22/10/2025
وشوشات الظل والنار الباردة
بقلم: [منال]
كانت مدينة "أركاديا" تعيش تحت وطأة وهم السلام. واجهاتها الزجاجية اللامعة تخفي شوارعها الخلفية المعتمة، حيث تتسلل الظلال وتتراكم الأحقاد. في إحدى ليالي الشتاء القارسة، اهتزت أركاديا على وقع جريمة بشعة: مقتل "فاليري"، سيدة المجتمع المرموقة، داخل قصرها الفخم. طعنات متفرقة، وبلا أي أثر للمعتدي. الشرطة حارت، والألسنة تفننت في نسج الشائعات. لكن "كايدن"، شقيق فاليري الأصغر، لم يصدق الروايات الباردة.
كايدن كان فنانًا تشكيليًا، يعيش في عزلة شبه تامة، يرى العالم بعينين مختلفتين. بالنسبة له، كان موت فاليري ليس مجرد جريمة، بل كان لحنًا مشوهًا تتراقص فيه نوتات الانتقام. كان يعلم أن فاليري، بجمالها الآسر وذكائها الحاد، كانت قد تراكمت عليها عداوات كثيرة في حياتها المهنية القاسية.
البحث عن وشوشات الظل...
بعد شهور من التحقيق الفاشل، قرر كايدن أن يتولى الأمر بنفسه. لم يكن لديه خبرة في عالم الجريمة، لكن لديه حدس فنان، وذاكرة حية لوجه شقيقته الغائبة. بدأ رحلة بحثه في الأماكن التي كانت فاليري تزورها عادة: المعارض الفنية، المطاعم الفاخرة، وحتى أروقة شركة العقارات التي كانت تديرها.
لاحظ كايدن تفصيلاً غريبًا: في كل مكان، كان يرى نفس الرجل. رجل متوسط العمر، ذو شعر رمادي خفيف، وعينين تلمعان ببريق غامض. كان يظهر ويختفي كظلّ، يراقب كايدن أحيانًا، ثم يتلاشى. أطلق عليه كايدن اسم "الظل".
تتبع كايدن الظلّ سرًا، ليكتشف أنه "ريكسون"، رجل أعمال منافس لفاليري، كان قد خسر كل ثروته تقريبًا بسبب صفقة عقارية كبيرة قادتها فاليري ببراعة فائقة. لم تكن مجرد خسارة مالية، بل كانت إهانة شخصية لريكسون. كان الدافع واضحًا كوضوح النهار.
لكن الشرطة كانت قد حققت مع ريكسون ولم تجد أي دليل يربطه بالجريمة. كانت لديه حجة غياب قوية، وشهود يؤكدون وجوده في مدينة أخرى ليلة مقتل فاليري. كان لغزًا محيرًا.
خطة الفنان والانتقام البارد...
أدرك كايدن أن ريكسون كان ذكيًا، وأنه استخدم شخصًا آخر لتنفيذ الجريمة. بدأت فكرة الانتقام تتشكل في ذهن كايدن، انتقام ليس بالدم، بل بالفن. قرر كايدن أن يصنع سلسلة من اللوحات، كل لوحة تحكي جزءًا من قصة مقتل فاليري، ليس بشكل مباشر، بل من خلال الرموز والألوان والعواطف.
أول لوحة كانت "المرآة المكسورة"، تظهر وجه فاليري مشوهًا بين شظايا زجاج، مع ظل لرجل خفي يلوح في الخلفية. عرضها في معرض صغير، وتأكد من دعوة ريكسون. جاء ريكسون، ابتسامته مصطنعة، لكن كايدن لاحظ ارتعاشًا خفيفًا في زاوية فمه عندما رأى اللوحة.
اللوحة الثانية كانت "أسرار المدينة"، تصور أزقة أركاديا المظلمة، وفي قلبها كرسي مهجور عليه حقيبة يد فاليري. اللوحة الثالثة كانت "نداء الصمت"، تظهر يدًا ممدودة نحو هاتف محطم، مع خلفية رمادية قاتمة.
كان كايدن ينسج شبكة فنية حول ريكسون. كان يلاحظ أن ريكسون أصبح أكثر توترًا، وأنه أصبح يتجنب النظر في عينيه. كان الانتقام يتسلل إلى نفس ريكسون ببطء، كالسم البارد.
النار تحت الرماد...
في ليلة افتتاح معرض كايدن الأخير، عرض لوحته الأكثر جرأة: "وشوشات الظل". كانت اللوحة تصور ريكسون، بملامحه الحادة، واقفًا في غرفة مظلمة، وفي يده حبل رفيع يتدلى منه خنجر. ليس خنجر الجريمة، بل خنجر رمزي، يمثل خيانة ريكسون وثأره البغيض. وفي خلفية اللوحة، كانت هناك صورة صغيرة لرجل ذي قناع، وكأنه ينفذ الأوامر.
قبل افتتاح المعرض بدقائق، تلقى كايدن مكالمة غريبة. كان المتصل هو "الظل"، أو بالأحرى، "القاتل المأجور" الذي استخدمه ريكسون. كان القاتل قد رأى لوحات كايدن، وشعر بالخطر يحدق به. أيمن، هذا هو اسمه، كان يعلم أن الشرطة قد تستخدم لوحات كايدن كدليل. شعر بالخيانة من ريكسون.
قال أيمن بصوت خفيض: "ما ترسمه خطير يا فنان. لكنه كشف شيئًا لم أكن أعرفه. ريكسون خانني. أنا سأخبرك بكل شيء... أين ألتقيك؟"
أخبره كايدن بمكان قريب من المعرض. عندما التقى به، قدم له أيمن أدلة دامغة: تسجيلات لمكالمات بينه وبين ريكسون، تفاصيل عن ليلة الجريمة، وكيف تم تزوير حجة غياب ريكسون. كان أيمن قد شعر بأن ريكسون سيضحي به يومًا ما.
في تلك الليلة، لم يكن كايدن قد حقق انتقامه بالدم، بل بالعدالة. تم القبض على ريكسون، واعترف أيمن بكل شيء مقابل تخفيف الحكم.
نظر كايدن إلى لوحته "وشوشات الظل"، ثم إلى السماء. كانت فاليري قد وجدت سلامها أخيرًا، ليس في النسيان، بل في تذكر الحقيقة. أما هو، فقد وجد أن الفن يمكن أن يكون سلاحًا أقوى من أي خنجر. وأن الانتقام الحقيقي ليس في إراقة الدماء، بل في إضاءة الظلام بالكشف عن الحقيقة.
أتمنى أن تكون هذه القصة قد نالت إعجابك!
#انتقام
#غموض
#أدب
#كتابة
#أركاديا