
15/10/2025
جيل جديد من النّخب الصّاعدة يطرق أبواب السلطة في إقليم تاونات… فهل من إنصات ؟؟
منذ فجر الاستقلال، ظل المغرب فضاء حيّا لتفاعل عميق بين السلطة والمجتمع، بين المركز والأطراف، وبين الدولة والنخب المحلية التي حملت على عاتقها أمانة الوساطة بين الوطن والمواطن. ومع مرور العقود، تشكلت في مختلف الأقاليم طبقات من النخب التقليدية التي اضطلعت بأدوار محورية في تثبيت الاستقرار، لكنها في المقابل ساهمت — بوعي أو بدونه — في تكريس وضعية انحصار النّخب، و إضعاف دينامية التجديد الاجتماعي والسياسي داخل المجالات المحلية.
وفي قلب هذا التحول التاريخي، يبرز إقليم تاونات كمرآة صادقة للتحولات البنيوية التي تعرفها العلاقة بين الدولة والمجتمع، حيث بدأت ملامح جيل جديد من النخب الصاعدة تتشكل، حاملة معها وعيا جديدا بالمواطنة، ومطالبة بإنصات فعلي يوازي الخطاب الرسمي حول الجهوية والحكامة الترابية.
هذا المقال لا يروم الدفاع عن طرف ضد آخر، بل يسعى إلى تحليل مغزى الارتباك الإداري والسياسي الذي شهده الإقليم مؤخرا في تعاطي عمالة تاونات مع لجنة نداء الكرامة، بوصفه نموذجا دالا على أزمة عميقة في استيعاب الدولة المغربية الحديثة لمعنى “الشرعية الجديدة” التي يطالب بها جيل ما بعد دستور 2011، جيل لم يعد ينتظر الاعتراف من فوق، بل يسعى إلى بنائه من داخل المجتمع نفسه، دون تجاوز للمقدسات الوطنية أو إخلال بثوابت الدولة الراسخة، طبعا.
و لفهم المشهد الراهن في تاونات، لا بد من العودة إلى مفهوم الشرعية كما تطور في العلوم السياسية. فالدولة، كما صاغها ماكس فيبر، تقوم على ثلاث شرعيات أساسية: التقليدية، والكاريزمية، والعقلانية القانونية.
وإذا كانت الشرعية التقليدية هي التي حكمت علاقة السلطة بالمجتمع المغربي خلال المراحل الأولى من بناء الدولة الحديثة، فإن ما نعيشه اليوم هو ميلاد شكل رابع من الشرعية يمكن تسميته بـ الشرعية المجتمعية التفاعلية، حيث لم يعد المواطن متلقّيا للقرارات فحسب، بل صار فاعلا في صياغتها من خلال الأطر المدنية المتطوعة والاحتجاج السلمي، والتنظيم الذاتي.
وفي هذا السياق، انبثقت لجنة نداء الكرامة بتاونات لتعبّر عن هذا التحول النوعي، فهي ليست حزبا سياسيا ولا نقابة، لكنها تمثل شكلا جديدا من أشكال التمثيلية الاجتماعية اللامؤسساتية، تستمد مشروعيتها من التفويض الشعبي المباشر بدلا من الرخص الإدارية.
ومع ذلك، فإن ما أثار الانتباه هو تراجع السلطة الإقليمية عن عقد لقاء حواري كانت قد دعت إليه رسميا، بدعوى “غياب الصفة القانونية” للجنة، وهو ما يكشف عن تناقض بنيوي بين خطاب الدولة المركزي المنفتح، وممارسة السلطة الترابية المنغلقة على المفاهيم القديمة للتمثيلية.
ما يحدث اليوم في تاونات لا يمكن اختزاله في سوء تنسيق إداري بسيط، بل يعكس أزمة ثقافة سياسية عميقة.
فبينما تؤكد الحكومة المغربية في خطاباتها الرسمية على “الإنصات والتفاعل الإيجابي مع المطالب الاجتماعية”، نجد أن بعض الإدارات الترابية ما تزال تشتغل بعقلية التدبير العمودي، حيث ينظر إلى المواطن كموضوع للحكم لا كشريك في بناء القرار.
هذا التناقض بين الخطاب والممارسة يضعف صورة الدولة في المخيال الجمعي، ويجعل المواطن في الأقاليم الهامشية يشعر بأن المركز يقول ما لا ينفّذ في الهامش.
ولعل أخطر ما في هذا الارتباك أنه لا يعبّر فقط عن فجوة في التواصل، بل عن مقاومة بيروقراطية ضمنية لكل محاولة لتجديد العلاقة بين الدولة والمجتمع.
فعوض أن تحتضن العمالة هذه المبادرة الشعبية كفرصة لإعادة بناء الثقة، اختارت أن تتذرع بغياب الصفة القانونية، في وقت كان يمكن فيه تحويل هذا اللقاء إلى مختبر محلي للحوار الاجتماعي المسؤول، كما تقتضي روح الدستور الجديد.
ويعد إقليم تاونات رمزا تاريخيا للمغرب العميق الذي ساهم في حفظ توازن الدولة عبر أجيال من التضحيات.
