06/12/2025
قبل الخوض في تفاصيل هذا الحديث، لا بد أن أشير إلى أنني سأسلّط الضوء على ظاهرة لا تُرى بالعين المجرّدة، ولا يدرك حقيقتها إلا من عاش التجربة، واحتكّ عن قربٍ بهؤلاء الفاعلين الذين يحركون الخيوط من وراء الستار.
فالمدينة بريئة، ومؤهلاتها بريئة، وأهلها أكثر سموّاً مما يُشاع… المشكلة ليست في ورزازات، بل في فئة تريد لها أن تبقى راكدة، ساكنة، بلا مستقبل.
فئة تقتات من هذا السكون، وتعيش من هذا الاحتقان، ولا ترغب في أن ينهض المكان لأن نهوضه يعني نهايتهم...
«مَن أرادَ العُلا فليَهجُرِ القُرى،فإنَّ الحَسَدَ في الأريافِ مِيراثُ» – الإمام الشافعي--
ما إن يتأمل المرء مقولة الشافعي حتى يقفز إلى ذهنه سؤالٌ مرير يتردد في صدور أبناء ورزازات منذ سنوات:
هل أصبح الرحيل قدراً لكل من يبحث عن العُلا؟
هل صار الخروج من هذه المدينة الهادئة التي تخفي في دهاليزها ضجيجاً لا يُحتمل ضرورةً لمن يريد أن يعيش في بيئة لا تُحارب أبناءها ولا تقمع طموحاتهم؟
إن كثيراً من ساكنة، مقاولي و شباب ورزازات لم يغادروا رغبةً في الابتعاد، بل غادروا مكرهين، لأن المناخ العام تحوّل إلى فضاء خانق، تُحارب فيه الأفكار قبل أن تولد، ويُحاصر فيه النجاح قبل أن يكتمل، ويُستهدف فيه الإنسان فقط لأنه مختلف… أو لأنه يشبه نفسه.
لقد أصبحت المدينة بطيبتها وهدوئها ساحةً لصراعات صغيرة، تُدار بأيدي من يفترض فيهم أن يكونوا قدوةً في الحكمة والرشد. غير أن الواقع يكشف العكس: فالوضع العام بات سلبياً وخطيراً، يشهد تناحراً بين الناس، وتحريضاً خفيّاً، ومؤامرات تُحاك في الظل، والسبب دائماً نفس الفئة…
تلك التي تُغذّي الركود وتخشى الحركة، وتُطفئ الطاقات لأنها تخاف من الضوء، وتُحارب كل نهضة لأن نهضة المدينة تهدد وجودها.
وفي قلب هذا المشهد، برز أشباه المثقفين، الذين لا يملكون من الثقافة إلا صداها، ولا من الوعي إلا سطحه، ولا من الفكر إلا ما يكفي لتمويه الرأي العام.
أصواتهم عالية، لكنها أصوات كاذبة، تتدثر بثياب "النضال"، بينما لا تحمل من النضال إلا اسمه.
حوّلوا السياسة إلى حرفة رخيصة، وإدارة الشأن العام إلى ساحة معركة لا يواجه فيها مثقفٌ مثقفاً، بل يواجه فيها النقيّ والتقيّ جحافل الخبيث والماكر؛
معركة تُقمع فيها الحقيقة ويُرفع فيها الباطل، ويُذمّ فيها المستقيم ويُقدَّس فيها الملتوي.
هؤلاء لا يهاجمون الأفكار، بل أصحاب الأفكار؛
لا يناقشون المشاريع، بل يشوّهون القائمين عليها؛
لا يسعون إلى تطوير المدينة، بل إلى جرّها نحو مزيد من الضوضاء حتى يُخفوا خواءهم تحت غبار الصراخ.
وتحوّلت خطابتهم إلى أدوات مناورات، تُستخدم لابتزاز الامتيازات، ونسج التحالفات، وتضليل البسطاء، مستغلين جهل الأغلبية بحقوقها، وصمت الأقلية التي تعرف لكنها تختار الحكمة على الصدام.
وهكذا وجد أبناء ورزازات أنفسهم أمام مفارقة مؤلمة:
إما البقاء في مناخٍ يخنق الطموحات،
وإما الرحيل بحثاً عن فضاءٍ لا تُشنق فيه الآمال بحبال الحقد.
ومع ذلك، يبقى السؤال الحقيقي:
هل المشكلة في المدينة… أم في من أرادوا احتكارها و احتكار كل سياسااتها؟
في المكان… أم في الذين جعلوا من الحقد و السلبية مهنة، ومن العرقلة نهجاً، ومن التضييق برنامج عمل يومي؟
إن الحكمة التي كتبها الشافعي قبل قرون تعود اليوم لتدق جدار الصمت:
العُلا لا تنبت في أرضٍ يتوارث أهلها الحقد … والنهضة لا تولد في مناخٍ يُحارب أبناءه.
ومع ذلك، يبقى الأمل قائماً،
لأن المدن لا ينهضها المفسدون و المنافقون…
بل ينهضها الذين، رغم الألم، يصرّون على البقاء وزرع النور و
الحق في زمن التمويه.....
#يتبع
ايمان صابر