
01/08/2025
رواية: قتلوا ربيعي (ربيع اليمان)
بقلم: ميام
الفصل37................................
لم يبتعد يمان عن بهار ولو لدقيقة واحدة، ووعدها بأن تمطي الحصان معه صباح الغد، وبأن يلهوا معًا طوال اليوم. اكتفت جانسو بالمراقبة وفي داخلها صراع كبير فمن ناحية تريد التخلص من سيطرته التي يفرضها على حياتها وحياة ابنتها ومن ناحية أخرى ترى سعادة الطفلة بوجوده في حياتها؛ فلطالما شعرت بالنقص من هذه الناحية، وتدرك بأنها لم تستطع تعويضها عن هذا الأمر رغم كل ما فعلته من أجلها.
هيلين تراقبه عن كثب وتشعر بالنار تشتعل في صدرها. تود الحديث معه، ولكن لا تدري كيف تبدأ وماذا تقول.
مع تأخر الوقت وذهاب الجميع إلى غرفهم اختفى صوت الصغيرة أخيرًا لتعلم بأنها نامت وعند هذا الحد لم تعد تستطيع التحكم بنفسها أكثر ولم يعد بوسعها تفسير كمية المشاعر المتضاربة بداخلها من غضب، وخوف، وقلق على هذا المعتوه الذي وقعت في حبه.
خرجت من غرفتها ووقفت أمام غرفة بهار حيث رفعت يدها لتطرق الباب، ولكنها ترددت وبقيت يدها معلقة في الهواء وهي تقبضها بقوة. أخفضت رأسها بحنق من نفسها ولم تعد تدري ما هذه التصرفات التي تقوم بها، وكيف تصرف هذه الحيرة التي تعتريها حتى تفاجأت به يفتح الباب ويقف أمامها مباشرة.
رفعت رأسها تنظر إليه فقابلت نظراته الباردة تسألها عما تريده مما جعل حلقها يجف؛ فهي حقًا لا تعلم ماذا تريد منه وكيف ستفسر تصرفها هذا.
قاطع ذراعيه أسفل صدره وهو يرمقها بتسلية ويعلم جيدًا ما بها، ثم تساءل ببرود: هل سأنتظر كثيرًا؟ ماذا تريدين؟
هذا ما كانت تسأله لنفسها ولا تجد إجابة، فكيف عساها تجيبه؟! ازداد توترها ومع صمتها بتلك النظرات رفع حاجبه وهو يطالع انفعالاتها مما جعلها تشتمه بالروسية وتعود لغرفتها مسرعة.
ابتسم على فعلتها ولن ينكر بأنه يستمتع بما يسببه لها من ارتباك بعد أن كانت تتظاهر بالقوة والثقة وتتقن التمثيل أمام الجميع إلا أنها لم يعد بوسعها ذلك أمامه.
شعر برغبة الذهاب خلفها وضمها بين ذراعيه، ولكنه أوقف نفسه. لا يريد أن يمنحها ولا حتى أن يمنح نفسه أي أمل؛ فهو لا يعلم إن كان سيعود حيًا؛ لذا يريد أن يمضي اليوم مع ابنته ليودعها ويبقى لها ذكرى جميلة أما هذه الفاتنة التي جعلت قلبه يدق من جديد فلا يريد أن يظلمها معه كما فعل مع بهار. لقد تعلم درسه بألا يدخل أحدًا لحياته قبل أن يخرج من هذا الظلام الذي يحيط به كما أنه لن يتخلى عن انتقامه لبهار مهما حدث.
جلست على سريرها تقضم أظافرها بأسنانها بغيظ شديد منه ومن نفسها، ولم تشعر بدموعها التي بدأت تنهمر على وجنتيها رغمًا عنها حتى انفجرت باكية الأمر الذي دفعها لتتمدد على سريرها وتكتم صوتها بوسادتها مما جعل ذلك الذي يراقبها من خلال هاتفه يتألم على حالها خاصة بعد أن بدأت بالسعال بقوة.
أغمض عينيه وهو يشعر بالغيظ منها لكونه مجبر على الاعتناء بها؛ فهي لم تتناول عشاءها ولم تأخذ دواءها حتى الآن.
