14/10/2025
عمر المختار ليس انتوني كوين !
سالم الهنداوي صحيفة الجبل الأخضر - البيضاء
1991/9/16 م.
في منتصف السبيعنيَّات ، عايشتُ فكرة إنجاز شريط سينمائي كبير لشيخ الشهداء عمر المختار . ثم تابعتُ بعض جوانب تنفيذ هذا العمل مع المخرج العالمي " مصطفى العقاد " .
ففي العام 1976 تحاورنا في الشكل النهائي للسيناريو . وكان جل النقاش في الشخصية المركزية ( عمر المختار ) ، واختيار الممثل العالمي "أنتوني كوين" لهذه الشخصية من بين عشرات الممثلين العالميين . قال العقاد : إن انتوني كوين هو الممثل الوحيد والوجه الوحيد لعمر المختار . فقلت : لكن انتوني كوين يظل هو " زوربا اليوناني " . فقال : أنا أعلن أنه سيكون ( عمر المختار) . وكانت النتيجة عندما التقيت العقاد وأنتوني كوين في مدينة " شحات " رأيتُ عمر المختار لأول مرَّة .
* كان " زوربا " حينها يعود إلى صفحات " نيكوس كازنتزاكيس"، ويخرج البطل من أوشاز هذا الجبل . رأيتُ الممثل البارع لدرجة أنني خفت على عمر المختار ، وفعلاً صار انتوني كوين هو عمر المختار السينمائي الفذ الذي قاد حركة النضال الشعبي ضد الفاشيست .
أحترمتُ في انتوني كوين ملابس عمر المختار ، وجلسته بين صغار " الكتّاب " في المسجد ، واحترمته أكثر عندما امتطى صهوة الجواد وأمسك بالبندقية ووقف على قمة هذا الجبل .
* عندما جسّد هذا الفنان البارع شخصية عمر المختار ، أدركت أن الثقافة العربية لابد لها أن تنتصر على تلك الآلة الهوليودية ، بمجرد أن ينسحب نجومها من الألبوم " المسموم" ، ويدركوا أن خارج هوليود يوجد الأبطال الحقيقيون .:
فالنقلة من " كريت" إلى " الجبل الأخضر " لممثل عالمي مثل "كوين "، تعني الكثير للثقافة الإنسانية والتي تمثل الثقافة العربية جزءاً غنيّاً منها لما قدمته للبشرية عبر العصور . ولعلنا ندرك هنا أن هذا الفنان المزاجي عشق عمر المختار وبكاه واستأذنه في مثواه لتقمص شخصيته .. فكان أن نجح انتوني كوين ، وكان لابد لهذا النجاح أن يرجع لعمر المختار الحقيقي الذي أبدع بدون إرادة - مخرج -، أبدع بإرادة الله ، فقهر الجوع والظمأ والموت وغامر في العراء تحت البرد والمطر يطارد جحافل الغزاة .
كان عمر المختار هو سيّد الموت طيلة فترة نضاله البطولي .. وذلك الموت الحقيقي الذي داهمه في الأيام الصعبة التي لم يكن فيها أي معني سوى طرد أو إبادة الغزاة .
* .. في العام 1979 م ، التقيتُ في روما بالعقاد وبعض فريق العمل الليبي أثناء استكمال بعض المشاهد النهائية هناك . كان ذلك في شهر هانيبال / أغسطس بالتحديد . وكان الفيلم قد تكامل تقريباً ودخل في عملية - المونتاج - .
لم يكن العقاد مرهقاً بأي حال رغم متابعته اللصيقة والدقيقة لكل صغيرة وكبيرة . وحده كان انتوني كوين متأثراً بعمر المختار . لم يتخلص من سيطرة الشيخ الروحية . كان يبحث عن نفسه مرّة أخرى كما بحث عن نفسه بعد "زوربا" .
أحد النقاد العرب قال لي ذات مرّة أثناء عرض الفيلم في دمشق ، أن أنتوني كوين يحتاج إلى القيام بدور شخصية أخرى مهمّة كى يخرج من سيطرة عمر المختار !.
* ماذا فعل عمر المختار بأنتوني كوين ؟!
أو ماذا فعل الفنان بنفسه ليعيش بعمق شخصية عميقة في أصلها مثل شخصية ( عمر المختار) ؟!
* كانت روما في ذلك الشهر بالتحديد ، تعيد إلى أذهانها زئير الأسد . أدركتُ حينها فعلاً أن روما لم تفقد ذاكرتها عندما ظهر "موسوليني" من جديد على أغلفة المجلات الأنيقة .
كان رعب عباءة عمر المختار يحيط بأعمدة القصر الفاشي ، وكان القصر ينهار أمام الجيل الذي أدرك أن الفاشية مجرد جلد أسود أحرقه التاريخ ، وأن اعدام عمر المختار هو الإثم الشنيع للفاشية في قتلها الحق . لقد أحلنا ( المقهى الأبيض ) في "فيافينتو" تلك الليلة ، إلى منتدى للشيخ الفذّ الذي طاف بعباءته جميع أنحاء العالم !