16/08/2025
أمي التي لا تقرأ
عشر سنوات كاملة مرّت منذ أن غادرت مدينتي الصغيرة. عقد كامل من الغربة، تغيرت فيه ملامحي وتغيرت تفاصيل حياتي، لكنّ الحنين ظلّ يربطني بذلك البيت العتيق الذي تربيت بين جدرانه. وحين عدت أخيرًا، كان الاستقبال حافلًا بالدموع والضحكات والعناق الطويل، كأن السنوات العشر لم تكن سوى ليلة عابرة.
في اليوم الأول غمرتني دفء العائلة وأحاديثهم، أما في اليوم التالي فقد لفت انتباهي مشهد بسيط لكنه ترك في نفسي أثرًا عميقًا. رأيت ابن أختي الصغير يخط شيئًا على ورقة صغيرة، ثم علّقها بعناية على جدار الصالون القصير، وانصرف مطمئنًا. أثار ذلك فضولي، فاقتربت من الورقة وقرأتها، فإذا بها كلمات متعثرة بخط طفل، يطلب فيها من جدته أن توقظه باكرًا للذهاب إلى المدرسة.
ابتسمت من براءته، ثم ناديت عليه وسألته:
– "لمن كتبت هذه الرسالة يا صغيري؟"
فقال ببساطة: "لجدتي، كي لا تنسى أن توقظني غدًا."
ابتسمت وقلت ممازحًا:
– "ولكن... جدتك لا تعرف القراءة!"
ما إن نطقت بهذه الكلمات حتى رأيت الدهشة ترتسم على ملامحه الصغيرة. اتسعت عيناه وكأنه يسمع أمرًا لم يخطر بباله قط، ثم قال بارتباك:
– "ماذا؟! أليست هي من تقرأ رسائلي كل مرة؟ لكنها دائمًا توقظني في الوقت الذي أطلبه!"
تأملت براءته وصمته المذهول، ثم أعدت الورقة إلى مكانها دون تعليق، تاركًا السر معلقًا في فضاء البيت.
وفي صباح اليوم التالي، صحوت على صوت أمي الدافئ وهي توقظ حفيدها بحنان. اقتربت منها ورويت لها ما جرى بالأمس، فضحكت ضحكتها الطيبة وقالت ببساطة:
– "حين أرى الورقة على الجدار، أفهم أنه يريد مني أن أوقظه باكرًا. لا أحتاج أن أقرأ ما فيها، يكفيني أن أعرف ما يقصده."
تأملت وجهها المتجعد الذي يضيء بالسكينة، وابتسمت بعمق. عندها أدركت أن أمي معلمتي الأولى، وأنها رغم أنها لم تتعلم القراءة والكتابة، تملك أعظم لغة على الإطلاق: لغة القلب التي تفهم دون حروف، وتقرأ دون كتاب.