توجه إلى المطبخ وأعد شطيرة وكوبًا من العصير وعاد بعد دقائق حيث تفاجأت به يقتحم غرفتها دون أن يطرق الباب حتى. فما أن رفعت رأسها عن الوسادة تفاجأت به يقف أمامها يقول وهو يضع ما في يده على الطاولة الجانبية للسرير: كلي هذا وخذي دواءكِ.
رمقته بحدة وغيظ قائلة: ليس من شأنك .. اخرج من هنا.
ابتسم بتهكم وأمسك بوجنتها بين أصابعه قائلًا: نفذي ما أقوله بهدوء كي لا أعاقبكِ يا صغيرة .. التعامل مع طفلة واحدة أمر مرهق للغاية، فما بالك باثنتين؟!
أبعدت يده بعنق قائلة: لست طفلة يا هذا!
دفع وجنتها بأطراف أصابعه بقوة طفيفة قائلًا: كلي طعامك واهتمي بصحتك إذًا ولا تنتظري أن يهتم بك أحد.
انسابت دموعها مجددًا وهي تقول بحرقة وألم: لم يحدث وأن انتظرت مساعدة أو اهتمامًا من أحد .. لطالما كنت أعالج نفسي بنفسي وأداوي جروحي بيدي.
عند هذه الجملة جلس بجانبها على السرير وبدأ بترتيب خصلات شعرها الثائرة بلطف وهو يتساءل قائلًا: ما الذي تخفينه داخل قلبك؟ ما هو الجرح الذي لم يشفى بداخلك بعد؟! لا تكذبي فأنا واثق من أن هناك أمرًا ما.
أجهشت بالبكاء بحدة أكبر مما جعله يتأكد من أن هناك سرًا ثقيلًا يعتمل في داخلها وترفض البوح به. جذبها لصدره وكأنها كانت تنتظر ذلك فقد أحاطت جذعه بذراعيه تكمل نوبة بكائها الهستيرية وهو يتعجب من حالتها وعقله يكاد ينفجر من الاحتمالات التي وضعها سببًا لحالتها هذه.
ربت على رأسها قائلًا: أخبريني ما الأمر .. إن كان بوسعي التخفيف عنكِ ومساعدتكِ سأفعل يا هيلين .. من الذي آذاكِ وجرحكِ؟ .. تكلمي.
رفعت هيلين رأسها ليبدأ بمسح دموعها وهو يطالعها بقلق واهتمام واضح لتهمس له قائلة: أنا خائفة.
رمقها بتساؤل لتردف قائلة: سمعت اتصالك .. لم أفهم ما كنت تقوله .. ولكن .. سمعتك تتحدث عن رجل اسمه "جاكوب".
ضيق يمان عينيه فعلى ما يبدو أنها تعرف هذا الشخص وهذا ليس مستبعدًا فقد عمل لصالح عائلتها لسنوات طويلة. حثها بإيماءة من رأسه لتكمل، فأردفت بجمل غير مترابطة: لا تبحث عنه .. لا تذهب أرجوك .. إنه خطير للغاية.
احتدت نظراته وتساءل بنبرة لا تقبل النقاش: ماذا فعل بك؟
ابتعدت عنه وتجمدت الدموع في محجريها وعندما طال صمتها أمسك بذراعيها بقوة مكررًا سؤاله، فأخفضت رأسها وانهمرت دموعها من جديد مما جعله يشعر بأنه على وشك أن يفقد صوابه. أمسك بذقنها ليرفع رأسها إليه متسائلًا: هل آذاكِ؟ ماذا فعل بكِ؟ هل .. اغتصبكِ؟
هزت رأسها بسرعة قائلة: لا .. لا .. أنا لا زلت عذراء.
لا تدري لمَ أخبرته بذلك وهي التي ترسم لنفسها صورة الفتاة اللعوب أمام الجميع، ولا ينكر بأن اعترافها صدمه حقًا؛ فهو لم يتوقع أن تكون عذراء مطلقًا، ولكن هذا الاعتراف كان بمثابة المهدئ له مما جعله يخفف قبضتيه عن ذراعيه ويرفع إحدى يديه لوجنتها ويتساءل بهدوء: كيف آذاكِ إذًا؟ أخبريني يا هيلين وأنا سآخذ حقكِ منه .. لا تخافي منه فهو لن يتمكن من فعل شيء لنا.
أمسكت بيده التي على وجنتها وضمتها بين كفيها كأنها تستمد منه القوة والشجاعة لتبوح بالسر الذي يقض مضجعها بعد أن ظن الجميع بأنها تجاوزته.
