رحلة إلى عالم الحكايات

رحلة إلى عالم الحكايات قصص جميلة ورائعة مكتوبة و مسموعة
(3)

‏ #الهلكوت‏‏________________( الحلقة 8 )_____________‏    ‏بابلُ، وأيُّ شيءٍ في ذلك الزمانِ مثلُ بابلَ! مرَّتِ العينُ عل...
30/10/2025

‏ #الهلكوت

‏________________( الحلقة 8 )_____________

‏بابلُ، وأيُّ شيءٍ في ذلك الزمانِ مثلُ بابلَ! مرَّتِ العينُ عليها ببطءٍ كأنَّها الشهابُ السائرُ في سماءِ الغروبِ، حتى تنظرَ إلى كلِّ شيءٍ بدقَّةٍ، فهذه المدينةُ كانت أغربَ شيءٍ بناه البشرُ في تاريخِهم حتى هذه اللحظةِ.

‏فمن وسطِها يبرزُ برجٌ شاهقٌ لولبيٌّ، لا تقدرُ أن ترى قمَّتَه لأنَّها تُلامسُ السحبَ المتكوِّمةَ حولَه، "برجُ بابلَ" الذي كتبَ عنه المؤرِّخون وأصحابُ الأساطيرِ كثيرًا من الكلماتِ، واعتبروه عجيبةً من عجائبِ الدنيا، لكنَّ كلَّ كلامِهم لم يصفْهُ الوصفَ الحقَّ، فمنظرُه له رهبةٌ يستحيلُ أن تنقلَها الكلماتُ.

‏يكفي أن تعلمَ أنَّ البرجَ هو في الحقيقةِ ثمانيةُ أبراجٍ داخلَ بعضِها بعضًا، ومن يقتربْ منه يُصبْهُ المسُّ في الحالِ كأنَّ هناك شياطينَ تحومُ حولَه تحرسُه أو تستعملُه لغرضٍ ما.

‏بجوارِه عجيبةٌ ثانيةٌ من عجائبِ الدنيا، لم يعرفوا ماذا يُسمُّونها، فأطلقوا عليها "حدائقُ بابلَ المعلَّقةَ"، وهي تبدو للوهلةِ الأولى كأنَّها قاعدةُ هرمٍ مدرَّجٍ بيضاءُ يسيلُ من كلِّ درجةٍ منها شلَّالٌ يُسقي الدرجةَ التي تحتَه، وفي كلِّ درجةٍ أنواعٌ من الأشجارِ لها ألوانٌ ليست في الدرجةِ الأخرى.

‏لكنَّ أعجوبةَ "بابلَ" الحقيقيَّةَ كانت في تحصيناتها المستحيلةِ التي لم يفهمْها المؤرِّخون بشكلٍ كاملٍ حتى هذه اللحظةِ، فمن المفترضِ أنَّ نهرَ "بابلَ" منذُ قديمِ الزمانِ يدخلُ هذه المدينةَ من شمالِها ويجري بداخلِها ثم يخرجُ من الجنوبِ، لكن عندما تولَّت "إيما" رئاسةَ الجيشِ بلغ من جنونِها وحسِّها الأمنيِّ المبالغِ فيه أن تُغيِّرَ الخريطةَ الطبيعيَّةَ تمامًا لأرضِ "بابلَ"، فحفرت نهرًا عريضًا يُحيطُ بالمدينةِ في دائرةٍ كاملةٍ، وهذا النهرُ الدائريُّ يلتقي مع نهرِ "بابلَ" في مدخلِ المدينةِ بالشمالِ ومخرجِها بالجنوبِ، فأصبحت "بابلُ" مثل الجزيرةِ التي في وسطِها نهرٌ، فلا يمكنك أن تقتربَ منها إلَّا بقاربٍ أو سفينةٍ، ولا يمكنك أن تدخلَ إليها بالسفينةِ إلَّا عبرَ النهرِ من بوَّابةِ الجنوبِ أو الشمالِ، وهما بوَّابتانِ مُصفَّحتانِ بالحديدِ والصُّلبِ، ولقد حظرت "إيما" الدخولَ أو الخروجَ من المدينةِ تمامًا حتى تنتهي الحربُ على "سايروس".

‏وحتى النهرَ الداخلَ إلى المدينةِ لم تتركْه "إيما" في حالِه، بل حوَّلت مجراه الطبيعيَّ إلى مجرى متعرِّجٍ بشكلٍ مستفِزٍّ حتى إنَّه يمرُّ على الحيِّ الواحدِ ثلاثَ مرَّاتٍ حتى يُصابَ الداخلُ إلى المدينةِ بالإرهاقِ، ويكونَ مُجبَرًا على السيرِ بسفينتِه في النهرِ في طريقٍ متعرِّجٍ هي التي رسمتْه.

‏ولم تكتفِ "إيما" بهذا القدرِ، بل فعلت ما هو أشدُّ، نصبت طواحينَ أفقيَّةً عملاقةً تحت الماءِ، كلُّ طاحونةٍ يجرُّها أكثرُ من مئةِ ثورٍ يتبدَّلون ليلًا ونهارًا بانتظامٍ في غرفةٍ مخبوءةٍ تحت النهرِ، وهذه الطواحينُ تصنع تيارًا عنيفًا طاردًا من المدينةِ، فالسفينةُ التي تحاولُ الاقترابَ تجدُ نفسَها غيرَ قادرةٍ على التحرُّكِ قيدَ أنملةٍ لأنَّ هناك تيارًا عنيفًا في النهرِ يُبعِدُها، سواءٌ دخلتِ النهرَ من الشمالِ أو الجنوبِ أو حتى اقتربتْ من الأسوارِ عبرَ النهرِ الدائريِّ، وهذا التيارُ يتوقَّفُ عند دخولِ السفنِ التجاريَّةِ فقط بإذنٍ شفهيٍّ من "إيما" للقائمينَ على الطواحينِ، وفورَ أن علمت "إيما" أنَّ "سايروس" يقتربُ منعتِ السفنَ التجاريَّةَ تمامًا من الدخولِ إلى المدينةِ إلى أجلٍ غيرِ مسمَّى.

‏كثيرٌ من الأهالي لا يؤمنون بوجودِ هذه الطواحينِ أصلًا، ويقولون إنَّ هذا التيارَ الشديدَ يصنعُه سحرةُ "بابلَ" الذين يقدرون على كلِّ شيءٍ، ولا يدري أحدٌ حتى هذا اليومِ ما هي الحقيقةُ.

‏حتى السورُ الذي يُحيطُ بالمدينةِ من كلِّ جهاتِها هو سورٌ أزرقُ مُدرَّعٌ ضخمٌ، بداخله سورٌ مُدرَّعٌ آخرُ يُماثلُه في الحجمِ، وبين السورينِ جسرٌ علويٌّ واسعٌ كأنَّه شارعٌ فيه بيوتٌ صغيرةٌ على جانبيهِ، يسكنُ فيها الحرسُ، كلَّما انتهت نوبةُ مجموعةٍ منهم يدخلون البيوتَ ليخرجَ زملاؤُهم في اللحظةِ نفسِها، في نوباتٍ تتغيَّرُ كلَّ يومٍ.

‏ووسطَ "حدائقِ بابلَ المعلَّقةِ" كانت "إيما" تجلسُ بداخلِ خيمةٍ شفَّافةٍ، وحولَها جنودُها يأتون ويذهبون إليها ليتلقَّوا التعليماتِ التي تتغيَّرُ كلَّ يومٍ حتى لا تتركَ فرصةً واحدةً للخيانةِ، لأنَّها تعلمُ أنَّ أكبرَ جدارٍ حصينٍ في الدنيا يمكنُ أن يُسقطَه خائنٌ.