لكن هذا الإقليم، رغم عمقه الوطني والإنساني، ظل يعاني من تفاوتات مجالية مزمنة ومن ضعف الاستثمارات العمومية، ما جعله حاضنا طبيعيا لأي حراك اجتماعي سلمي يبحث عن الكرامة.
لذلك فإن بروز لجنة نداء الكرامة لا يجب أن يقرأ كتهديد للاستقرار، بل كـ مؤشر على حيوية المجتمع المحلي وقدرته على التنظيم الذاتي والمرافعة المدنية، في وقت تراجعت فيه الوساطة الحزبية والنقابية التقليدية.
إن تاونات اليوم تقف أمام مفترق طرق: إما أن تحتضن هذه الطاقات الشابة كجزء من مشروع النموذج التنموي الجديد، أو أن ينظر إليها بعين الريبة كحركات احتجاجية “خارج الإطار”، وهو ما سيؤدي إلى تعميق الفجوة بين السلطة والمجتمع في منطقة تعرف بولائها الوطني العميق، ولكنها أيضا تعرف بحسّها النقدي العالي تجاه مركز القرار.
في العلوم السياسية الحديثة، ينظر إلى النخب الجديدة بوصفها أداة لتجديد الشرعية السياسية وضمان استمرارية الدولة من خلال آليات التناوب الاجتماعي.
إنّ الاعتراف بهذا الجيل الجديد من فاعلين جمعويين، وأطر ميدانية، وصحافيين، وشباب مثقف أصبح ضرورة استراتيجية تستلزمها معايير الحكامة الأكثر تقدماـ لضمان تجذر النموذج المغربي في بيئته الاجتماعية ذات الخصوصية المحلية.
إن هؤلاء الشباب الذين يقودون اليوم لجانا شعبية مثل “نداء الكرامة” ليسوا خصوما للدولة، بل امتداد طبيعي لمشروعها الحداثي الديمقراطي، وهم التعبير الميداني عن فكرة “الملكية المواطنة” التي دعا إليها جلالة الملك محمد السادس في خطبه المتعددة، حين أكد على ضرورة ربط المسؤولية بالمحاسبة، وربط السلطة بالإنفتاح على المواطنين و الانصات لهمومهم و انشغالاتهم اليومية.
ولذلك فإن تجاهل هذه النخب الصاعدة أو محاولة تحييدها لا يخدم الاستقرار، بل يضعف قدرة الدولة على تجديد نفسها من الداخل.
الاعتراف بهم لا يعني بالضرورة شرعنة أي شكل من أشكال الفوضى، بل يعني ببساطة فتح قنوات تواصل رسمية ومنتظمة معهم، والاعتراف بقدرتهم على المساهمة في صياغة السياسات العمومية المحلية في مجالات الصحة والتعليم والبنية التحتية والعدالة الاجتماعية…
إن التحول الذي يعيشه المغرب اليوم يفرض على الإدارة الترابية أن تنتقل من منطق “التوجيه من فوق” إلى منطق “الشراكة الأفقية” مع المجتمع المدني.
وفي تاونات، يمكن أن يشكل الحوار بين مصالح العمالة ولجنة نداء الكرامة نقطة انطلاق رمزية لنموذج جديد من الحكامة المحلية المبنية على الثقة والتعاون بدل الإقصاء والريبة.
فالتاريخ السياسي المغربي يظهر أن الدولة كانت دوما قادرة على تجاوز أزماتها حين استمعت بصدق لأصوات الهامش، من الريف إلى الأطلس إلى الجنوب، حيث كانت روح الوطنية دائما أقوى من كل أشكال الاحتقان.
إن إعادة فتح الحوار مع هذه اللجنة لا يعني التراجع عن هيبة الدولة، بل ترسيخ قوتها المعنوية، لأن الدولة القوية ليست تلك التي تفرض الصمت، بل التي تمتلك الشجاعة للاعتراف بقدرة مواطنيها على المشاركة في صياغة مصيرهم.
خاتمة: نحو اعتراف تاريخي بجيل الكرامة
تاونات اليوم تطالب بالاعتراف بهذا الجيل الذي يحمل في قلبه حب الوطن وفي عقله مشروع الإنصاف.
جيل لا يخرج إلى الشارع بحثا عن الفوضى، بل عن كرامة تترجم في خدمات عمومية عادلة، وفي إدارة تصغي بدل أن تتوجس، وتبادر بدل أن تبرر.
إن السلطات الإقليمية في تاونات أمام لحظة تاريخية فارقة: إما أن تختار الانفتاح على هذا الوعي الجديد، وتصبح نموذجا وطنيا في إدارة الحوار، أو تستمر في عقلية التوجس التي عفا عنها الزمن، فتخسر فرصة بناء علاقة ثقة متبادلة مع مواطنيها.
ولأن المغرب اليوم يسير بثبات في طريق الإصلاح في ظل القيادة الرشيدة لجلالة الملك محمد السادس، فإن الرهان الحقيقي على التنمية المحلية يمر عبر الاعتراف بهذا الجيل الجديد من النخب، لا كمنافسين للسلطة، بل كشركاء في تحقيق المشروع الوطني الكبير: مغرب الحرية، و الكرامة، والعدالة الاجتماعية، والمواطنة الفاعلة. .
المصدر : أفريك تيفي - AFRIQTV