عندما كانت هيلين في السادسة عشر من عمرها وبينما هي عائدة من مدرستها كالعادة توقفت سيارة بقربها وخرج منها شخصين دفعاها للداخل ووضعا منديلًا على وجهها غابت بعده عن الوعي.
أمضت أيامًا في غرفة مظلمة وهي بين الوعي واليقظة تشعر بالخوف والذعر ولا تقوى على الحراك. كان يدخل أحدهم وهو يغطي وجهه يوميًا يضع لها وجبة الطعام ويرغمها على أخذ حقنة في ذراعها وحالتها تزداد سوءًا بشكل تدريجي.
حاولت الهرب كثيرًا حتى تجرأت على طعن أحدهم، ولكن أمسكوا بها من جديد وقد تبخرت كل آمالها بالنجاة من ذلك المكان عندما قيدوها بسلاسل من حديد.
انتظرت طويلًا أن يأتي أحد لإنقاذها، ولكن دون جدوى وبعد أن باتت تكره دخول أحدهم ليعطيها الحقنة باتت تطلبها بنفسها بعد انتهاء قدرتها على التحمل من شدة الألم الذي يجتاح جسدها.
في أحد الأيام بعد أن أخذت الحقنة وكانت في حالة من الانتشاء وعدم الوعي رأت رجلين يدخلان غرفتها لتسمع أحدهما يقول: باتت جاهزة .. تطلب الحقنة بنفسها فور ظهور الأعراض عليها.
سمعت الآخر يرد قائلًا: جيد .. باتت مدمنة إذًا.
عاد الأول ليهتف متسائلًا: ماذا نفعل بها الآن؟
همهم الآخر وهو يعبث بولاعة السجائر المميزة خاصته بتفكير، ثم قال: ألقوها غدًا أمام بيتها.
غادر كلاهما ولم تستطع تمييز وجهه؛ فرؤيتها ضبابية للغاية وسرعان ما أغلقت عينيها مستسلمة للظلام. استفاقت لاحقًا على لمسات تجوب جسدها بوقاحة، فشرعت تبكي وتحاول دفع ذلك الشخص عنها رغم وهنها وضعفها، ليقول الرجل: لولا منعه لنا من لمسك لما تركتك يا فتاة .. يا لكِ من فاتنة!
شرعت تبكي وتصرخ ليبتعد عنها وهي تراه يزداد وقاحة وعنفًا، ويحاول تجريدها من ملابسها حتى أتى زميله -الذي تناوب معه على حراستها في هذا المكان- وانتزعه من فوقها وهو ينهره قائلًا: هل جننت؟ أتريده أن يقتلك؟ لقد فعل بها هذا كي لا يزوجوها بغيره، فكيف تتجرأ على لمسها؟! لن يترك لك جثة حتى كي تدفن أيها الأحمق.
شعر الآخر بالذعر وخرج مسرعًا من غرفتها ليتبعه الآخر ويغلق الباب على تلك التي تنتحب مذعورة.
انتهت من سرد أسوأ ذكرياتها عليه لترفع رأسها إليه قائلة: كان هو .. جاكوب .. جعلني مدمنة .. أخبرتهم بأنه هو، ولكن لم يصدقني أحد بعد أن قلت بأنني لم أرَ وجهه إلا أنني تذكرت ولاعته التي يبقيها دومًا في يده .. لم أكن أعلم بأنهم ينوون بيعي لأحد رجال المافيا من أجل مصالحهم .. لذا عندما علمت أمي أخذتني وسافرنا وقطعت علاقتها بأهلها تمامًا .. بقيت أتعالج من الإدمان لفترة طويلة إلى أن بدأت أعود للحياة تدريجيًا وقد عاهدت نفسي بألا أكون ضعيفة أبدًا .. رغم ذلك جاكوب لم يتركني وشأني .. لمحته عدة مرات في أماكن مختلفة ورغم ذلك لست واثقة .. ربما تهيؤات .. ولكنه سبق وتوعدني بأن يلاحقني .. ربما تقول بأنني أهذي مثلهم وربما أكون مخطئة بشأن ملاحقته لي، ولكن هذا لا ينفي بأنه رجل خطير للغاية.
