20/08/2025
أصل الحكاية
الحلقة الثالثة
من هو الله؟
حين نتأمل في أبسط مظاهر حياتنا ندرك أنّ كل شيء يقوم على أساس.
البناء الذي نسكن فيه قد يبدو متماسكا بجدرانه وسقفه، لكن حقيقته قائمة على ما لا نراه: القاعدة العميقة المغروسة في الأرض. لو زال هذا الأساس لانهار كل ما فوقه مهما بدا شامخا.
وهذا المنطق نفسه يتكرر في الطبيعة: الجنين لا يتكوّن إلا داخل رحم، والرحم هو الحاضن الأساس، هو البيئة التي تؤمّن مقوّمات النمو. فإذا غاب هذا الرحم لم يعد للحياة أن تبدأ أصلا. ما نراه من مولود حيّ ليس إلا النتيجة النهائية لأساس خفيّ سبقه.
وهذا المعنى يتجلّى أوضح ما يكون في الفيزياء الحديثة. فالمادة التي تبدو لنا صلبة وواقفة بذاتها ليست في حقيقتها كذلك؛ الإلكترون، الفوتون، الكوارك… كلّها ليست أجساما مكتفية بنفسها، بل هي اهتزازات في حقول غير مرئية تملأ الكون كلّه. هذه الحقول هي الأساس الذي يمنح الجسيمات وجودها، ويعطيها خصائصها.
ولعلّ أبرز دليل علمي حديث على ذلك كان في عام 2012، حين اكتُشف "بوزون هيغز" في مصادم الهادرونات الكبير، وهو الجسيم الذي يبرهن أنّ الجسيمات لا تملك كتلتها من ذاتها، بل تكتسبها من تفاعلها مع حقل غير منظور يغمر الفراغ. بعبارة أخرى: ما نراه "شيئا" إنما يقوم على أساس باطن غير مرئي.
القرآن قدّم صوراً عميقة لفكرة الأساس:
﴿أَفَمَن أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى… أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ﴾ → البنيان لا يقوم إلا على أساس، وإذا كان الأساس هشًّا انهار البناء كلّه.
صورة بليغة من القرآن: بناءٌ مشيّد على تقوى، وبناءٌ آخر مشيّد على جرفٍ هارٍ ينهار بصاحبه.
ليست القضية هنا مجرّد أحجارٍ أو جدران، بل قاعدة كونية: كل شيء يحتاج إلى أساس.
فإن كان الأساس صلبا، قام البنيان واشتدّ. وإن كان الأساس هشّا، فلا بدّ أن يسقط مهما بدا شامخا.
هذا المبدأ البسيط ينطبق على كل شيء:
البيت يقوم على أساسه، الجبل على جذوره، الجنين في رحم يحتضنه.
لكن ماذا عن الكون نفسه؟ أليس له أساس؟
هل كل هذه المجرات، وكل هذه القوانين، قائمة في الهواء بلا قاعدة؟ أم أن وراءها أساسا خفيا هو الذي يمنحها الثبات ويمنعها من الانهيار؟
العلم اليوم يكشف أن ما نراه من مادة ليست أصلا في ذاتها بل لا بدّ أن تقوم على شيء أعمق… على أساس مطلق.
والقرآن يلمّح إلى ذلك حين يقول: ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾،
الأساس إذن ليس فكرة شعرية ولا وهما صوفيا، بل هو قانون الوجود نفسه.
بدونه لا بناء، ولا حياة، ولا معنى.
وإذا كان لكل شيء في حياتنا أساسا يحملُه، فمن باب أولى أن يكون للكون كلّه أساس أعظم، هو الله: الحقّ، النور، الخفي الذي يقوم عليه كل شيء.
إذاً ما هو هذا الأساس؟
القرآن يعطينا الجواب بلغة مدهشة: ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾. النور هنا ليس ضوءًا مادّيًا، بل هو الأساس الذي به يظهر كل شيء، الحقل الخفي الذي تستمدّ منه السماوات والأرض وجودها وقوانينها وطاقة استمرارها.
