09/09/2025
تتزايد مطالب السائقين المهنيين، سواء الممارسين أو غير الممارسين بإلغاء البطاقة المهنية في مشهد يشبه إلى حد ما جلد الذات ويعيد إلى الأذهان الجدل الذي صاحب إقرارها.
أتفهم ذلك، السبب الأول يرجع أساسًا إلى سوء فهم الهدف الحقيقي للبطاقة، ثم الخلط الواقع بين التأهيل المهني والامتيازات الاجتماعية التي لم تتحقق، بالإضافة إلى عبء الأقساط المترتبة عن التأمين الإجباري على المرض، الذي يشعر بعض السائقين أنه يثقل كاهلهم دون فوائد ملموسة.
للأمانة، البطاقة المهنية جوهرها أداة للتنظيم المهنة ورفع كفاءة السائقين، من خلال ضمان أن حاملها تلقى تكوينًا يؤهله لقيادة الشاحنات باحترافية، مع مراعاة السلامة والمردودية، أداة لضبط القطاع، وحماية السائق نفسه من نفسه و من المجتمع، للإضفاء صفة الشرعية والمهنية على مزاولة السياقة.
والحقيقة أن الإلغاء لا يمكن أن يكون حلاً للمشاكل التي يعيشها السائقون، لأن البطاقة في الأصل ليست عبئًا، بل وسيلة تنظيمية ضرورية.
غير أن هذا البعد الذي لم يُستوعب كما ينبغي سواء من طرف السائقين أو حتى من الممثلين المهنيين، وهو ما برز بشكل أوضح في الآونة الأخيرة، خصوصًا مع النواقص الكثيرة التي تشوب تطبيقها على أرض الواقع.
ما دفعني للعودة إلى هذا الموضوع، بعد تفكير طويل و طويل إمتد للأسبوع و أكثر، هو أنني شاهدت بلاغيين من هيئتين ممثلتين، يُفترض فيهما أن تكونا صوت السائقين والمدافعتين عن مهنيتهم، انخرطتا بدورهما في المطالبة بإلغاء البطاقة ضاربتبن عرض الحائط مجهوداتهما الكبيرة في الدفاع عن قضايا السائقين.
وهذا ما أعتبره شخصيا منزلق خطير: أن تتحول الهيئات الممثلة للسائقين إلى واجهة تُشرعن التراجع إلى الوراء، بدل الدفع نحو الإصلاح العميق وربط البطاقة بمسار تكوين حقيقي وشروط مهنية واضحة! طالبتا بإعدامها يعني القبول الضمني بالعودة إلى العشوائية والتسيّب!؟
و أنا أرى – بعين تجربتي المتواضعة – أنّ الخطأ الجوهري لا يكمن في البطاقة ذاتها، بل في ذلك الانفعال الذي وُجِّه نحوها، بدل أن يُصوَّب إلى السياسات المرتبكة التي أفقدتها معناها وشوّهت دورها، حتى غدت في نظر كثيرين عبئًا بدل أن تكون دعامة.
الهجوم على البطاقة المهنية ليس مجرد نقد لأوراق أو أختام، بل هو هجوم مباشر على أداة تنظيم المهنة وضمان كفاءة السائقين.
المشكل الحقيقي يكمن في من يضع القوانين أو يطبقها بشكل منحرف حيث يدفع السائق ثمن أخطاء الآخرين. إنها نفس المفارقة التي تختصرها هذه الصورة: شخص يتعرض لحادث بسبب حفرة في الطريق، وبدل أن يطالب بمحاسبة المسؤولين، يثور على سيارته ويحطمها بيديه.
في حالة البطاقة المهنية، بدل أن يُوجَّه الغضب نحو السياسات التي حولتها لعبء مالي، جرى استهداف البطاقة نفسها، والسبب المباشر لهذا الانحراف هو ربط البطاقة المهنية بالرسوم الشهرية للتغطية الصحية الإجبارية.
فالفكرة الأصلية: البطاقة المهنية وثيقة أهلية، دورها التأكد من أن السائق مهني مؤهل لمزاولة سياقة الشاحنة بكل إحترافية و سلامة و مردودية.
والواقع، أنّه منذ لحظة ربط البطاقة المهنية بإلزامية أداء رسوم التغطية الصحية الإجبارية، انقلب ميزان المعنى: لم تعد تُرى كشرطٍ لممارسة المهنة، بل كفاتورة شهرية أثقلت الكاهل. وهكذا انتقل النقاش من سؤال الكفاءة والتأهيل إلى سؤال المال والتكاليف، فتآكلت قيمتها الرمزية باعتبارها مكسبًا مهنيًا، وتشابكت الأوراق، حتى صار الهجوم عليها في جوهره هجومًا على فكرة التكوين نفسها.
أي أن ربط البطاقة المهنية بالرسوم الشهرية خطأ استراتيجي نقل الصراع من المجال المهني (تطوير المهنة) إلى المجال المعيشي (القدرة على الدفع). وهكذا تحولت البطاقة من أداة تنظيم إلى عبء ثقيل على عاتق السائقين.
أتفهّم كذلك أن الهيئتين تدركان أن الحقوق تُنتزع بالنضال من أجلها، وهما تقومان بذلك عمليًا من خلال خطابين يُعدّان شكلًا من أشكال المناصرة والضغط.
غير أنه يجب التأكيد على أن أي مطالب اجتماعية ينبغي أن تُؤطَّر ضمن مقتضيات مدوّنة الشغل أو أنظمة الضمان الاجتماعي، لا عبر البطاقة المهنية نفسها.
فإذا أراد السائقون تحسين أوضاعهم الاجتماعية، فإن الطريق الصحيح هو النضال القانوني والسياسي، لا مهاجمة البطاقة المهنية أو الخلط بين التأهيل المهني والامتيازات الاجتماعية. من الناحية القانونية البحتة، مدونة السير لا تمنح أي حقوق اجتماعية عبر البطاقة.
فهي وُجدت أساسًا لرفع مستوى المهنة وحمايتها. لكن الفشل في ترجمة هذا الهدف على أرض الواقع خلق التناقض الذي تستند إليه الهيئتان في احتجاجهما، أو ربما مستشهدتين بالوعد الضمني الذي قطعه المشرع عند إقرار البطاقة بشأن امتيازات اجتماعية على شكل شباابيك إجتماعية لم تُنفذ.
و لنا عودة في نوستالجيا الشبابيك الإجتماعية في منشور قادم، تصبحون على خير .
#منقول