بقي يستمع لها بهدوء يكتم غضبه والنيران التي تشتعل بداخله بسبب كل الأذى والألم الذي عاشته منذ نعومة أظفارها، وفي داخله يتوعد لهذا الجاكوب بألوان من العذاب، وما أن انتهت وطالعته بنظراتها الخائفة مسح على وجنتها وابتسم لها قائلًا: هل تخافين عليَّ يا صغيرة؟
رمقته بحنق طفولي لذيذ وابتعدت عنه لظنها بأنه لا يصدقها وربما يراها تبالغ بخوفها، فوضع يدها على وجنتها يدير رأسها إليه وقد قرأ ما يدور في عقلها، ثم قال بجدية: إن كان هو رجل خطير فأنا الخطر بذاته .. وإن كان رجلًا شريرًا ماكرًا فأنا الشيطان بعينه .. أنا أعمل لهذه اللحظة منذ سنوات، ولن أقوم بخطوة غير محسوبة فاطمئني .. تناولي طعامك وخذي دواءكِ.
هم بالنهوض فأمسكت بيده وهتفت باسمه برجاء، ثم هزت رأسها برفض قائلة: لا تذهب .. لا أريدك أن تتأذى.
ابتسم ومسح الدموع التي كانت تهدد بالهطول من زرقاوتيها بيده، ثم انحنى نحوها وطبع قبلة دافئة على جبينها جعلت القشعريرة تسري في جسدها وقال: هذا لن يحدث .. خططت لكل شيء ولكل خطة خطط احتياطية .. ليس بوسع أحد العبث معي.
رمقها بثقة وغرور وقد غمزها بنهاية جملته لعله يخفف من توترها وخوفها وكان له ما أراد فحتى غروره وبروده بات يعجبها، وطريقته التي ختم بها حديثه أجبرتها على رسم ابتسامة صغيرة على شفتيها الجميلتين.
رغم رغبته بالبقاء معها، بل وسجنها بين ضلوعه كي لا تبتعد عنه مطلقًا إلا أنه مجبر على الابتعاد الآن على أمل أن تمنحه الحياة فرصة أخرى لكي يحيا كإنسان طبيعي، فهل سيحظى بفرصة كهذه؟! أم أنه يكتب نهايته بيده؟!..................................
استيقظ على صوت بهار التي أيقظته فور أن فتحت عينيها كي يأخذها إلى اسطبل الخيول كما وعدها. كان يمان يحاول استيعاب حماسها الشديد وهي بالكاد استيقظت، فأجلى صوته قائلًا: حسنًا سنذهب، ولكن لدينا ما نقوم به أولًا يا جميلتي.
قطبت بهار جبينها وبدا عليها الاستياء، فابتسم وهو يرى مدى التشابه بينها وبين أمها، فأمسك بوجنتها المكتنزة وابتسم قائلًا: أولًا سنغتسل ونبدل ملابسنا ونتناول فطورنا، ثم نركب الخيل حتى تشعرين بالملل وتقولين اكتفيت، موافقة؟
هتفت بهار بسعادة ورمت نفسها بين ذراعيه تطوق عنقه بذراعيها الصغيرين، فضمها بدوره بحب وأغمض عينيه مستمتعًا بالمشاعر التي تغدقه بها هذه الصغيرة والتي يجربها لأول مرة، ليدرك بأن هذا ما تعنيه مشاعر الأبوة.
استعان بجانسو لمساعدته في استحمامها وتبديل ثيابها وتمنى لو أن يعود لها ويتعلم فعل كل شيء من أجلها وألا يكون هذا آخر يوم يراها فيه.
أشار لجانسو بالخروج بعد الانتهاء ونظر لبهار الصغيرة وأمسك بيديها وهو يركع على ركبتيه أمامها وقال: حبيبتي، أريدك أن تتذكري ما سأقوله لكِ جيدًا، اتفقنا؟
أومأت له إيجابًا وقد فتحت عينيها لتركز فيما سيقوله وإذا به يقبل يديها ويقول: أنا لم أكن أعلم بأن لدي فتاة جميلة مثلك، وكنت سعيدًا للغاية عندما عرفت بأنك ابنتي. تأكدي من أنني أحبكِ جدًا. أنتِ أكثر شخص أحبه في العالم بأسره، ومن أجلك يمكنني فعل أي شيء. يمكنني أن أضحي بحياتي من أجل أن تعيشي بسعادة وأمان. تذكري هذا جيدًا يا بهاري.
