبيعة الزلزالية لتركيا

تركيا تقع على نقطة تماس تكتوني معقد، حيث تتقاطع ثلاث صفائح:

الصفائح الأناضولية تتحرك باتجاه الغرب.

الصفائح الأوراسية إلى الشمال.

الصفائح الأفريقية إلى الجنوب.

هذا الوضع يجعل البلاد عرضة لزلازل متكررة وقوية، خاصة على خطوط الفوالق الكبيرة. تاريخياً، زلازل مشابهة في هذه المنطقة أدت إلى موجات ارتدادية استمرت أسابيع، بل وأشهر.

3. التأثيرات الإقليمية

الزلزال شعر به سكان أجزاء من اليونان، بلغاريا، قبرص، سوريا، لبنان، وفلسطين، وهو ما تؤكده خرائط الرصد التي أظهرت مئات البلاغات من مختلف الدول.
الاهتزازات التي تصل إلى شرق المتوسط تدل على أن الطاقة الزلزالية انتقلت عبر طبقات جيولوجية متصلة نسبياً، وهو أمر متوقع في حوض البحر المتوسط.

4. المخاطر التالية

هزات ارتدادية: غالباً ما تتبع زلازل هذه القوة ارتدادات أقل شدة قد تصل إلى 5 درجات، وتشكل خطراً على المباني المتهالكة.

نشاط متسلسل: الفوالق النشطة قد تُحرّض نشاطاً في قطاعات مجاورة، ما يزيد احتمالية وقوع زلازل في مناطق قريبة خلال الفترة المقبلة.

تأثير البنية التحتية: في حال كانت المنطقة المتأثرة تحتوي على سدود، موانئ، أو خطوط أنابيب، قد يستدعي الأمر فحصاً فورياً للتأكد من سلامتها.

5. البعد التاريخي

الزلزال يعيد إلى الأذهان أحداث زلزالية كبيرة في تركيا:

زلزال إزميت 1999 (7.6 درجات) الذي أودى بحياة أكثر من 17 ألف شخص.

سلسلة هزات شرق تركيا 2023 التي تسببت في خسائر بشرية ومادية ضخمة.

6. الخلاصة

زلزال بالكسير الأخير هو تذكير صارخ بأن الحزام الزلزالي في تركيا والشرق الأوسط لا يهدأ، وأن خطورة الوضع لا تتعلق فقط بقوة الهزة، بل أيضاً بمدى استعداد البنية التحتية والمجتمعات المحلية.
في حال لم يتم التعامل مع الأمر بخطط طوارئ فعّالة وتحديثات هندسية، فإن أي هزة مستقبلية قد تكون أكثر كارثية.

رياض زهرمؤسس صفحة The Real Knowledge | المعرفة الحقيقيةلست شيخا، ولا فيلسوفا، ولا أدّعي النبوّة.أنا رجل قرّر أن لا يمرّ ...
07/08/2025

رياض زهر

مؤسس صفحة The Real Knowledge | المعرفة الحقيقية

لست شيخا، ولا فيلسوفا، ولا أدّعي النبوّة.
أنا رجل قرّر أن لا يمرّ على هذا العالم مرور الكرام.

أسّست صفحة The Real Knowledge | المعرفة الحقيقية لأنني تعبت من التلقين، من التكرار، من الخوف من طرح الأسئلة.
في هذه الصفحة، لا نروّج للوهم، ولا نقدّس أحدا.
بل نبحث. نبحث بصدق، وجرأة، وعقل مفتوح.

نقرأ القرآن كما نقرأ فيزياء الكم،
نغوص في المعاني كما يغوص الغواص عن اللؤلؤ،
ونحاول فهم الإنسان والكون والله... ليس من باب الفضول، بل من باب المسؤولية.

نحن لا نبيع الحقيقة، ولا نزعم امتلاكها،
لكننا نؤمن أن السؤال الصادق أهم من ألف جواب محفوظ.

