20/03/2025
يومَ إطلاقِ سراحِ واحدٍ مِنَ المسجونِنَ، قضى مدةَ الْحُكمِ، فأخذَ يُوَدِّعُ رِفاقَهُ. كانَ قدْ قضى في السِّجْنِ عِشرينَ عامًا مِنَ الأشغالِ الشاقَّةِ. لقدْ رآهُ عددٌ مِنَ السُّجناءِ يَدْخُلُ السِّجْنَ شابًّا غيرَ عابِئٍ بشيءٍ، غيرَ مُبالٍ بشيءٍ، لا يُفَكِّرُ لا في الْجَريمةِ التي ارْتَكَبَهَا، ولا في الْعُقُوبَةِ التي وُقِعَتْ عليهِ. وهوَ الآنَ شيخٌ أشْيَبُ الشَّعْرِ، حزينُ الْوَجْهِ، عابِسُ الْأَسارِيرِ.
لَقَدْ طَافَ عَلى ثُكْنَاتِنَا السِّتِّ صامِتًا، فَكَانَ كُلَّمَا دَخَلَ وَاحِدَةً مِنْها، صلَّى أَمَامَ صُورَةِ الْعَذْرَاءِ، وحَيَّا رِفَاقَهُ تًحِيَّةً عَمِيقَةً، رَاجِيًا مِنْهُم أنْ لا يَحْفَظُوا عنهُ ذِكْرَى سيِّئَةً.
وَأَذْكُرُ أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ نُودِيَ أَحَدُ السُّجَنَاءِ فِي ذاتِ مَسَاءٍ، وَهُوَ رَجُلٌ كَانَ فِي الْمَاضِي فَلَّاحًا سيبيريًّا غَنِيًّا، وَقَدْ أُبْلِغَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أنَّ زَوْجَتَهُ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ، فَأَحْزَنَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَهَا هِيَ ذِي تَأتي فِي هَذا الْمَسَاءِ لِتُعْطِيَهُ صَدَقَةً.
لقدْ تَحَدَّثا دَقِيقَتَيْنِ، وبَكِيَا كِلَاهُمَا، ثُمَّ افْتَرَقَا إلى غيرِ لِقَاءٍ بعْدَ الْآنَ... وَرَأَيْتُ وَجْهَ هَذا السَّجينِ حِينَ عَادَ إِلَى الثُّكْنَةِ...
حَقًّا، إِنَّ لْإِنْسَانَ يَتَعَلَّمُ هُنَا كَيْفَ يَتَعَوَّدُ احْتِمالَ كلِّ شيءٍ...
وَمَتَى بَدَأَ الشَّفَقُ، أَدْخَلُونَا إِلَى الثُّكْنَاتِ نُسْجَنُ فِيهَا اللَّيْلَ كُلَّهُ. وَلَقَدْ كَانَ يُؤْلِمُنِي ويُحْزِنُنِي دائمًا أنْ أَتْرُكَ الفِنَاءَ إلى الثُّكْنَةِ.
تَصَوَّرُوا غُرْفَةً طَويلةً مُنْخَفِضَةً خَانِقَةً، تُضِيئُهَا شُمُوعٌ لا تَكادُ تُنِيرُها، وَتَشِيعُ في جَوِّهَا رَائِحَةٌ ثَقِيلَةٌ تُبْعِثُ على الغَثَيَانِ. لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْهَمَ الْآنَ كَيْفَ عِشْتُ في هَذِهِ الثُّكْنَةِ عَشْرَةَ أَعْوامٍ كَامِلهْ.
وَكَانَ سَرِيرِي فِي الثُّكْنَةِ ثَلاثَةَ أَلْوَاحٍ مِنْ خَشَبٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَكَانُ لْوَحِيدُ الَّذي كُنْتُ أَسْتَطِيعُ التَّصَرُّفَ فِيهِ والتمتُّعَ بهِ. كَانَ يُحْشَرُ في كُلِّ غُرْفَةٍ أَكْثَرَ مِنْ ثلاثينَ رجلًا. وَفِي فَصْلِ الشِّتَاءِ كَانُوا يَحْبِسُونَنَا فِي سَاعةٍ مُبَكِّرَةٍ، فَكَانَ لا بُدَّ مِنِ انْتِظارِ أَرْبَعِ سَاعَاتٍ حتَّى يَنَامَ جَمِيعُ السُّجناءِ، أمَّا قبلَ ذلكَ فَصَخَبٌ كَبِيرٌ، وضَجَّةٌ شَدِيدَةٌ، وقَهْقَهَاتٌ وشَتائِمٌ، وصَلِيلُ سَلاسِلَ، وأَبْخِرَةٌ فاسِدَةٌ، ودُخانٌ كَثِيفٌ، وفَوْضَى، رُؤوسٌ مَحْلُوقَةٌ، وجِباهٌ مُتَغَضِّنَةٌ، وثِيَابٌ خَلِقَةٌ... وما إلى ذلكَ مِنْ أمورٍ تُثيرُ الاشْمِئْزازَ وتَبْعَثُ على التَّقَزُّزِ...
نعم، إنَّ الْإِنْسَانَ حَيَوانٌ طَويلُ العُمرِ! ويُمكِنُ أنْ نَعَرِّفَهُ بِقَوْلِنَا: "الإنسانُ كائِنٌ قادِرٌ على أنْ يَتَعَوَّدَ كُلَّ شيءٍ"، وَلَعَلَّ هذا خيرُ تعريفٍ يُمكِنُ أَنْ يُعَرَّفَ بِهِ الإنسانُ.