ابتسمت الصغيرة وطوقت عنقه بذراعيها قائلة بحب: وأنا أيضًا أحبك جدًا.
نهض وأمسك بيدها يأخذها للأسفل حيث اجتمع الجميع حول مائدة الفطور، فجلس واضعًا الصغيرة على ساقيه كالعادة وشرعوا بتناول الفطور وكل منهم غارق في أفكاره ومخاوفه حتى قطع ذلك الصمت صوت الصغيرة وهي تشير لأحد الأطباق قائلة: أريد بعض الجبن بابا.
وقعت الشوكة من يد يمان وهو يستشعر إحساسًا غريبًا يجتاح قلبه على إثر كلمتها هذه في حين توجهت أنظار الجميع نحوهما وعندما طال صمته وجموده تنبهت الصغيرة لما قالته بعفوية ونظرت له متسائلة: هل أزعجك أنني ناديتك بابا؟ ألم تقل بأنك أبي؟
بدأت الدموع تلمع في عينيه متأثرًا وقال بصوت متحشرج من فرط مشاعره: كيف لي أن أنزعج؟! بالطبع يمكنك مناداتي بأبي يا حبيبتي .. وأنا سعيد للغاية بسماعها منكِ.
هتفت الصغيرة بسعادة وهي تنظر لجانسو قائلة: هل رأيتِ؟ لقد أصبح لي بابا مثل البقية.
طبعت قبلة على وجنة يمان الذي تضخم قلبه بين ضلوعه وبات على وشك الانفجار من فرط ما يشعر به ويفكر به، فضمها بقوة بين ذراعيه محاولًا ألا تنساب دموعه، فلاحظ براق ذلك وربت على ذراع أخيه وعلم ما يدور في ذهنه؛ فهو يخشى فراق طفلته بعد أن بدأت تعوضه عن كل ما فقده في حياته.
أمضى يمان اليوم مع بهار خاصة وعائلته عامة، والجميع يشعر بأنه يودعهم، لذا لم تكن الأجواء سعيدة مطلقًا.
بعد يوم طويل من اللعب واللهو نامت الصغيرة بين أحضان والدها الذي بقيت متمسكة به طوال اليوم الأمر الذي أزعج جانسو وتمنت بداخلها ألا يعود يمان فقط كي تتخلص من سيطرته على ابنتها وتحكمه بحياتهما، وقد عزمت على أن تبتعد بها وتسافر فور أن تخرج من هذا المكان؛ فهي ليست مستعدة لتدخل براق بحياة ابنتها من بعده بحجة أنها ابنة أخيه حتى أنه أغاظها قول يمان بأنه يريدها أن تكون إيلين، فهل يريد لابنته أن تكون متدينة ومحجبة أو بمعنى أصح بمنطقها "رجعية ومتخلفة"؟! هذا ما لن تسمح به أبدًا ولن تترك ابنتها تتأثر بهم مطلقًا.
اغتسل يمان وبدل ثيابه وخرج بهدوء من غرفة بهار ورمق باب غرفة هيلين نظرة مطولة كأنه يودعها، ثم نزل الدرج مسرعًا ليجد براق بانتظاره.
- هل ستذهب الآن؟
- أجل.
- كم أود الذهاب معك!
- مكانك هنا يا براق .. اعتنِ بالجميع وخاصة .. بهار.
- لا تكمل يا أخي .. أنا واثق من عودتك.
- عند انتهاء كل شيء سيأتي أحدهم ويخبركم بأنكم أصبحتم بأمان.
- يمان! توقف من فضلك.
- أعلم بأنني أخبرتك بالتفاصيل، ولكن للتأكيد ...
- ليس هذا قصدي .. قلت لك أنا واثق من عودتك .. بإذن الله ستنهي كل شيء وتعود .. لن أقول لك سوى أن تخلص النية لوجه الله .. نية التوبة وترك الأعمال المشبوهة هذه .. من أجل نفسك وابنتك .. ومن أجلنا جميعًا .. ولنيتك بأنك لا تريد إيذاء أحد بعد اليوم .. أعلم بأنك تريد ترك هذا العمل بسبب وعدك لبهار، ولكن هذا ما كان في نيتها هي أيضًا.
- أعلم كل هذا وعملت لسنوات كي أخرج من هذا العمل بشكل آمن، ولكنني لا أضمن النهاية يا براق .. نعم فكرت وخططت وعملت، ولكن التنفيذ على أرض الواقع ... ربما يكون هناك مفاجآت غير محسوبة.