إن كنت ممن يبحثون عن وعي لا عن وهم،
عن معنى لا عن شعارات،
فمرحبا بك في هذه الرحلة.

لا تتّبع القطيع لأنك خائف، ولا ترفض الموروث لأنك غاضب...
فكّر، وابدأ من جديد، فقد تكون الحقيقة أقرب مما تظن.

باحث في الوعي والمعرفة | مؤسس صفحة المعرفة الحقيقية

The Real Knowledge

الحلقة الأولى ماهو الله؟.. في هذه الحلقة، لن نفتح الأبواب على مصراعيها... بل سنقترب منها بحذر.سنضع أقدامنا على العتبة ال...
06/08/2025

الحلقة الأولى

ماهو الله؟..

في هذه الحلقة، لن نفتح الأبواب على مصراعيها... بل سنقترب منها بحذر.
سنضع أقدامنا على العتبة الأولى، لنفهم كيف نتهيّأ لاستقبال الأسرار التي ستُكشف في الحلقات القادمة.
فمن لا يُمهّد أرضه... لن تُثمر فيه بذور المعرفة.
وهذه الحلقة ليست معلومة… بل مفتاح لفهم ما سيأتي.

الفقرة الأولى: السؤال الأزلي…

ما هو الله؟

أين هو الله؟ كيف شكله؟

منذ أن بدأ الإنسان يلتقط وعيه الأول، تشكّل هذا السؤال في أعماقه كما تتشكّل البذرة في رحم التراب:
أين الله؟ ما هو الله؟ كيف شكله؟

ًسؤال يتكرر دائماً ولا يخصّ دينا بعينه، ولا أمة دون غيرها
بل يخصّ كل من حمل وعيا ووقف أمام السماء يتأملها،

ثم سأل نفسه — بصوت خافت أو صراخ صامت —:

"من خلقني؟ ومن يدير هذا الكون؟ وأين هو؟ ولماذا لا أراه؟"

الكل سأل.
لكن القليل استمر بالسؤال.
أما الأغلب… فقد استسلم.
ليس لأنهم وجدوا الجواب… بل لأن الجواب لم يروِ عطشهم.
لم يُسكِت ذاك الصدى الداخلي الذي يصرخ من قاع القلب:

أريد أن أفهم… أريد أن أعرف… لا أريد حفظاً بل يقيناً.

والمفارقة الصادمة؟
أننا لم نتلقَّ وصفا دقيقا لله في كل الكتب المقدسة…
القرآن لم يصفه بشكله. لم يعطه حجما. لم يرسم له هيئة.
لماذا؟

الله في القرآن ليس صورة تُعلّق، ولا جسدا يُحدّق فيه…
بل هو اسماء مطلقة، النور الذي لا يُرى، الحيّ الذي لا يموت، الرحمن الذي وسع كل شيء رحمةً وعلما.

نحن نبحث عن الله وكأننا نبحث عن شيء خارجنا…
لكن الحقيقة أين؟.

"لا يتوقف هذا السؤال لمجرد أن الكثيرين تعبوا من البحث… فالعطش إلى الحقيقة لا يُروى إلا إذا تواصل الحفر، حتى الوصول إلى الينبوع."

مدخل ضروري | المنهجية التي سنسلكها

هنا يبدأ الطريق الأصعب… كيف نقترب من هذا السؤال دون أن ننزلق إلى الوهم؟
كيف نضع أقدامنا على أرض صلبة، ًبعيداً عن العاطفة المتفجرة، وبعيدا عن القصص التي ورثناها دون تمحيص، أو الصور التي صاغها الخيال الشعبي؟

نحن لا نبحث عن الحقيقة بمنظار "الإيمان الأعمى" ولا بمنهج "الإنكار الجاهل".
بل بمنهج ثالث: المنهج العلمي – العقلي – الروحي.
منهج يقوم على:

1. تفكيك النصوص الدينية الكبرى (القرآن خصوصا) لا لنحفظها، بل لنفهم ماذا تقول وماذا لا تقول.