‏ ***

‏خارجَ أسوارِ "بابلَ" التي لا تُقهَرُ كان "سايروس" قد حضرَ، وخلفَه جيشٌ بالغُ الضخامةِ، ويبدو واضحًا تمامَ الوضوحِ أنَّ "سايروس" كان يعلمُ دفاعاتَ "بابلَ" قبل حضورِه، فالجنودُ البابليُّون الأسرى الذين كانوا مع "إيما" في الشرفةِ أخبروه بكلِّ شيءٍ، لذلك لم يأتِ خاليًا، بل جاء بأسطولٍ ضخمٍ من السفنِ أوقفَهم جميعًا في النهرِ بعيدًا عن "بابلَ" حتى لا يسحبَهم التيارُ الصناعيُّ.

‏وقفَ "سايروس" على ضفَّةِ النهرِ يُعاينُ المكانَ بنفسِه، وأفكارُه تتقاذفُه يمينًا وشمالًا، هناك تيارٌ قويٌّ حقًّا يجعلُ النهرَ هائجًا كأنَّه بحرٌ متلاطمُ الأمواجِ، وهذا يعني أنَّ بوَّابةَ "بابلَ" الضخمةَ فوقَ النهرِ يستحيلُ أن يكونَ قاعُها واصلًا إلى أرضيَّةِ النهرِ، وإلَّا كانتِ البوَّابةُ ستُوقِفُ هذا التيارَ، فغالبًا هي مجرَّدُ بوَّابةٍ فوقَ النهرِ، أمَّا أسفلُها فهو مفتوحٌ حتمًا.

‏الطريقةُ الوحيدةُ التي يمكنُ التسلُّلُ بها إلى داخلِ المدينةِ هي من تحتِ الماءِ، وهو أمرٌ غايةٌ في الجنونِ، فأيُّ جنديٍّ هذا الذي سيغطسُ كلَّ هذه المسافةِ مُقاومًا للتيارِ العنيفِ ثم يتجاوزُ البوَّابةَ؟ لا بُدَّ أن يكونَ صاحبَ قوَّةٍ جسديَّةٍ بالغةٍ ولديه مهارةٌ في الغطسِ، حيث سيدخلُ متسلِّلًا في ظلمةِ الليلِ بحذرٍ شديدٍ ويرتدي ملابسَ سوداءَ، وينبغي أن يكونَ ذكيًّا بارعًا لأنَّه سيدخلُ ويبحثُ عن سرِّ هذه الطواحينِ ويعرفُ طريقةَ إيقافِها، وهو شيءٌ سِرِّيٌّ، حتى إنَّ الجنودَ الذين أسرَهم لا يعلمون شيئًا عنها ويؤمنون كما يؤمنُ العامَّةُ أنَّ هذا من صُنعِ السحرةِ.

‏ولا ينفعُ أن يكونَ متسلِّلًا واحدًا، بل عدَّةُ متسلِّلينَ، كلُّهم لديهم الأوصافُ نفسُها، يدخلون في الخفاءِ ويبحثون عن أيِّ وسيلةٍ تُوقِفُ هذا التيارَ حتى يمكنَ للسفنِ أن تقتربَ فقط من هذه الأسوارِ.

‏نظرَ "سايروس" إلى "آرتي" مليًّا، ثم قال له:

‏_ أحتاجُ إلى رجلٍ قويِّ البنيةِ شديدِ البراعةِ غواصٍ، ينزلُ إلى هذا النهرِ ويسبحُ مُقاومًا التيارَ حتى يصلَ إلى البوَّابةِ ويتأكَّدَ أنَّها مفتوحةٌ من أسفلِها.

‏قال "آرتي" دون أن ينظرَ إليه:

‏_ لا تنظرْ إليَّ هكذا، فأنا والماءُ لسنا على وفاقٍ.

‏نظرَ إليه "سايروس" بتعجُّبٍ، لقد تخيَّلَ لبرهةٍ أنَّ "آرتي" هذا لا يُعجِزُه شيءٌ، لكن تبيَّنَ أنَّ نقطةَ ضعفِه هي الماءُ، فقال له:

‏_ لا بأس، ائتِني بغوَّاصٍ قويٍّ، ربَّما من صائدي اللؤلؤِ.

‏ولم تَغِبِ الشمسُ إلَّا وجاء "آرتي" برجلٍ ضخمِ الجثةِ، غواصٍ قديمٍ لا يُشقُّ له غبارٌ، كانت مهمَّتُه فقط أن يصلَ إلى البوَّابةِ ويكتشفَ أسفلَها ثم يعودَ. وقد نزلَ الرجلُ بلا تردُّدٍ وسبحَ بقوَّةٍ تحتَ الماءِ رغمَ التيارِ، وبقي "سايروس" و"آرتي" والرجالُ ينظرون إلى سطحِ الماءِ بانتظارِ خروجِه. مرَّ وقتٌ لا بأسَ به، ثم خرجَ لهم الغوَّاصُ من عندِ البوَّابةِ وهو يرفعُ يدَه مشيرًا أنَّ أسفلَها مفتوحٌ تمامًا.

‏وفجأةً صرخَ هذا الغوَّاصُ نصفَ صرخةٍ لم تكتملْ، إذِ انسحبَ فجأةً إلى داخلِ النهرِ بقوَّةٍ رهيبةٍ، وأصبحَ الماءُ يدورُ بعنفٍ حتى ظهرَ لونٌ أحمرُ رآه الجميعُ رغمَ ضعفِ النورِ في وقتِ الغروبِ، ووقعت قلوبُ الناظرينَ وهم يلمحونَ زعنفةً مثلَّثةً تبرزُ من الماءِ وتسبحُ بسرعةٍ، ولم تَمضِ لحظاتٌ حتى أتت زعانفُ أخرى كلُّها مثلَّثةٌ تجمَّعت على رائحةِ الدماءِ.

‏وفتحَ الجميعُ عيونَهم في ذهولٍ، لقد لعبتْها "إيما" بمهارةٍ، وحصَّنتْ مدينتَها تحصينًا علويًّا وسفليًّا لم يخطرْ على بالِ إنسانٍ، فقد ملأتِ النهرَ بقروشِ الكوسجِ المفترسةِ التي لا ترحمُ، والتي تعيشُ حصرًا في المياهِ العذبةِ.


‏ ***

‏لم يَرَ أحدٌ "سايروس" غاضبًا كمثلِ غضبِه في ذلك اليومِ، ففي العادةِ يكونُ هادئًا باسِمًا واثقًا، لكنَّها نيرانُ الانتقامِ التي أوغرتْ في صدرِه ممَّا فعلَه البابليُّون بأمِّه "ليزا"، وهذه التدابيرُ الأمنيَّةُ التي عملتْها "إيما" حولَ "بابلَ" ستُؤخِّرُه كثيرًا عن الانتقامِ، فتلك اللعينةُ احتاطتْ لكلِّ شيءٍ. المشكلةُ أنَّ الجنودَ البابليِّينَ الذين أسرَهم أخبروه أنَّها خزَّنتْ أكوامًا من المؤنِ تكفي "بابلَ" هذه عشرينَ سنةً، حتى إن أرادَ أحدٌ أن يُحاصِرَها يموتَ هو قبلَ أن تموتَ "بابلُ".

‏وتحوَّلت نيرانُ الغضبِ في نفسِ "ذي القرنين" إلى طاقةٍ دافعةٍ زادت من بصيرتِه أضعافًا، وكما عملت "إيما" تدابيرَ، عملَ "ذو القرنين" تدابيرَ لفكِّ تلك التدابيرِ، فلم ينتهِ ذلك اليومُ إلَّا وقد قسَّم جيشَه إلى فِرَقٍ صغيرةٍ، كلُّ فرقةٍ فيها ألفُ رجلٍ، مئةٌ يحرسون وتسعمئةٌ يشتغلون، وأطلقَهم لتنفيذِ آخرِ شيءٍ يمكنُ أن يتوقَّعَه أحدٌ.