1. الجذر اللغوي (ن و ر)
الجذر "ن و ر" في العربية يدلّ على: الضياء والظهور والهداية.
من معانيه:
النور = ضدّ الظلمة.
النوار = الزهرة المتفتّحة (فيها معنى الظهور والحياة).
الإنارة = الكشف والإظهار.
في لسان العرب: النور ما يُبصر به، والضياء ما يكون في ذات الشيء.
إذن "نور" ليس مجرد ضوء مادي، بل هو كل ما يجعل الأشياء ظاهرة، مفهومة، مبصَرة.
2. تحليل الحروف
النون (ن):
حرف البداية والانبعاث.
في المخارج: يخرج من طرف اللسان مع الغنّة → فيه خفاء داخلي (الباطن).
رمز للاحتضان: نون والقلم وما يسطرون، "نون" في بعض التفاسير = الحوت الذي يحمل الأرض.
دلاليا: النون = الاحتواء (الرحم، البذرة، الأساس).
الواو (و):
حرف الربط والوصل.
في الصوت: دائري، يرمز إلى الامتداد والاستمرار والدوران.
الواو هو العروة التي تصل بين طرفين: الواسطة.
دلاليا: الواو = الوصلة بين الباطن والظاهر.
الراء (ر):
حرف الحركة والاهتزاز (الرّاء فيها تكرير وارتجاف).
يرمز إلى الامتداد في الفعل والانتشار.
في المعنى: الراء = الحركة المعلنة (الظهور بعد الباطن).
3. المعنى المركّب (نور = ن + و + ر)
النون (الأساس/الباطن/الاحتواء).
الواو (الوصل/الوساطة/الاستمرار).
الراء (الاهتزاز/الحركة/الانتشار).
الناتج: نور = من الأساس الباطن (ن) يخرج وصْلٌ ممتدّ (و) يُنتج حركةً وظهورا (ر).
4. المطابقة مع الفكرة العلمية والقرآنية
النون = الأساس (الحقل الخفي).
الواو = العلاقة/القانون الذي يربط.
الراء = الاهتزاز/الظهور/المادة المرئية.
إذن كلمة "نور" بذاتها تحكي قصتنا: أساس باطن → وصلة وقانون → ظهور واهتزاز.
الله "نور" = الله الأساس الذي يربط كل شيء ويُظهره بالاهتزاز والطاقة.
﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [الحج: 5]
﴿فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ [لقمان: 10].
لاحظ هنا:
الاهتزاز: بداية الحياة، حركة خفية في التربة بعد نزول الماء.
الربوّ/الارتفاع: نتيجة الاهتزاز، يبدأ النمو.
الإثمار/الإنبات: ظهور الحياة للعيان.
هذه صورة قرآنية مطابقة للفيزياء الكمية:
الوجود كله قائم على اهتزاز الحقول الأساسية.
الاهتزاز = الطاقة الديناميكية.
الربوّ/الثبات = القانون الذي ينظّم الاهتزاز (الحقّ).
الإنبات = تجلّي المادة والحياة.
ربط الآيات بالمفاهيم:
الله نور → أي أنّ الله هو الاهتزاز الأول، الحقل الطاقي الذي يبعث الحركة في الساكن.
الله حق → أي أنّ هذا الحقل الطاقي ليس فوضويا، بل ثابت، منتظم، لا يتغير: الحق الذي لا يتبدل.
إذن: الله = الحقل الاهتزازي الثابت، يجمع بين الحركة (النور/الاهتزاز) والثبات (الحق/القانون).