2. مراجعة العلوم الحديثة – من فيزياء الكم إلى علم الوعي – وربطها بما يقوله النص، دون تلفيق ولا إسقاطات رخيصة.

3. نقد التصورات التاريخية التي شوّهت صورة الله، سواء تلك التي جسّدته في شكل رجل بلحية بيضاء، أو التي جعلته قاسياً لا يعرف الرحمة.

4. السير خلف منطق العقل، لا وراء عاطفة الخوف أو التلقين.

نحن هنا لا نقدّس كلام المفسرين لمجرد أنهم مفسرون، ولا نرمي كل التراث في النار.
نحن نقرأ، نفكك، نربط، نختبر… حتى نصل إلى يقين حيّ، لا يقين ورقي.

"الحقيقة لا تخاف البحث… ومن يخاف السؤال، لا يثق بحقيقة ما يؤمن به."

من هو الله؟ وأين هو؟ ولماذا خلقني؟"

المنهج الذي سنتّبعه كما قلنا في هذا البحث:

منهج علمي–عقلي–روحي، لا يقوم على العاطفة ولا على التلقين، بل على تفكيك النصوص، ربطها بالعلوم الحديثة، نقد التصورات الموروثة، والسير على طريق اليقين لا الحفظ.

لكن قبل أن نغوص في النصوص…
كان لا بد أن نطرح السؤال الجوهري:
"لماذا بدأ الإنسان أصلا في طرح هذا السؤال؟"

ما هي المؤثرات التي دفعته الى البحث.

حتى لا نطيل، الجواب وبكل وضوح واختصار هو الخوف.

الخوف هو الشعور الذي دفع الإنسان ليرفع عينيه نحو السماء ويسأل:

"من خلقني؟ من يتحكم في مصيري؟ ولماذا يحصل كل هذا؟"

خاف من النار، من الزلازل، من الطاعون، من الفقر، من الفقد…
فبدأ يتصور قوى خفية تتحكم في الكون…
ثم حاول استرضاءها.

وهكذا وُلدت فكرة أولى الآلهة:
إله المطر، إله الشمس، إله الزرع، إله الموت، إله البركان…
تعددت الآلهة كما تعددت الظواهر،
وبنى الإنسان طقوسا يُرضي بها هذه القوى… لا حبا، بل خوفا.

ثم بدأ يبحث:

"عن إله أعلى وأقوى من هؤلاء؟ من يتحكم من يسيطر؟

فدخل في مرحلة جديدة: الإله الغاضب، المنتقم، البعيد، الذي يعاقب ولا يُناجى.
ثم تطوّر وعيه، فبدأ يدرك وجود إله يمكن التقرّب منه، مناجاته، لا فقط خشيته.
وهكذا وُلدت فكرة الإله القريب.

لكن هذا التطور لم يُلغِ الخوف…
بل عمّقه.

لأن وراء كل تلك الأسئلة، كان هناك سؤال أقسى…
سؤال لا يُقال بسهولة…
لكن الجميع يشعر به:

"هل سأموت؟
وأين سأذهب؟
وما جدوى حياتي إن كنت سأفنى؟"

الخوف من الموت…
هو الجذر الذي زرع في الإنسان تلك الحاجة العميقة للبحث عن الله.

لأن الموت لا يفرّق بين ملك وسلطان، ولا غني وفقير.
ولأننا نراه يقترب من أحبّتنا… قبل أن يدقّ أبوابنا.
ولأن الإنسان لطالما حلم بكأس "الحياة الأبدية"، حاول أن يهرب من الموت…
لكن بلا جدوى.