‏ففي جنوبِ "بابلَ"، عند الجهةِ التي يخرجُ منها النهرُ، أمرَ رجالَه أن يحفروا على كلِّ جانبٍ من جانبي النهرِ قنواتٍ كثيرةً كأنَّها فروعٌ للنهرِ، كلُّ قناةٍ تخرجُ من النهرِ وتسيرُ قليلًا ثم ترجعُ إلى النهرِ مرَّةً أخرى، ولم يحفروا مدَّةَ شهرٍ أو شهرينِ، بل ظلُّوا يحفرون سبعةَ أشهرٍ كاملةً حتى صنعوا ثلاثمئةٍ وستينَ قناةً متفرِّعةً من مسارِ النهرِ.

‏ولقد عملتْ هذه القنواتُ مفعولَ السحرِ، حيث خفَّفت من سرعةِ التيارِ يومًا بعدَ يومٍ حتى أوقفَته تمامًا، ولم يَعُدِ النهرُ يجري، وعلى الفورِ صعد جيشُ "ذي القرنين" على السفنِ الحربيَّةِ، وانطلقوا هاجمين على أسوارِ "بابلَ" كالكارثةِ، ووصلت أوَّلُ سفينةٍ إلى بوَّابةِ المدينةِ الحديديَّةِ والتصقت بها، وبَرَزَ من السفينةِ أكثرُ من مئةِ حدَّادٍ، بعضُهم يُسلِّط النارَ الحارقةَ على البوَّابةِ، وبعضُهم يضربُها بقوَّةٍ، واستبسل البابليُّون فوقَ الأسوارِ في إطلاقِ السهامِ ليمنعوا السفنَ من الاقترابِ، لكنَّهم وجدوا وابلًا مضاعفًا من السهامِ ينطلقُ في وجوهِهم من جميعِ السفنِ، وكانت معركةً ملحميَّةً انهارت بعدها بوَّابةُ "بابلَ" الحديديَّةُ التي لا تُقهَرُ، ودخلت سفنُ "ذي القرنين" متتابعةً لتَدُكَّ المدينةَ دكًّا.

‏دخلت السفنُ متتابعةً وتجاوزت السورَ الأوَّلَ، فوجدوا السورَ الثاني بعدَه مباشرةً، لكنَّ بوَّابتَه كانت مفتوحةً، ممَّا أثارَ ريبةَ "سايروس"، لكنَّه تجاهلَ هذا ودخلت السفنُ إلى "بابلَ" مدينةِ الأساطيرِ، ولم يكن مدخلُها ممتعًا للنظرِ كما هو متوقَّعٌ، بل إنَّ "إيما" جعلت الداخلَ إليها يشعرُ بالانقباضِ والرغبةِ في الرحيلِ، ففورَ أن تمرَّ من السورِ الثاني لن تجدَ أيَّ رصيفٍ على أيِّ ضفَّةٍ من جانبي النهرِ، بل ستجدُ سورًا عاليًا يبرُزُ من كلِّ ضفَّةٍ من الضفَّتينِ حولَك، حتى ستظنَّ أنَّك تمشي في النهرِ وسطَ بنائينِ عاليينِ.

‏المشكلةُ أنَّ الجنودَ البابليِّينَ الذين أسرَهم لم يُخبروه شيئًا عن هذا، بل أخفَوهُ عمدًا، اكتفَوا فقط بإخباره بكلِّ التجهيزاتِ الأمنيَّةِ الخارجيَّةِ، وكان هذا خطرًا جدًّا ونذيرَ شؤمٍ بالغًا، وقد عرفَ "سايروس" خطورتَه عندما وجدتِ السفنُ أمامَها سورًا ثالثًا لا يعرفون عنه شيئًا، له بوَّابةٌ حديديَّةٌ مغلقةٌ تُماثلُ البوَّابةَ التي في السورِ الأوَّلِ.

‏وقبلَ أن يفكِّرَ "سايروس" في معنى هذا، أُغلِقَت بوَّابةُ السورِ الثاني من ورائِهم بعد أن دخلت آخرُ سفينةٍ، فأصبحت سفنُ "ذي القرنين" محبوسةً بين بوَّابتينِ مغلقتينِ، وعن يمينِهم وشمالِهم سورٌ عالٍ، وللمرَّةِ الأولى سقطَ قلبُ "سايروس" أسفلَ قدمَيه، فهذا كلُّه يعني أنَّ هناك فخًّا مُحكَمًا ستظهرُ معالمُه في الحالِ، وقد كان على حقٍّ.

‏ففي اللحظةِ التاليةِ تبيَّنَ له أنَّ هذا السورَ الذي يُحيطُ بهم عن اليمينِ والشمالِ فيه فتحاتٌ دقيقةٌ لا تُبشِّرُ بخيرٍ أبدًا، وفي حركةٍ واحدةٍ لم يتوقَّعْها أحدٌ خرجت من كلِّ هذه الفتحاتِ سهامٌ ناريَّةٌ متتابعةٌ في الهواءِ كأنَّها أمطارُ الجحيمِ، سهامٌ هبطت على السفنِ المحبوسةِ كلِّها لتحرقَها بلا رحمةٍ، لم يكنْ هذا مجرَّدَ فخٍّ بل كان هو الهلاكَ ذاتَه، فالجنودُ لو تركوا سفنَهم التي تحترقُ وقفزوا في النهرِ لتلقَّفَتْهم قروشُ الكوسجِ ومزَّقتْهم إربًا، ولا شيءَ يُهيِّجُ القروشَ أكثرَ من الدماءِ.


‏ نهرُ الدمِّ


‏خرجت "إيما" من "حدائقِ بابلَ المعلَّقةِ" بسرعةٍ كأنَّما تلحقُ القدرَ، كانت تبدو شديدةَ القوَّةِ في حُلَّةِ الحربِ التي تلبسُها، وقد تركت رأسَها مكشوفًا بذلك الشعرِ البنِّيِّ الأجعدِ الذي يُميِّزُها وتعقصُه دومًا خلفَ رقبتِها، وملامحُها تحملُ غضبًا شديدًا، فرغمَ أنَّها نجحت في حبسِ "سايروس" وجنودِه وأوقعتْهم في فخٍّ مميتٍ يحترقون داخله في هذه اللحظةِ،

‏فإنَّ زوجَها ملكَ "بابلَ" استدعاها على وجهِ السرعةِ لأجلِ شيءٍ لا يحتملُ الانتظارَ، يتعلَّقُ بأمنِ المملكةِ، فتركت أرضَ المعركةِ وأمرتْ قادةَ الجيشِ أن يتابعوا تنفيذَ الخطَّةِ التي وضعتْها بحذافيرِها، وألَّا يحيدوا عنها قيدَ أنملةٍ حتى تعودَ إليهم.

‏لكنَّها كانت قلقةً، وقلبُها يرتجفُ، تخافُ أن يكونَ "سايروس" قد فعلَ شيئًا كارثيًّا كعادتِه جعلَ الملكَ يستدعيها بهذه الطريقةِ في هذا الوقتِ الحرجِ.

‏دخلت القصرَ الملكيَّ وهي تدفعُ البابَ بقدمِها بقوَّةٍ لتجدَ الكلَّ في غرفةِ المائدةِ مجتمعين: زوجَها الملكَ، وجميعَ أقارِبِه، وحكماءَ "بابلَ" وسحرتْها، لا يوجدُ وجهٌ مهمٌّ تقريبًا إلَّا وهو واقفٌ في تلك الغرفةِ، ولم يكنْ زوجُها الملكُ بخيرٍ قطُّ، بل رأتْه جالسًا على الأرضِ مرتعبًا، يتراجعُ على ركبتيه كأنَّما أحاطتْ به الشياطينُ.

