30/07/2025
في أحدِ أزقّةِ قُرطُبةَ أو مراكُشَ في القَرنِ الثّانيَ عَشَر، كانَ رَجُلٌ يَجلِسُ بينَ الكُتُبِ والمخطوطاتِ، يُراجِعُ، يُفَسِّرُ، ويُعَلِّقُ على أرسطو، الفيلسوفِ اليونانيِّ الذي كانَ قد نُسِيَ في الغَربِ، وأُعيدَ إحياؤُهُ في الشَّرقِ الإسلاميِّ.
هذا الرّجلُ هو ابنُ رُشدٍ، الفَقيهُ، الفيلسوفُ، الطَّبيبُ، القاضي، ورُبّما أحدُ أجرأِ المُفكِّرينَ في التّاريخِ الإسلاميِّ.
لكن... لِماذا نَربِطُهُ دائمًا باسمِ الغَزاليِّ؟ ما الذي دارَ بينَ هذَينِ العَقلَين؟ وهل كانَ الخِلافُ بينهُما حَقًّا صِراعًا بينَ العَقلِ والدِّين؟ أَم أنَّ الصّورةَ أكثرُ تَعقيدًا مِمّا نَظُنُّ؟
في هذا الوثائقيِّ، سنغوصُ معًا في رِحلةٍ فكريّةٍ مُثيرة، نَسألُ ونُجيبُ، نَنتقِدُ ونَفهَم، في مُحاوَلةٍ لفَهمِ أحدِ أعظمِ الجَدَلِ الفَلسفيِّ في تاريخِ الإسلامِ.
---
الفَصلُ الأوّل: مَن هو الغَزاليُّ؟ ومَن هو ابنُ رُشدٍ؟
لِنبدأ مِنَ البِدايةِ...
الغَزاليُّ، المُتوفّى سنةَ ١١١١م، هو أحدُ أعلامِ الفِكرِ الإسلاميِّ، فَقيهٌ، مُتصوّفٌ، ومُنَظِّرٌ نَقديٌّ عَميقٌ. كِتابُهُ الشّهيرُ "تَهافُتُ الفَلاسفةِ" كانَ بمثابةِ زِلزالٍ في أوساطِ الفِكرِ العقليِّ.
في هذا الكتابِ، اتَّهَمَ الغَزاليُّ الفلاسفةَ — وعلى رأسِهِم الفارابيُّ وابنُ سينا — بالكُفرِ في ثلاثِ مَسائلَ:
1. قِدَمُ العالَمِ.
2. عِلمُ اللهِ بالجُزئيّاتِ.
3. إنكارُ البَعثِ الجَسديِّ.
لكنَّ الغَزاليَّ لم يُهاجِم كلَّ الفَلسفةِ، بلِ اعتَرَفَ بجَدواها في المَنطقِ والرّياضيّاتِ وحتّى الأخلاقِ. هُجومُهُ كانَ على الفَلسفةِ الميتافيزيقيّةِ، أي ما يتعلَّقُ بالعقائدِ، والغَيبِ، واللّاهوتِ.
أمّا ابنُ رُشدٍ، المَولودُ بعدَ وفاةِ الغَزاليِّ بنحوِ خَمسَ عَشرةَ سنةً، فقد عاشَ في الأندلسِ، في بيئةٍ مُختَلِفَةٍ تمامًا. كانَ قاضيًا وفقيهًا مالكيًّا، لكنَّهُ كانَ أيضًا مُترجِمًا ومُعَلِّقًا على أعمالِ أرسطو، وخَصمًا شَرسًا لفِكرةِ أنَّ الفَلسفةَ تُعارِضُ الدِّينَ.
كِتابُهُ الأشهَرُ: "تَهافُتُ التَّهافُتِ"، هو رَدٌّ مُباشرٌ على الغَزاليِّ.