فسأل:

"هل هناك يد تمسك بي بعد السقوط؟
هل الله هو نهاية الموت… أم بدايته؟
وهل هناك شيء أبعد من هذا الجسد الزائل؟"

هذه هي بداية الحكاية…
الإنسان الذي خاف، فسأل…
ومن عمق الخوف… بدأ يبحث عن الله.

الأن سوف نقوم بجولة بحث في النصوص الدينية المختلفة لنرى كيف قاربت هذه النصوص مسألة من هو الله وما هو؟

الله في النصوص القديمة… محاولة رسم ملامح الغيب

منذ فجر العقل، والإنسان يحاول أن يرسم صورة لما لا يُرى، أن يُمسك باللامحسوس، أن يُقرب الله من مداركه المحدودة. فانطلقت كل حضارة ونص ديني تحاول أن تصف "الذي لا يُوصف".

في القرآن:

الله ليس كمثله شيء، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. لا يُرى بالعين، ولا يُحاط به فكر: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ}. ووصف نفسه بالرحمن، الرحيم، العليم، الحكيم، وهو "الحق" المطلق، لا تدركه الظنون ولا تشبهه الظواهر.

في الإنجيل:

الله هو الآب، هو المحبة، النور، الروح. جاء في يوحنا: "الله روح، والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا." وفي موضع آخر: "الله نور، وليس فيه ظلمة البتة." هو القريب من القلوب، البعيد عن التصوير، وإن كان يُرى من خلال تجلياته في المسيح.

في التوراة:

يتجلّى الله كخالق قوي، ألوهيته مشوبة بالرهبة والخوف، يُدعى "يهوه" (الذي يكون)، لا يُنطق اسمه من قدسيته. ويُوصَف أحيانا بصفات بشرية مجازا، لكنه يبقى متعالياً، يسكن في "السحاب" و"النار"، ولا يُرى: "لأنه لا يراني الإنسان ويعيش" (خروج ٣٣: ٢٠).

الزرادشتية: إله الخير في مواجهة الظلام

الزرادشتية هي من أقدم الديانات التوحيدية، نشأت في فارس قبل 3500 سنة تقريبا. الإله الأعلى فيها يُدعى "أهورا مزدا"
(Ahura Mazda) أي "الرب الحكيم"، وهو خالق النور والعقل والنظام الكوني، ويقابله "أنغرا ماينيو"، روح الشر والفوضى.

أهورا مزدا ليس له صورة ولا شكل، لكنه يتجلى في "الحق" و"النظام الكوني" (Asha).

الزرادشتية تقسم العالم إلى صراع بين النور والظلمة، الحقيقة والكذب، ويطلب من الإنسان أن يختار.

من صفاته: الكلي الحكمة، الكلي القدرة، العادل المطلق.

المثير هنا أن الزرادشتية لم تتحدث عن رؤية لله، بل عن إدراك حضوره من خلال "العقل النوراني" و"الأفعال الخيّرة".

الصابئة: نهر الروح و"الحيّ الأزلي"

الصابئة المندائيون، أحد أقدم المذاهب الغنوصية، ظهروا في بلاد ما بين النهرين (العراق الحالي). لهم كتاب مقدس اسمه "الكنزا ربا" (الكنز العظيم).

يؤمنون بإله واحد يسمونه "الحيّ الأزلي" (هيي ربّــا)، وهو مصدر كل نور وحق، بعيد عن المادة، لا يُدرَك بالعقل البشري.

الوجود المادي شرٌ في فلسفتهم، والله لا يسكنه.

يتجلّى الله عبر "عوالم عليا" وأرواح نورانية تُسمى "الملوكي" تقوم بوظائف الخلق والرحمة.

لا يُجسدون الله ولا يرسمونه، ويعتبرون نهر دجلة رمزا لفيض الحياة الإلهية.

الهندوسية: الإله الذي لا يُحاط به ولا يُحد

في قلب الهندوسية، نجد براهما كإله خالق، وفيشنو كالحافظ، وشيفا كمُحطّم. لكن في عمق الفلسفة الهندوسية، يوجد ما هو أعمق:

براهمن (Brahman): هو الحقيقة الكلية، الوعي الأسمى، ليس شخصا بل هو "الكل في الكل".