‏ولم يكنْ حالُ الباقينَ بأفضلَ منه كثيرًا، بل إنَّ النساءَ أخفينَ وجوهَهنَّ في صدورِ أزواجِهنَّ من الخوفِ الذي يكادُ ينطقُ من ملامحِ الجميعِ، فصاحت "إيما" بغضبٍ:

‏_ أيُّ شيءٍ لعينٍ جعلكم تأتونَ بي إلى حفلكم السفيهِ؟ ألا يكفي أنَّكم تأكلون وتشربون وهناك جيشٌ جرَّارٌ يضربُ حدودَ المدينةِ؟

‏أشارَ لها زوجُها في رعبٍ إلى حائطٍ من الحوائطِ، فنظرتْ في غضبٍ لتجدَ بضعَ كلماتٍ مكتوبةً بالدمِ على الجدارِ بحروفٍ كبيرةٍ غيرِ مفهومةٍ:

‏"منا منا تقيل أو فارسين."

‏صرخت "إيما" بغضبٍ:

‏_ اللعنةُ عليكم! ألا يشغلُ عقولَكم شيءٌ إلَّا هذه التفاهاتُ؟

‏قال زوجُها الملكُ بصوتٍ مرتعدٍ:

‏_ هذه الكلماتُ... لق.. لقد شاهدتُ يدًا بشريَّةً تخرجُ من اللامكانِ وتكتبُها هكذا أمامَ عينيَّ!

‏نظرتْ إليه في ازدراءٍ، كانت تكرهُه وتكرهُ ضعفَه وخنوعَه، ولولا أنَّ القانونَ والأعرافَ لا يسمحان لامرأةٍ أن تملكَ في "بابلَ" لقطعت رأسَه السخيفَ منذ زمنٍ طويلٍ وأصبحت هي الملكةَ. كادت أن تردَّ عليه بصوتٍ عالٍ، لكنَّ أكبرَ حكماءِ "بابلَ" قال لها:

‏_ ليس هو وحدَه الذي شاهدَ هذا، بل شاهدناه كلُّنا، كبيرُنا وصغيرُنا، كانت اليدُ تتحرَّكُ بلا جسدٍ وتكتبُ هذه الكلماتِ بطريقةٍ عنيفةٍ مليئةٍ بالغضبِ

‏اتسعتْ عينا "إيما" في شيءٍ من الدهشةِ لم يُنسِها ما بها من غضبٍ، وهي تنظرُ إلى وجوهِ القومِ وترى فيهم صدقَ كلامِ الحكيمِ، فقالت له بغضبٍ:

‏_ فليكنْ هذا سحرًا، أو شيطانًا، لماذا أتيتم بي إلى هنا؟

‏نطق كبيرُ سحرةِ "بابلَ":

‏_ يا سيِّدتي، هذا ليس سحرًا، ولا هو حتى قريبٌ من السحرِ، فلو كان سحرًا لأبطلناه، لكنْ كلما ذهبنا لنمدَّ أيدينا ونمحو الكلمةَ وجدناها كُتبتْ في مكانٍ آخرَ قبل أن نمحو أيَّ شيءٍ.

‏وأشارَ لها، فالتفتتْ لترى الكلمةَ مكتوبةً أيضًا في عدَّةِ مواضعٍ، وحتى في السقفِ.

‏قال لها الساحرُ:

‏_ إنَّ هذه رسالةٌ من الآلهةِ، وقد استدعيناكِ لأنَّ هذه الكلماتِ تتعلَّقُ بالفرسِ الذين يهاجمون المدينةَ، فرغم أنَّه لا أحدَ منَّا فهمَ المكتوبَ، فإنَّ الكلمةَ الأخيرةَ منها تعني "فارس" حتمًا.

‏سكنتْ "إيما" وهي تنظرُ إلى الكلماتِ مجددًا، وإلى الكلمةِ الأخيرةِ تحديدًا، وقد شعرتْ بشيءٍ غريبٍ يتملَّكها، ذلك الشعورُ الذي يشعرُ به المحاربُ عندما يقتربُ منه خطرٌ لا يراه.

‏زفرتْ بقوةٍ وهي تُخرجُ كلَّ مشاعرِها وتطمئنُ نفسَها أنَّ هذا الشيءَ لا يتعلَّقُ بـ"سايروس"، فقد حَصَرَته بطريقةٍ يستحيلُ أن يهربَ منها شيطانٌ، ثم تمالكتْ نفسها وقالت بقوَّةٍ:

‏_ عن أيِّ آلهةٍ تتحدَّثُ يا سفيهُ؟ أهذه الأحجارُ التي تصنعونَها بأيديكم؟ التي لو بصقتُ عليها لن تقدرْ أن تمسحَ عن وجهِها البصقةَ

‏كانت "إيما" كافرةً بآلهةِ "بابل" كلِّها، وليس فقط بآلهةِ "بابل"، بل بجميعِ الآلهةِ التي يُصنعُ لها تماثيلُ في الأرض، وكافرةً بالسحرِ والسَّحَرةِ، فهي أكثرُ من يعرفُ أنَّ سحرةَ "بابل" الذين تخافُ منهم الأرضُ ليس لديهم في الحقيقة أيُّ قوَّةٍ، ولقد اختبرتْ هذا مرارًا، ولو كان لديهم قوَّةٌ لاستعانتْ بها في الحروبِ.

‏ثم تذكَّرتْ "إيما" شيئًا قفز إلى ذهنها فجأةً، تذكَّرتْ رجلًا من أنبياءِ اليهودِ خرج في زمنِ أبيها "نبوخذ نصر"، ولم ترَ في حياتها شخصًا مثله، الوحيدَ الذي بهرها وشعرتْ أنَّ لديه قوَّةً إعجازيَّةً غيرَ مفهومةٍ، فلو كان هناك إنسانٌ يقدرُ أن يفسِّرَ هذه الكلماتِ فهو ذلك النبيُّ لا غيره.

‏إنها تذكرُ كيف أنَّ أباها رأى ذاتَ ليلةٍ رؤيا أفزعته، لكنه نسيها، ثم رآها مجددًا، ثم نسيها، مرَّاتٍ ومرَّاتٍ، حتى جمع الحكماءَ ليخبره أحدُهم بما رأى، ففشلوا كلهم إلا هذا النبيَّ الذي دخل على "نبوخذ نصر" وحكى له الرؤيا التي نسيها وفسَّرها، كان أمرًا مستحيلًا لا يُصدَّق.

‏أرسلتْ "إيما" رسولًا يستأذنُ ذلك النبيَّ ليأتي من حيِّ اليهودِ ويرى هذه الكلماتِ بعينه، وليس على الأرضِ يومَها شعبٌ أذلُّ من اليهودِ الذين أشركوا باللهِ ونجَّسوا المسجدَ الأقصى، ووضعوا فيه الأصنامَ وذبحوا لها أطفالَهم، فسلَّط عليهم ربُّهم جنودَ "نبوخذ نصر" فطرَدوهم من "فلسطين" وأخذوهم أسرى إلى "بابل" مربوطين بالسلاسلِ في ذلٍّ وهوانٍ.

‏عندها خرج في أرضهم نبيٌّ اسمه "دانيال".

‏وهو الذي جاء ليرى الكلمات...

‏وكان يُلقِّبه أهلُ ذلك الزمانِ بـ "الخضر"، لم يشهدِ الزمانُ أعجبَ من نبيِّ الله "الخضر"، فلقد رصده المؤرِّخون في عدَّةِ أزمنةٍ متباعدةٍ كأنما أوتي علمَ الزمن. وفي تلك الليلةِ في قصرِ "بابل" وقف الملكُ ووزراؤه وحكماؤه وجميعُ السحرةِ والحكماءِ ينتظرون قدومَ "الخضر" من ذلك الباب، وإنَّ اللهَ إذا اجتبى نبيًّا ألقى عليه المهابةَ والجلال، وكان هذا واضحًا في عيون القوم وهم يشهدون دخول "الخضر" إلى قصرهم في جُبَّةٍ خضراءَ تعلوها عباءةٌ سوداء، وعلى رأسه قَلنسُوةٌ بلونِ الذهب، كان يملكُ عينين ثاقبتين لا تقدر أن تنظر إليهما مطولًا، ولحيةً طويلةً تقطرُ حكمةً.