---
الفَصلُ الثّاني: هل الفَلسفةُ خَطرٌ على الدِّينِ؟
سُؤالٌ: هل كانَ الغَزاليُّ حَقًّا عَدوًّا للفَلسفةِ؟
الغَزاليُّ لم يَكُن رَجعيًّا أو ضدَّ العَقلِ. بل كانَ يرى أنَّ الفَلسفةَ مَنطقيّةٌ ونافعةٌ، لكنَّها تُصبِحُ خَطرةً عندما تَتجاوَزُ حُدودَ العَقلِ وتَتحدَّثُ عن الإلهيّاتِ، حيثُ الوَحيُ هو المَصدرُ الأعلى.
في المُقابلِ، ابنُ رُشدٍ يرى أنَّ الوَحيَ لا يُناقِضُ العَقلَ، بل يَدعو إليهِ. يَقولُ:
> "إنَّهُ إذا كانَ الوحيُ حَقًّا، وكانَ العَقلُ حَقًّا، فلا يُمكِنُ أن يَتعارَضا."
وهُنا يَظهَرُ الفارقُ الجوهريُّ:
الغَزاليُّ يَنطَلِقُ منَ الشَّكِّ، مِنَ التَّساؤلِ عن صَلاحيّةِ العَقلِ لمَعرِفةِ الإلهِ.
ابنُ رُشدٍ يَنطَلِقُ منَ الثِّقةِ بالعَقلِ، ويرى أنَّهُ وسيلةٌ لفَهمِ الدِّينِ ذاتِهِ.
---
الفَصلُ الثّالث: ثلاثُ مَسائلَ... ثلاثُ مَعَاركَ
دَعونا نُلقي نظرةً على النّقاطِ الثّلاثِ التي اتَّهمَ فيها الغَزاليُّ الفَلاسفةَ بالكُفرِ:
١. قِدَمُ العالَمِ
الغَزاليُّ يرى أنَّ العالَمَ مَخلوقٌ في الزَّمَنِ.
ابنُ رُشدٍ، مُتأثِّرًا بأرسطو، يقولُ: العالَمُ قديمٌ، لكن ليسَ بالضَّرورةِ مُساويًا للهِ في الوُجودِ، بل هو تابِعٌ لهُ أزليًّا.
ابنُ رُشدٍ يَطرحُ سُؤالًا فلسفيًّا:
> هل يُمكِنُ أن يَكونَ اللهُ فاعلًا بلا بِدايةٍ، ومعَ ذلكَ لم يَخلُق شيئًا حتّى وقتٍ مُعيّنٍ؟
عندَهُ، هذا لا يَستقيمُ مَنطقيًّا.
٢. عِلمُ اللهِ بالجُزئيّاتِ
الغَزاليُّ يُؤمِنُ أنَّ اللهَ يَعلَمُ كلَّ شيءٍ، صغيرًا كانَ أو كبيرًا، بتَفصيلٍ دَقيقٍ.
ابنُ رُشدٍ يُوافِقُ، لكنَّهُ يَشرحُ أنَّ عِلمَ اللهِ يَختلِفُ عن عِلمِ الإنسانِ.
اللهُ يَعلَمُ الكُلَّ لا كجُزءٍ بعدَ جُزءٍ، بل بعِلمٍ كُلِّيٍّ شامِلٍ.
فَلِماذا نَحصُرُ عِلمَ اللهِ في إطارِ إدراكِنا البَشريِّ؟
٣. البَعثُ الجَسديُّ
الغَزاليُّ يَقولُ: مَن أَنكرَ البَعثَ الجَسديَّ فقد كَفَرَ.
ابنُ رُشدٍ لا يُنكِرُ البَعثَ، لكنَّهُ يرى أنَّ هناكَ تَأويلًا فلسفيًّا مُمكِنًا.
الخِطابُ الدِّينيُّ يَتحدّثُ بلُغةٍ تُخاطِبُ العامّةَ، أمّا الفَلاسفةُ، فلهم طَريقتُهم الخاصّةُ في الفَهمِ.