براهمن ليس له شكل، ولا اسم، ولا بداية، ولا نهاية، ويُدرَك بالتأمل واليوغا العقلية.

“أتمان” هو الروح الفردية، وهي انعكاس لبراهمن داخل الجسد.

يقولون: "الذات العميقة فيك هي هو، تات تفام آسي (Tat Tvam Asi)."

البوذية: ليس هناك "إله"، بل هناك "حق مطلق"

البوذية الكلاسيكية ترفض فكرة "إله خالق"، لكنها تقرّ بوجود قانون كوني يُسمى الدارما، وهو النظام الأخلاقي والوجودي للعالم.

هدف الإنسان هو الاستنارة (Nirvana)، وهي التحرر من الجهل، والأنا، والتجسد.

الـ "بوذا" ليس إلها بل "مُستنيرا"، وصل لفهم الحقيقة العظمى.

لكن في البوذية التبتية والماهايانا، توجد مفاهيم عن "بوديساتفا" (أرواح نورانية رحيمة) تقارب مفهوم الإله المساعد، وليس الخالق.

الديانات المصرية القديمة: آلهة الوجود والعدم

المصريون القدماء عبدوا آلهة متعددة، لكن في النصوص القديمة، يظهر مفهوم "أتوم" أو "رع" كإله أول:

رع: خالق النور، والشمس، والوجود، ويمتلك "عين رع" التي تراقب كل شيء.

يُعتبر نون (المحيط البدائي) هو الأصل الأول، وكان "رع" هو الوعي الذي خرج منه.

بعض المدارس المصرية (مدرسة هليوبوليس) كانت تؤمن أن الخلق بدأ من فكرة، من نُطق إلهي.

في الفكر اليوناني الفلسفي: العقل الكلي، لا إله بمفهوم ديني

سقراط رأى أن هناك قوة عليا عاقلة، وراء كل وجود، لا تُدرك بالحواس بل بالعقل.

أفلاطون تحدّث عن "الخير المطلق"، العقل المدبر وراء الكون.

أرسطو وصف "المحرّك الأول" الذي لا يتحرك، وهو علّة وجود كل شيء، لكنه لا يتدخل في الكون ولا يعرفنا بالضرورة!

كل محاولة لفهم الله عبر العصور كانت مثل محاولة طفل صغير أن يرسم المحيط بأصابع الطين.

كل دين أو فلسفة اقتربت قليلاً… ثم وقفت عند حافة العجز. بعضهم جعل الله نورا، وبعضهم عقلا، وبعضهم سمّاه "اللاشيء الكامل". لكن الحقيقة الكبرى أن لا أحد استطاع أن يمسك الجوهر.

القرآن اختصرها: {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}.

كلّ دين حاول أن يصف الله... فهل اقترب من الحقيقة أم زادها غموضا؟
هل ما قرأته عن الله في الكتب كاف ليطمئن قلبك؟
اكتب لي رأيك... هل الصورة التي كوّنتها عن الله تُشبعك؟ أم ما زال في داخلك شيءٌ يتساءل؟

هل ما زال في داخلك صوت صغير يتساءل: من هو الله حقا؟

إن كنت من أولئك الذين لم يُروِهم الجواب بعد،
تابعنا في الحلقة القادمة... حيث نفتح لك أولى بوابات الأسرار،
ونرسم خريطة تقودك نحو أصل الحكاية…
نحو الكنز الذي خبأته الأكوان منذ البدء.

بقلم

Address

Hamra

Website

Alerts

Be the first to know and let us send you an email when The Real Knowledge posts news and promotions. Your email address will not be used for any other purpose, and you can unsubscribe at any time.

Contact The Business

Send a message to The Real Knowledge:

Share