‏قالت له "إيما" وتأثيرُ مهابته على وجهها ظاهر:
‏أيها الصالحُ الجليل، أفتِنا فيما ترى، فقد وعد ملكُ "بابل" من يقدرُ أن يفسِّر هذه الكلمات أن يجعله كبيرَ الحكماءِ والرجلَ الثالثَ في المملكة.

‏نظر "الخضر" إلى الملكِ مباشرةً وقال:
‏فلتكن عطاياك لنفسك يا صاحبَ "بابل"، وهَبْ هِباتِك لغيري، ولتعلَمْ أنَّ اللهَ أعطى عمَّك "نبوخذ نصر" مَلَكوتًا وعظمةً وجلالًا، فكانت ترتعدُ أمامه جميعُ الشعوب، فأيًّا شاءَ قتل، وأيًّا شاءَ استحيا، وأيًّا شاءَ رفع، وأيًّا شاءَ وضع. فلما قسا قلبُه وتكبَّر نزع اللهُ ملكَه، وطرده من بين الناس، وتساوى قلبُه بالحيوان، وكانت سُكناه مع الحمير الوحشية، فكانوا يُطعمونه العُشبَ كالثيران. وأنت عرفتَ هذا ولم تتعظ، بل تعظَّمتَ على ربِّ السماء وعبدتَ هذه الآلهةَ التي لا تُبصر ولا تسمع، أمّا اللهُ الذي بيده روحُك فلم تعبده، حينئذٍ أرسل اللهُ مَلَكًا كتب هذه الكلماتِ على جدارك في وسط قصرك وفوق مائدتك، كنتَ ترى في عيونِ الحكماءِ غيرةً واضحةً وهم ينظرون إلى مهابةِ "الخضر"، فأيُّ حكيمٍ يطمعُ أن تكونَ له مهابةٌ حقيقيةٌ مثلُ هذه؟ كانوا جميعًا صُموتًا كأنَّ على رؤوسِهم الطير، لكن "إيما" هي التي تحدَّثت وقالت بلهجةٍ متعجِّلة:

‏أيها الجليل، أخبرنا ماذا كتب ذلك الملاك؟

‏قال لهم "الخضر":
‏أربعُ كلماتٍ ليس لها خامسة... "منا منا، أحصى اللهُ ملكَك وأنهاه". وتكرارُ "منا" يعني أنَّ ملكَك سينتهي عاجلًا في هذه الليلة. "تُقيل" وُزِنَت أعمالُك بالقِسط فأخسرتَ الميزان. "فرسين" قسمَ اللهُ مملكتَك وأعطاها إلى "ميديا" و"فارس".

‏أصابت "إيما" نوبةً من غضبٍ شديدٍ وهي تصرخ فجأةً:
‏محال! لقد حبسناهم كالجرذان، لا مفرَّ لهم، لا مفر!

‏استدار "الخضر" مغادرًا المكان ببطء، تاركًا إيَّاها في صراخِها، وعلى وجهه أماراتُ الخشوع وهو يتمتم:
‏اللهمَّ مالكَ الملك، تُؤتي الملكَ مَن تشاء، وتنزعُ الملكَ ممَّن تشاء، وتُعِزُّ مَن تشاء، وتُذِلُّ مَن تشاء.

‏انطلقت "إيما" بسرعةٍ خارجةً من المكان متوجِّهةً إلى أرضِ المعركة، وهي تخشى كلَّ ما تخشاه أن يكون "سايروس" قد عمِلَ حركةً تُفاجئ قادةَ جيشها ولا يُحسِنون التصرُّف، فهي تعلم أنَّه لا يُكافِئ "سايروس" هذا أحدٌ منهم. وأخذت تلعنُ نفسَها لأنَّها غادرت أرضَ القتال لأجل هذا الملك السخيف، لكنَّ كلماتَ "الخضر" ما زالت ترنُّ داخل عقلِها:

‏"منا منا، تُقيل، فرسين..."

‏وصلت "إيما" إلى أرضِ القتال واطمأنَّت قليلًا بسماعها صراخَ جنودِ "سايروس"، فنظرت من موضعٍ معيَّنٍ في السور، ورأت الأسهمَ الناريةَ تنطلقُ باستمرارٍ من بين فتحاتِ السور في تتابعٍ حارقٍ جعل جيشَ "سايروس" في مهلكةٍ لا مهربَ منها.

‏بينما كانوا يرفعون الدروعَ ليصدُّوا السهامَ النازلة، انحنى فريقٌ منهم يملؤون دروعَهم بماءِ النهر، ويلقونها في وجهِ النيران حتى لا تشتعلَ في السفن، ولكنَّ كثيرًا منهم كان يموتُ بالسهام، وآخرين يقفزون في الماء فتلتقطُهم أسنانُ القروشِ وتمزقُهم بعنف، وهناك بعضُ السفنِ اشتعلت عن آخرها بالفعل.

‏لم تكن هناك أيُّ إشارةٍ أنَّ هذا الوضعَ سينتهي بأيِّ نهايةٍ أخرى غير التي تريدها، فالأمرُ فقط مسألةُ وقت، فلا هم يقدرون أن يصوِّبوا سهامًا بدقَّةٍ لتصيبَ الفتحاتِ التي يُطلقُ منها جنودُها سهامَهم، ولا هم قادرون على الهربِ إلى الماء، ولا حتى على الخروجِ من الأبوابِ الحديديَّة قبل أن تقضيَ عليهم.

‏ظلَّت "إيما" تدور وتنظر إلى المعركةِ من هنا ومن هناك لساعةٍ أو أكثر، حتى جاءها أحدُ رجالِها وصاح:
‏سيِّدتي، لا بدَّ أن تري هذا بنفسِك!

‏نظرت "إيما" من بين شقوقِ السور، وفتحت عينيها في ذهولٍ، ثم أخذت تصرخُ بكلمةٍ واحدةٍ في غضبٍ شديدٍ:
‏اللعنة! اللعنة! اللعنة!


‏ ***

‏قبل بضعةِ أشهر...

‏هذه "بابل"، والماءُ من حولِها.

‏وهذا نهرُ "بابل" يخرجُ من جنوبِها...وهذا جيشُ "سايروس" في الجنوبِ يحفرون القنواتِ ليُبطِّئوا تيارَ النهر ليقدروا على الدخول.

‏إنَّ خطةَ حفرِ القنواتِ بهذه الطريقة كانت شديدةَ البراعة، ولقد نجحوا بها في دخولِ المدينة بالفعل، ورغم أنَّ تنفيذَها استغرق سبعةَ أشهرٍ كاملة، فإنها في الحقيقة كانت مجرَّدَ ملهًى أو مسرحيَّةٍ لجذبِ عيونِ العدوِّ إلى هذه الناحية، بينما الخدعةُ الحقيقيَّةُ تجري هناك، في الشمال.

‏والآن انظرْ إلى شمالِ المدينة...

‏من هنا يدخلُ نهرُ "بابل" الذي يأتي للمدينةِ من منبعٍ بعيدٍ هو نهرُ الفراتِ الكبير، الذي يُغذِّي هذا النهرَ بالماءِ منذ آلافِ السنين.

