
12/08/2025
كلمة الشاعر وليد الشيخ في أمسية إطلاق مجموعة "واختلطت عليك الخيل" للشاعر خالد جمعة.
ذهب خالد جمعة إلى قَصيدةِ النثرِ، الاِبْنَة الشَّرْعيَّة والمطرودة من المتن، مدركاً أَنَّها منَ البناتِ اللَّاتِي لا يَعُدْنَ إلى البيتِ بعدَ انتهاءِ الدَّوامِ المُدرسيِّ. اِلتقطَ يَدَها في شَوارعِ غَزَّةَ، بِفِطْنَتِهِ وَدَهاءِ مَعْرِفَتِهِ البَاهِظَةِ، أَغْلَقَ البَابَ عَلَى اجتراحاتِ الخَلِيلِ بْنِ أَحمدَ، لَكنَّهُ قَبْلَ أَنْ يُغادرَ، رَمَى في وَجْهِ سَدنةِ اللغةِ وَحرَّاسِ المُورُوثِ، كَطاوُوسٍ نَبِيلٍ لَامِعٍ، تَرَكَ رِيشَهُ يرف:
"نَحْوٌ وَصَرْفٌ وَالأَدَاةُ النَّافِيَةُ
مَنْ قالَ إنَّ الشِّعْرَ يَرْجُو القافِيَةَ
وَبِأَيِّ حَقٍّ تَسْتَفِيضُ بِشِعْرِنا
اِصْمُتْ، حَباكَ اللهُ، نَهْرَ العافِيَةِ
وَاتْرُكْ قَوارِيرَ المَعاني إنَّها
تَصْحو لَدَيْنا، وَهْيَ عِنْدَكَ غافِيَةٌ"
يدركُ خالد جمعة، أَنَّ المدينَةَ الَّتي جاءَ مِنْها وَالشَّوارعَ التي نَهَبَتْ مِنْ شَقاوَتِهِ، وَالقَصائِدَ الأُولى الَّتي اقْتَرَفَها غيرَ آبهٍ بالمُورُوثِ المُقَدَّسِ شِعْرًا وَنَثْرًا، يُدْرِكُ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ حَرَثَتْهُ صَوارِيخُ الإِبادَةِ، وَأَخَذتِ الأَصْدقاءَ وَالبَيْتَ وَالرَّائحَةَ، َتَركتْ أَثلامًا في الرُّوحِ، وَوَجَعًا بَعيدًا سَيَظَلُّ عالِقًا في لُغتهِ وَإِيقاعاتهِ وَهَواجسهِ الَّتي تَرِفُّ مِثْلَ رايَةِ حداد خلفَ حائطِ البَيْتِ في الشَّابُورَةِ.
عِنْدَما أَلْتَقِيهِ، يَبْدَأُ بِسَرْدِ أَسْماء شُعَراء قُدامى، سَقَطُوا مِنَ المِنْهاجِ، وَدُونَ مُقَدِّماتٍ يَستعينُ بِذاكرَتهِ الواسعةِ بمطالعَ تُبْهِجُ القَلْبَ، وَحينَ نَخْتَلِفُ، وإنّا وَالحَقُّ يُقالُ، نَختَلفُ كَثيرًا، يَبدَأُ بلهجَتِهِ الَّتي تَرْمِي الفَتْحَةَ عَلَى أَواخِرِ الكَلِماتِ، مُطْفئًا القافَ كَما يَفعَلُ الأَهْل في غَزَّةَ، يَأْخُذُ السجال الى الحوار، حتى وإن كان الاشتباك المترف بيننا حول الالتباس الفظ بين بحري الرمل والخفيف!
بَيدَ أَنَّ الرجُلَ الَّذي اِعْتادَ عَلَى كِتابَةِ الرَّصانَةِ، يَفْلِتُ بَعْدَ الحَرْبِ، لِتُصْبِحَ مُفْرَداتهُ خَفِيفَةً، شَقِيَّةً، وَمُتَقَشِّفَةً، اِحْتَرْتُ في جُرْأَتِهِ عَلَى الذَّهابِ إلى الشَّوارِعِ الفَرْعِيَّةِ وَالخَلْفِيَّةِ، هُوَ الَّذي اِعْتادَ عَلَى الأُوتُوسْتِرادِ منذُ سنواتٍ، في نصوصِهِ منذُ الحَربِ، تَخَفَّفَ خالِد جُمعة مِنْ حَقيبَةِ مُفْرَداتِهِ الثَّقِيلَةِ وَإِيقاعِ قَصيدَتهِ بِاللَّونَينِ الأَبيَضِ وَالأَسودِ، أَنْزَلَ القَصيدَةَ مِنْ عَلْيائِها وَغُرُورِها، وَنَسيَ نَزَقَ الشّاعِرِ الَّذي طالَما رافَقَ خُطُواتِهِ الأُولى، وَذَهَبَ ليَسْأَلَ:
"إِذَا كانَتِ الحِنْطَةُ كَلامَ اللهِ لِلأَرْضِ، فَمَنْ بَدَّلَ كَلامَ اللهِ؟"
أَظُنُّ أَنَّ خالد جُمعة، بحكمةِ العارفِ، يَسْتَطِيعُ أَنْ يَفُكَّ اخْتِلاطَ الخَيلِ، هو الذي يعلم، أَنَّ الخُيُولَ الأَصِيلَةَ لا تَذْهَبُ لِشُرْبِ الماءِ بَعْدَ تَعْنِيفِها، وَأَنَّ خُيُولَ الأَصْدِقاءِ تَتَبَيَّنُ مِنْ بَياضِ نَواياهَا الخالِصَةِ.
إِنَّ غَزَّةَ الذَّبِيحَةَ الآنَ، الَّتي تَعيشُ أَيّامَ القِيامَةِ حَتّى قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ في الصُّورِ، وقبلَ أَنْ يَأْذَنَ اللهُ، لا بُدَّ وَأَنْ تَصْحُو عفيَّةً بَهِيَّةً، وأَنَّ قَصائِدَكَ يا خالد الَّتي تَجْرَحُ القَلْبَ، خادِشَة وِقاحَةَ الماءِ الآسِنِ الَّذي اِمْتَدَّ مِنْ ماءِ الأَطلسِيِّ إِلى ماءِ العربِ، سَتَظلُّ رفقة ألسنة المذبوحين تلهج بالمرارة والإدانة الى الأبد.
أَخِيرًا، ياخالد جمعة قُلْ لَنا: ما الَّذي يَسْتَطِيعُهُ الشِّعْرُ في شَوارِعِ غَزَّةَ بعد أن قلت:
"إِنَّ النصُوصَ تَتَشَقَّقُ لكَثْرةِ ما كَتَبَ الشُّعَراءُ عن العطش"!