حين يصف القرآنُ اللهَ بأنه نور السماوات والأرض، فهو لا يحدِّثنا عن ضوءٍ مادّي تلتقطه العين، بل عن أصلِ الظهورِ كلِّه: عن المشكاة التي بها تُرى الأشياء وتستقيم القوانين. في لغة الوجود: ما يظهر لا يقوم إلا على أساسٍ باطن؛ إن سُحب الأساس انهدّ البناء، وإن بقي استقام ما فوقه. هذا هو معنى النور هنا: الأساس الذي يُقيم ويُمسك.
2) الآيات التي ترسم مفهوم “الأساس/الإمساك/الإظهار”
النور/الظهور:
﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ [النور: 35] — النور هنا أصل الظهور، به تتجلّى الموجودات ولا تُدرك ذاته بالحس.
الأوّلية والباطنية (الأساس):
﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ﴾ [الحديد: 3] — “الأوّل/الباطن” هو الأساس الذي يحمل “الظاهر”.
﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ﴾ [الأنعام: 103] — الأساس لا تُدركه الأداة الأدنى.
الإمساك/التثبيت (وظيفة الأساس):
﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [فاطر: 41] — الإمساك هو وظيفة الأساس.
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: 25] — قيام المنظومة بأمرٍ مُمسِك.
﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ … وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] — القيّومية: دوام الإمساك والحفظ.
البناء والاتّساع (وجود البنيان فوق الأساس):
﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ [الذاريات: 47] — لفظ “البناء” يقتضي قاعدة.
﴿أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا﴾ [النازعات: 27–28] — رفع/تسوية: هندسة على أساس.
﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ [الرعد: 2] — “غير عمد ترونها”: أعمدة غير منظورة = أساس باطن.
التقدير والقانون (معمار القوانين):
﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: 2] — قانون مُقدَّر سابق.
﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: 49] — انتظام معياري (ثوابت/مقادير).
﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا﴾ [فصّلت: 12] — “أمر” السماء = قانونها الداخلي.
﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82] — نفاذ الأمر = فاعلية الأساس.
الوِحدة الضامنة لانتظام القانون:
﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ [الأنبياء: 22] — توحيد المصدر شرط ثبات النظام.
الحفظ الدائم/الجريان المنتظم:
﴿كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: 40] — حركة مضبوطة تشير لثبات مُمسِك.
﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29] — دوام الفعل/الإمداد.
خلاصة قرآنية: “النور، الباطن، الإمساك، البناء، التقدير” خمس مفاتيح تصف أساسا خفيا ممسِكا يقوم عليه البنيان الظاهر.
3) المقاربة العلمية: من “النور الوجودي” إلى “الحقل الأساس”
الفكرة العلمية المجرَّبة: ما نسمّيه “جسيمات” (إلكترون، فوتون، كوارك…) ليس لبناتٍ صلبة مستقلّة، بل اهتزازات في حقول أساسية تملأ الكون (نظرية الحقول الكمية – QFT). المادةُ ظهورٌ، والحقولُ أساس.
حقول تملأ الوجود: كل نوعٍ من الجسيمات يظهر كـ اهتزاز في حقله الخاص:
– الإلكترون ← اهتزاز في الحقل الإلكتروني.
– الفوتون (الضوء) ← اهتزاز في الحقل الكهرومغناطيسي.
– الكواركات/الغلوونات ← اهتزازات في حقول الشدّة النووية.
دليل تجريبي حاسم – حقل هيغز: عام 2012 رُصِد بوزون هيغز في مصادم الهادرونات الكبير (ATLAS/CMS). وجوده يثبت أن ثَمَّ حقلا غير مرئيّ ذا “قيمة توقعية في الفراغ” يمنح كثيرا من الجسيمات كتلتها. أي: خصائص المادة ليست “من ذاتها”، بل من تفاعلها مع الحقل الأساس (آلية الكَسْر التلقائي للتناظر).
دقّة تنبؤ تقطع بالأساس الحَقلي:
– الكهروديناميكا الكمية (QED) تُطابق القياس بدقة مذهلة (العزم المغناطيسي الشاذ للإلكترون، وانزياح لامب)، ما يؤكد أن وصف “المادة ← اهتزاز حقلي” ليس تشبيها، بل واقعا مُقاسا.