‏الخدعةُ كانت تجري هناك على بُعدِ عشراتِ الأميالِ من "بابل" شمالًا، حيث جمع "سايروس" أكثرَ من نصفِ مليونِ عاملٍ من بلادِ "فارس" و**"ميديا"** و**"ليديا"**، ووضع عليهم "آرتي" قائدًا، ومعه نصفُ جيشِ "سايروس"، وأمرهم أن يُقيموا ثلاثةَ سدودٍ متعاقبةٍ على نهرِ "بابل" الذي يدخلُ المدينةَ، مهمتُها أن تُوقِفَ المَدَّ الكبيرَ الذي يُغذِّي هذا النهرَ بالماءِ من الفرات.

‏وأشار عليهم أن يتركوا هذه السدودَ الثلاثة مفتوحةً حتى يأتي يومٌ معيَّنٌ وساعةٌ معيَّنةٌ يُغلِقون فيها كلَّ السدود.

‏ولم يستغرق بناءُ السدودِ أكثرَ من ثلاثةِ أشهر، بعدها أمرهم "سايروس" بحفرِ فرعٍ للنهرِ يكونُ عميقًا جدًّا، مهمتُه أن يسحبَ المياهَ من المجرى الرئيسيِّ للنهر، ويوصلَها إلى وادٍ سحيقٍ، وأمرهم أن يضعوا على هذا الفرعِ سدًّا رابعًا يجعلونه مغلقًا طيلةَ الوقت، حتى لا يسحبَ المياهَ من النهرِ إلا عندما يأتي يومٌ معيَّنٌ وساعةٌ معيَّنة.

‏ولقد استغرق حفرُ هذا الفرعِ من النهرِ أربعةَ أشهر، انتهوا منه بالضبط في الوقتِ نفسه الذي انتهى فيه الجيشُ الآخرُ في الجنوبِ من حفرِ القنوات.

‏وقبلَ يومٍ واحدٍ من اقتحامِ "سايروس" للمدينة، أمرهم أن يُغلقوا السدودَ الثلاثة، فبدأ الماءُ في النهرِ يتناقصُ بشكلٍ سريعٍ لأنَّ إمدادَ نهرِ الفراتِ قد انقطعَ تمامًا، لكنَّ هذا التناقصَ كان غيرَ ملحوظٍ للعين، ولم يأمرهم "سايروس" بفتحِ السدِّ الرابعِ إلَّا بعد أن يدخلَ جيشُه من الجنوبِ حتى لا تُلاحِظَ "إيما" الخدعة.

‏ودخل ذو القرنين وجنودُه بالسفنِ إلى "بابل" من جنوبِها، وأوقعتهم "إيما" في فخِّها المحكم، والحقُّ يُقال إنَّ ذَا القَرنَين لم يتوقَّع هذا على الإطلاق، وفي ساعةٍ واحدةٍ فقط وجد سفنَه كلَّها تحترق، وجنودَه يموتون بألسنةِ الحريقِ وأنيابِ القروش، ولم يصمدْ معه إلَّا رُبعُ الذين دخلوا معه في السفن، حتى وزيرُه "هارباك" رآه يحترقُ في إحدى السفنِ تاركًا وراءه حياتَه التي امتلأت بالحروبِ والدم.

‏لكنَّ عينَ "سايروس" كانت على الماء، الذي بدأ في لحظةٍ معيَّنةٍ ينسحبُ بقوَّةٍ بالغةٍ ناحيةَ الشمال، كأنَّ هناك شيئًا عظيمًا يسحبُه. كان العمالُ على السدودِ لحظتَها قد فتحوا السدَّ الرابع، فانطلق الماءُ من النهرِ في فيضانٍ عظيمٍ ليدخلَ في المجرى الفرعيِّ الذي حفره العمالُ، ويسقطَ في الوادي السحيق في شلَّالٍ ضخمٍ، وبدأ نهرُ "بابل" يفرغُ من الماءِ تمامًا.

‏وكان على ذِي القَرنَين أن يصمدَ ساعةً أخرى فقط، وكانت أشدَّ ساعةٍ على نفسه، لأنَّه خسر فيها أغلبَ الجيشِ الذي معه، ولم يصمدْ معه إلَّا قليلٌ لا يتجاوزون الألف.

‏ساعةٌ كاملةٌ فرغ فيها نهرُ "بابل" تمامًا من الماء، وفوجئت "إيما" بنهرِها الذي فعلتْ فيه الأفاعيلَ قد جفَّ تمامًا، وقروشُ الكُوسَج تتلوَّى في اختناقٌ على الأرضِ غيرُ قادرةٍ على التنفُّس، ونيرانُ السفنِ تصنعُ أدخنةً سوداءَ تُغطِّي الرؤية.

‏وفجأةً، سمع الأهالي في الشمالِ صيحاتِ جيشٍ جرَّارٍ يدخلُ عليهم من مجرى النهرِ الجاف، أكثرُ من مئتي ألفِ جنديٍّ من "ليديا" و**"ميديا"** و**"فارس"**، عليهم قائدٌ مجنونٌ يُدعى "آرتي"، دخلوا من تحت البوابةِ الشمالية التي كانت مفتوحةً من أسفلها لأجل النهر.

‏وفي جنوبِ المدينة، بعد أن فرغَ النهرُ وجفَّ ماؤه، هرب ذو القرنين من الفخِّ بالألفِ الذين بقوا معه، ودخلوا من أسفلِ البوابةِ الثالثة إلى قلبِ المدينةِ من جنوبِها، واشتَبكوا في حربٍ ضروسٍ مع جيشٍ كبيرٍ جدًّا وضعته "إيما" في الجنوبِ لاستقبالِهم.

‏ولقد غلبتِ الكثرةُ الشجاعةَ، وتساقطَ الرجالُ الألفُ الذين كانوا مع ذِي القَرنَين واحدًا تلوَ الآخر، حتى هلك أكثرُهم، ولم يبقَ معه إلَّا مئةٌ صبروا حتى وصلَ جيشُ "آرتي" من الشمالِ ليضربَ جيشَ العدوِّ من ظهرِه في مفاجأةٍ قاسية.

‏وكانت ملحمةً كُتبت في صفحاتِ التاريخِ بأقلامٍ مذهولةٍ، فهذه المدينةُ كانت أحصنَ شيءٍ على الأرضِ بعد أن تولَّت "إيما" قيادتَها، ولم تمضِ ساعةٌ أخرى إلَّا وقد هُزِمت "بابل" هزيمةً نكراء، وانطلق جيشُ ذِي القَرنَين بغضبٍ إلى داخلِ المدينةِ يريدون أن يُعيثوا الفسادَ ويقتلوا الرجالَ العُزَّلَ والنساءَ كما اعتادوا طيلةَ عمرِهم في الحروب، لكنَّ ذَا القَرنَين منعهم أن يمسُّوا شعرةً واحدةً من أيِّ إنسانٍ لا يحملُ السلاح.

‏ودخل ذُو القَرنَين بجنودِه إلى قصرِ "بابل" الكبير، ووجدوا ملكَ "بابل" قد هربَ ومعه كلُّ وزرائهِ وعائلتِه وسَحَرتِه وجنودِ قصرِه، وسقطت أسطورةُ "بابل" التي لا تُقهَر.

‏ولم يكن هذا غريبًا، فقد كان ملكًا جبانًا على كلِّ حال، هو وجميعُ أهلِه.

‏مشى ذو القرنين في القصر الذي كان كلُّ شيءٍ فيه ينطقُ بالفخامةِ والعظمة؛ تماثيلُ وعواميدُ وآلهةٌ صنعت أساطيرَ امتدَّت لمئاتِ السنين، كلُّها سقطت اليومَ كأن لم تكن يومًا ذاتَ شأنٍ.

‏نظر ذو القرنين يمينًا وشمالًا باحثًا عن أيِّ أحدٍ يمكن أن يكونَ قد بقيَ للقتال، لكنه لم يجد أحدًا، حتى وصل إلى غرفةِ العرش وفتحها على مصراعيها، وهناك وجد شخصًا واحدًا لم يهرب من كلِّ هذا...