---
الفَصلُ الرّابع: هل كانَ ابنُ رُشدٍ يَخُونُ الإسلامَ؟
هذا سُؤالٌ خَطيرٌ، لكنَّهُ طُرِحَ كثيرًا.
ابنُ رُشدٍ لم يَكُن مُلحِدًا، ولم يَكُن مِن أعداءِ الدِّينِ. بل كانَ قاضيًا مُلتَزِمًا، يَحفَظُ القُرآنَ، ويُصَلِّي. لكنَّهُ يرى أنَّ هناكَ طَبقاتٍ في الفَهمِ:
العامّةُ يَفهَمونَ الدِّينَ من خِلالِ القِصصِ والرُّموزِ.
الخاصّةُ يَبحثونَ عن الحَقيقةِ خلفَ النُّصوصِ.
الفَلاسفةُ، هُم الذينَ يَملِكونَ الأدواتِ للوُصولِ إلى هذهِ الحَقيقةِ.
في هذا التَّصوُّرِ، لم يَكُن الدِّينُ ضدَّ الفَلسفةِ، بل حاضِنًا لها.
---
الفَصلُ الخامس: إرثُ النِّزاعِ
هلِ انتصَرَ الغَزاليُّ؟ أَم ابنُ رُشدٍ؟
في العالَمِ الإسلاميِّ، يَبدو أنَّ كَفّةَ الغَزاليِّ رَجَحَت. أُحرِقَت كُتبُ ابنِ رُشدٍ، نُفِيَ، وتراجَعَ الفِكرُ الفَلسفيُّ.
لكن في الغَربِ، كانت تَراجِمُ ابنِ رُشدٍ إلى اللاتينيّةِ بمثابةِ شَرارةِ النَّهضةِ الأوروبيّةِ. أطلقوا عليهِ Averroes، وكانَ يُقرَأُ في الجّامعاتِ إلى جانبِ أرسطو.
سُؤالٌ يَطرَحُ نَفسَهُ:
> لِماذا ازدهَرَتِ الفَلسفةُ في الغَربِ انطِلاقًا مِن ابنِ رُشدٍ، بينما انكَمَشَت في الشَّرقِ تحتَ تأثيرِ الغَزاليِّ؟
رُبّما لأنَّ السِّياقَ الثقافيَّ والسِّياسيَّ كانَ مُختَلِفًا.
ورُبّما لأنَّ المُجتمعاتِ التي لا تَحتَمِلُ تَعدُّدَ التَّأويلاتِ، تَخشى مِنَ العَقلِ.
---
الخِتامُ: هل يُمكِنُ التَّوفيقُ بينَ الدِّينِ والعَقلِ اليومَ؟
ابنُ رُشدٍ والغَزاليُّ ليسا خَصمَينِ في مَعركةِ كُفرٍ وإيمانٍ. إنَّهُما مُفكِّرانِ يُحاولانِ الإجابةَ عن سُؤالٍ أبَديٍّ:
> ما حُدودُ العَقلِ؟ وما حُدودُ الإيمانِ؟
هل يَجِبُ أن نَختارَ أحدَهُما؟ أَم يُمكِنُ أن يَلتَقِيا؟
في زَمنِنا اليومَ، حيثُ يُعادُ طَرحُ الأسئلةِ نَفسِها في سِياقاتٍ جديدةٍ — من الذّكاءِ الاصطناعيِّ إلى الدِّينِ والسِّياسةِ — لا تَزالُ كلماتُ هذَينِ المُفكِّرَينِ حيّةً، تُلهِمُ، وتُقلِقُ، وتَدفعُنا نحوَ التَّفكيرِ الأعمقِ.
فأيُّهُما تَميلُ إليهِ؟
هل أنتَ من أَنصارِ الشَّكِّ والحُدودِ؟ أَم من أَنصارِ الثِّقةِ بالعَقلِ وإمكاناتِه؟
رُبّما... لا نَحتاجُ إلى الاختيارِ.
رُبّما... نَحتاجُ إلى الاستماعِ إلى كِلَيهِما.