– تأثير كازيمير وتذبذبات الفراغ يبرهنان أن “الفراغ” ليس خلوّا، بل مستودع طاقة وقوانين.
حقل الجاذبية/النسيج الحامل: في النسبيّة العامّة، الجاذبية ليست قوّة دافعة تقليدية بقدر ما هي هندسة نسيج الزمكان (مجال متريّ يحدّد حركة المادة). رَصْد موجات الجاذبية (LIGO, 2015) وصورة الثقب الأسود (EHT, 2019) يبرهنان أن النسيج الحامل نفسه ديناميّ ويعمل كأساس موجّه لمسارات كل شيء.
الكون البنّاء المتّسع: تمدّد الكون (قياسات المستعرات العظمى، وإشعاع الخلفيّة الكونية، ورصدات متعدّدة) يوافق ﴿وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾ من حيث ظاهرة الاتّساع؛ أمّا تفسيره الفيزيائي فبقانون ثابت هابل/الطاقة المظلمة—وهو بعض ما يشي بأن “المشهد الظاهر” يستند إلى مستوى أعمق من المعادلات.
التأطير الفلسفي العلمي:
إذا كانت الجسيماتُ ظهوراتٍ فوق الحقول، وكانت القوانينُ الحاكمة مُضمَّنةً في صلب هذه الحقول، فالذي “يُمسك” انتظام ذلك كلّه ويمنحه المقادير هو، في الاصطلاح الفلسفي، “الحقل الأساس”.
هنا نقارب المعنى القرآني: النور الباطن الممسِك الذي به يقوم البنيان، لا يُدرك بالحسّ الأدنى (﴿لا تُدْرِكُهُ الأبصار﴾) لكن تُدركه الآثار والقوانين.
4) المطابقة الدلالية (من غير خلطٍ ولا ابتذال)
النور القرآني ≠ فوتونات، بل أصل الإظهار. وفي العلم، “الإظهار” الدقيق للمادة والقوى يكون عبر حقولٍ تحمل الخصائص وتمنحها.
الإمساك القرآني = وظيفة الأساس، وفي العلم يوازيها ثبات الحقول والقوانين التي لو اختلّت انهار النظام.
البناء القرآني = بنية مرصوصة على قاعدة، وفي العلم: الجسيمات، الذرّات، المادّة الحيّة… طبقات ظهور فوق حقولٍ وقوانين أعمق.
5) الخلاصة الموحّدة
القرآن يضع القاعدة: هناك أساسٌ باطنٌ ممسِكٌ مُظهِر (نور، باطن، إمساك، بناء، تقدير).
العلم يُسعفنا بأداةٍ وصورة: الحقول الأساسية التي تملأ الكون، والمادةُ ليست إلا آثارَ اهتزازها.
وعليه، فصياغتنا لمدخل الحلقة:
الله نورُ السماوات والأرض = الأساس الوجودي الأعلى الذي به تظهر السماوات والأرض، والذي تستمدّ منه الحقولُ وقوانينُها “الطاقةَ” ومعنى القيام.
هذا ليس خلطا بين لاهوت وفيزياء، بل تقابُل دلالي: لغة الوحي تصف الحقيقة المطلقة، ولغة العلم تصف آثارها ونُظُمها في المشهد المادّي.
عندما نقول “الله = الحقل الأساس” فنحن لا نحصر الله في كيانٍ فيزيائي؛ بل نستخدم التمثيل التقريبي: كما أنّ كل ظاهر في الكون قائمٌ على حقلٍ/قانونٍ باطن، كذلك كل الوجود قائمٌ على الحقّ المطلق/النور الذي وصفه القرآن. العلم يصف الكيفية، والوحي يصف الأصالة. ولا تعارض.
يرجى مشاركة آرائكم...
ترقبوا الحلقة الرابعة بكشف أسرار.
أصل الحكاية