‏"إيما".

‏كانت تقفُ بكاملِ زيِّها الحربي، وملامحُها الصارمةُ الجميلةُ تُضيءُ وسطَ ظلالِ القاعة، تمسكُ درعَها بيدٍ، وسيفَها باليدِ الأخرى، وهي تقولُ بثباتٍ وجرأةٍ:

‏_ لقد أخبرتُكَ أني سأقومُ بك وحدي.

‏ولم يملك "سايروس" إلَّا أن ينظرَ إليها بشيءٍ من الإعجابِ الحقيقيِّ رغم كلِّ شيء.
‏لم يكن حولَها أحدٌ من الجنود، لقد اختارت أن تبقى وحدَها لتدافعَ عن أرضِها حتى آخرِ نفسٍ في روحِها.
‏___________________________________

‏يتبع في الحلقة 9 ستجدها هنا 👇

‏لقراءة الحلقة 7 ستجدها هنا 👇
https://www.facebook.com/share/1CiRFBecrq/










العنوان: الجارية التي علّمت السلطان معنى الحُرّيةفي قديم الزمان، في إحدى الممالك التي كانت تمتدّ أسوارها على مدّ البصر، ...
30/10/2025

العنوان: الجارية التي علّمت السلطان معنى الحُرّية

في قديم الزمان، في إحدى الممالك التي كانت تمتدّ أسوارها على مدّ البصر، عاش سلطانٌ يُضرب به المثل في الثراء والهيبة، ولكنّه كان مولعًا بالاقتناء، لا يهدأ له بالٌ إلّا إذا امتلك كلّ ما يُقال عنه "نادر" أو "فريد".
وذات يوم، بلغ مسامعه أنّ في سوق الرقيق جاريةً يُباع ثمنها بأكثر من مائة جارية، وأنّ التجار يتحدثون عنها بدهشةٍ وإعجاب، لا لجمالها وحده، بل لما قيل من عقلها وفطنتها. فهاج فضول السلطان، وأرسل أحد وزرائه المقرّبين ليأتي بها على الفور، قائلاً:

– ائتوني بها، أريد أن أرى أيّ شيءٍ يجعل لجاريةٍ هذا الثمن العظيم.

لم تمضِ ساعات حتى دخلت قاعة العرش جاريةٌ في زيٍّ بسيط، ولكنّها كانت تمشي بثباتٍ يليق بملِكةٍ لا بأسيرة. رفعت رأسها عالياً، لا خُيَلاءً ولا تجرؤاً، بل ثقةً تنبع من أعماقها، كأنّها تعلم أنّ قدر الإنسان لا يُقاس بثيابه ولا بمكانه، بل بعقله وروحه.

أدهش منظرها الحاضرين، فكلّ الجواري كنّ يأتين راكعاتٍ منكسات الرؤوس، أمّا هذه فقد وقفت أمام السلطان بثباتٍ غريب، وعيناها تنظران إليه نظرةً صافية لا تعرف المواربة.

قال السلطان بصوتٍ متعجّب:
– ما اسمكِ يا فتاة؟

قالت بهدوءٍ:
– اسمي "نَوران"، يا مولاي.

– يا نوران، قد سمعتُ أنّ ثمنكِ يضاهي ثمن المائة من الجواري، فهل أنتِ آيةٌ في الجمال، أم أنّ وراءك سرّاً خفيّاً؟

ابتسمت الجارية ابتسامةً خفيفة وقالت:
– لستُ أجمل النساء يا مولاي، ولكنّي أملك ما لا يُشترى بالمال.

– وما ذاك؟

– أملكُ عقلًا يفكّر، ولسانًا يقول الحقّ، وقلبًا لا يبيع الكرامة.

سكت المجلس، وارتفعت الهمسات بين الحاضرين. لم يكن السلطان معتادًا أن يسمع مثل هذا الجواب من جاريةٍ في سوق النخاسة. نظر إليها طويلًا، ثم قال:

– إذًا تزعمين أنّك ذكية؟

– لا أزعم، بل أوقن.

ضحك السلطان وقال:
– حسنًا يا ذكية، سأختبركِ، فإن أجبتِ عن أسئلتي أعتقتكِ، وإن عجزتِ، فقد حكمتِ على نفسكِ بالموت.

قالت دون أن يرفّ لها جفن:
– على الذكيّ أن لا يخشى سؤالاً، فاسأل ما شئت.

اقترب السلطان قليلًا، وقال بصوتٍ متعمّد أن يُسمِع الجميع:
– أخبريني يا نوران: ما هو أجملُ ثوب؟ وأطيبُ ريح؟ وأشهى طعام؟ وأنعمُ فراش؟ وأجملُ بلد؟

ساد الصمت، وتطلّعت العيون إلى الفتاة في ترقّبٍ، لكنّها لم ترتبك، بل التفتت نحو باب القاعة، ثم نظرت إلى السلطان وقالت:
– يا مولاي، هب لي فرسًا ومتاعًا، فإني سأغادر هذا القصر وأنا حرة.

تعجّب السلطان وقال:
– ما هذا؟ ألستِ بعدُ أسيرةً في ملكي؟ كيف تجرؤين على القول إنك تغادرين؟

فقالت في ثقة:
– لأنّ الجواب الذي سأقوله سيجعل كلّ من في هذا القصر يدرك أنّ الحرّ لا يُباع ولا يُشترى، وأنّ الجارية التي تفهم معنى الكلمة أرفع شأنًا من السلطان الذي يجهلها.

فأشار السلطان إلى الحرس أن يكفّوا عن مقاطعتها، وقال:
– تكلّمي إذن، وأبهِريني كما تزعمين.

رفعت نوران رأسها وقالت بصوتٍ يسمعه كلّ من في القاعة:

– أمّا أجملُ ثوبٍ، فهو قميصُ الفقير الوحيد الذي لا يملك غيره، يغسلُه كلّ مساءٍ، فيراه في الصباح جديدًا، لأنّ العِزّة في القناعة، لا في الحرير.

هزّ السلطان رأسه إعجابًا دون أن يتكلّم.

– وأمّا أطيبُ ريحٍ، فهي رائحةُ الأمّ، ولو كانت تعمل في أرهق الأعمال. إنّ عبق الحنان لا يُقاس بالعطور يا مولاي، بل بما يسكن القلب من ذكرياتٍ طيبة.

تنهد بعض الحاضرين، وكأنّ كلماتها أعادتهم إلى صدورٍ افتقدوها.

– وأمّا أشهى طعام، فهو ما كان على جوعٍ صادق. الجائع يرى الخبز اليابس وليمة، لأنّ اللذة لا تأتي من الطعم، بل من الحاجة.

قال السلطان مبتسمًا:
– وماذا عن أنعم الفُرُش؟

قالت:
– أنعمُ فراشٍ يا مولاي، هو ما تنام عليه وضميرك مرتاح، فلو كنتَ ظالمًا، لكان فراش الذهب شوكًا تحت جسدك، وإن كنتَ عادلاً، لكان الرملُ وسادةً ناعمة.

ساد المجلس صمتٌ طويل. أحسّ الجميع أنّ كلماتها لم تكن جوابًا فحسب، بل كانت مرآةً وُضِعت أمام السلطان.

تحركت نوران نحو الباب، فصاح السلطان:
– لم تُجيبي بعد عن آخر أسئلتي! ما هو أجملُ بلد؟

توقفت عند العتبة، استدارت، وقالت بصوتٍ رزينٍ كأنّه صادرٌ عن أمةٍ بأكملها:
– أجملُ بلدٍ يا مولاي، هو الوطنُ الذي يحكمه العقلاء، ويُصان فيه الضعيف، ولا يُهان فيه الإنسان. الوطنُ الذي لا يعبدُ الحاكمُ فيه هواه، بل يعبدُ العدل.

عمّ السكون القصر بأسره، حتى كأنّ الزمن توقف. لم يتفوّه أحدٌ بكلمة. أما السلطان، فبقي لحظاتٍ صامتًا، ثم قال بصوتٍ خافت:
– لقد غلبتِني بحكمتكِ يا نوران... والحقّ أنّ من يملك لسانك لا يليق به قيد.

ثم رفع يده قائلاً:
– أعتقتُكِ لوجه الله، فأنتِ من اليوم حُرّة.

ابتسمت نوران، وانحنت احترامًا دون ذلٍّ، وقالت:
– أشكر عدلك يا مولاي، ولكن تذكّر أنّ العدل ليس منحةً، بل واجبٌ على من تملك أمر الناس.

وغادرت القصر بخطواتٍ ثابتة، تاركةً وراءها وجوهاً مذهولة وقلوباً تهتزّ بمعاني لم يعرفوها من قبل.

ومنذ ذلك اليوم، تغيّر السلطان. صار يقضي الليالي يفكر في كلماتها، ويقول لمن حوله:
– ما أغرب أن يعلّمك دروسَ الحكمِ من كنتَ تظنّه عبدًا.

العبرة:
ليست الكرامة في المنصب، ولا العظمة في الغنى، بل في صدق الكلمة وسموّ الفكر. فكم من حرٍّ في ثوب عبد، وكم من عبدٍ في ثوب سلطان.


📌
📌
📌
📌
📌
📌
📌
📌
📌

العنوان: جسور المحبةفي إحدى القرى البعيدة التي تحيط بها الأرض الخصبة والجبال الشاهقة، كان هناك أخوان يُدعيان خالد و محمو...
30/10/2025

العنوان: جسور المحبة

في إحدى القرى البعيدة التي تحيط بها الأرض الخصبة والجبال الشاهقة، كان هناك أخوان يُدعيان خالد و محمود، عاشا معًا في مزرعةٍ كبيرة، يعملان سويًا بكل جدٍّ واجتهاد. كانا أخوين محبين لبعضهما، يزرعان الأرض ويحصدان المحصول معًا، لا يفترقان، يزرعان الحب في قلب كل منهما كما يزرعان الزهور في الأرض.

كانت حياتهما بسيطة، لكن مليئةً بالسعادة والوفاء، وكان لكل واحدٍ منهما دورٌ مهم في حياة الآخر. خالد، الأخ الأكبر، كان ذو شخصية قوية وعقلٍ راجح، في حين كان محمود، الأصغر، أكثر عاطفةً وحيوية، ومحبًا لكل ما هو جميل في الحياة. كانا يتقاسمان كل شيء: العمل، الفرح، والحزن، والضحك والدموع.

لكن كما يحدث في بعض الأحيان، نشب خلافٌ بين الأخوين بسبب سوء تفاهم بسيط في العمل. بدأ الأمر بشجارٍ عابرٍ على قضية صغيرة، لكن شيئًا فشيئًا اتسعت الهوة بينهما، واشتد الجدال حتى أصبح صمتًا طويلًا. كانت تلك الفترة الأليمة هي البداية لصدعٍ كبير في العلاقة بينهما.

مرت أسابيعٌ وأشهر، وتراكمت القتامة بين قلوبهما، فانقطعت الصلة بين الأخوين، وكل واحدٍ منهما يعيش في عالمه الخاص. خالد كان غاضبًا على تصرفات أخيه، بينما محمود كان يشعر بالحزن العميق من قطع الوصل، لكن كل منهما كان يرى أن الآخر هو المسؤول.

وذات يوم، وفي فترةٍ من الزمن كان فيها الجو حارًا، جاء إلى مزرعة خالد رجلٌ غريب. كان يحمل أدواته على ظهره، وبدت عليه علامات الجهد والإرهاق. فوقف أمام الباب، وطرق عليه، فقال خالد بصوتٍ حاد:
"نعم، من هناك؟"
أجاب الرجل، بصوتٍ مليءٍ بالثقة:
"أنا عاملٌ ماهر، أبحث عن عملٍ هنا، أنا قويٌّ وأستطيع مساعدتك في أي شيء تحتاجه."

خيم الصمت لبرهة، قبل أن يتحدث خالد:
"أعتقد أنني بحاجةٍ لمساعدتك. لكن لدي مهمةٌ خاصةٌ لك. على الجهة الأخرى من النهر، حيث يسكن أخي، لدينا مشكلة. لقد أساء إليّ، وأهانني، وقطعت كل صلة بيننا، ولذلك أريدك أن تبني جدارًا عظيمًا من الحجارة بيننا، حتى لا أراه ثانية."

أجاب العامل بحماسةٍ شديدة:
"أفهم، سيدي. سأبني لك الجدار، ولن أتركه دون أن أنجزه على أكمل وجه."

ثم أعطاه خالد الأدوات اللازمة، وأخذ يودعه متجهًا إلى المدينة للقيام ببعض الأعمال.

مرت أيامٌ عدة، وعاد خالد إلى مزرعته بعد أسبوع، ليكتشف ما لم يكن في الحسبان. بدلًا من أن يجد جدارًا عظيمًا يفصل بينه وبين أخيه، وجد العامل قد أنجز شيئًا غريبًا: كان قد بنى جسرًا طويلًا عبر النهر، رابطًا بين ضفتيه، كان الجسر يلمع تحت أشعة الشمس كأنه طريقٌ نحو السلام.

تعجب خالد، وقال بصوتٍ منخفض:
"ما هذا؟ لم أطلب منك بناء جسر، بل جدارًا!"

وفي هذه اللحظة، خرج محمود، الأخ الأصغر، من بيته وهو يركض نحو الجسر، وما إن اقترب من الجسر حتى رفع يده في فرح قائلاً:
"يا إلهي! ما أجمل هذا! لقد بنيتَ جسرًا بيننا، رغم كل ما بدر مني! أنت حقًا أخ رائع!"

وقف خالد مذهولًا، لم يعرف كيف يرد، لكنه شعر بشيء غريب يجتاح قلبه، فتساقطت دمعةٌ من عينيه. اقترب من محمود وقال:
"أنا أيضًا لم أتوقع ذلك، لكن هذا الجسر هو هدية لك، ولعلاقتنا التي كانت."

بينما كان الأخوان يحتفلان بالصلح، بدأ العامل بجمع أدواته استعدادًا للرحيل. فقال له الأخوان في صوتٍ واحد:
"لا تذهب، لا تتركنا! لدينا الكثير من العمل لك هنا."

لكن العامل نظر إليهما برفق وقال:
"كنت أتمنى أن أظل معكما، لكنني مضطر للرحيل، فهناك الكثير من الجسور الأخرى التي يجب أن أبنيها."

ثم غادر، وترك وراءه درسًا عميقًا في قلوب الأخوين وفي قلوب كل من سمع قصتهما.

---

العبرة:
في الحياة، لا تبنوا الجدران بين الناس، بل ابحثوا دائمًا عن الجسور التي تجمعهم وتؤلف بينهم. فالأمور التي تفرق الناس هي تلك التي تبني جدرانًا، أما الأمور التي توحدهم فهي الجسور التي تصل بينهم وتدفعهم إلى الحوار والتفاهم. من يبني الجسور لا يفكر في الهدم أبدًا، بل في الوحدة والمحبة.

في النهاية، تذكروا أن المحبة هي التي توحدنا، والعقل هو الذي يوجهنا إلى بناء الجسور، لا الجدران.

📌
📌
📌
📌
📌
📌
📌
📌
📌
📌

Address

Tangier
90040

Alerts

Be the first to know and let us send you an email when رحلة إلى عالم الحكايات posts news and promotions. Your email address will not be used for any other purpose, and you can unsubscribe at any time.

Share

Category