- ليس بالنسبة للشيطان يمان .. لديك من المكر والخبث والدهاء ما يجعلك قادرًا على نسفهم جميعًا .. لذا أنا واثق من عودتك وقد حققت غايتك .. فقط توكل على الله.
ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتي يمان، فسارع براق بضمه بقوة وهو يجاهد للحفاظ على ثباته الظاهري أمام أخيه في حين أن قلبه يرتعد خوفًا من احتمال خسارته.
خرج يمان من البيت تحت أنظار أخيه المودعة والقلقة داعيًا الله له بالحفظ والسلامة، ليتفاجأ براق بمن يمر من جانبه بسرعة البرق وإذا بها هيلين التي اندفعت بكل سرعتها نحو يمان الذي بات في حديقة المنزل، وباغتته بضربة من قبضتها على ظهره، فالتفت رافعًا يده ينوي ضرب هذا الشخص الذي تجرأ على هذه الفعلة الحمقاء إلا أن نظراته الحادة اختفت وأنزل يده تدريجيًا وهو يرى الأمواج المتلاطمة في زرقاوتيها، لتقول ببكاء: قلت لك لا تذهب .. لمَ أنت عنيد للغاية؟! .. دعك من الانتقام من أجل زوجتك فقد رحلت وانتهى الأمر .. أم أنك تود اللحاق بها؟! .. فكر بابنتك على الأقل؛ فهي تحتاج إليك.
عندما رأت صمته وجموده أمسكت بقميصه وهزته قليلًا قائلة بنبرة باكية راجية: أرجوك لا تذهب .. من فضلك يمان.
لم يحتمل أكثر من ذلك، فجذبها بقوة كادت أن تحطم عظامها ليضمهاويستنشق رائحتها ويطمئن نفسه قبل أن يطمئنها بأن هذا ليس الفراق وليست النهاية.
أجهشت هيلين بالبكاء بين ذراعيه وهي تردد رجاءها حتى سمعته يقول: اهدئي .. لا شيء يدعو للخوف .. سأعود صدقيني .. سيسير كل شيء على ما يرام وأعود إليكم.
براق يراقب من بعيد باستغراب من هذا المشهد الذي أمامه، فهل يعقل بأن يمان قلبه تحرك من أجل هيلين؟! كيف ومتى حدث ذلك؟!
فرق يمان العناق مجبرًا لتنظر إليه هيلين من بين دموعها وتقول برجاء: عدني بأنك ستعود .. أنت رجل يفي بوعده، أليس كذلك؟
أومأ لها برأسه إيجابًا، فعقبت قائلة وهي تمسك بياقته: عدني إذًا .. هيا.
مسح على رأسها بيده بحنان وقال: سأعود، أعدك بذلك يا صغيرتي، وأريدك أن تعديني بالمقابل أن تهتمي بصحتك وتأخذي أدويتك، اتفقنا؟
هزت رأسها موافقة وهي تحكم قبضتيها على قميصه، فأمسك بيديها وأبعدهما عنه، ثم ابتعد عنها مسرعًا كأنه يهرب منها.
أجهشت بالبكاء وهي تراه يغادر المنزل بسيارته، فاقترب منها براق متسائلًا بهدوء: هل تحبينه؟
مسحت دموعها بسرعة وقالت بضيق دون أن تنظر إليه: للأسف يبدو كذلك.
ابتسم براق رغمًا عنه من إجابتها وتساءل باستنكار: للأسف؟!
التفتت له لتقول بحدة: ماذا؟ هل تحسبني سعيدة بإعجابي برجل مغرور، ومختل، وعنيد مثل أخيك؟! الذي يستمر بإنكار مشاعره تجاهي وفاء لزوجته الميتة؟! يجرحني بكلماته وتصرفاته فقط كي يبعدني عنه؟! أهذه تصرفات طبيعية؟!
أخذ براق نفسًا عميقًا وقال: يمان ليس رجلًا عاديًا يا هيلين .. نعم، لديه اضطرابات نفسية وعاش حياة قاسية وتحمّل الكثير .. إن كنت حقًا تحبينه فعليك أن تتعلمي كيف تتعاملي معه .. كما فعلت بهار .. كان معها رجلًا آخر .. عاشق .. حنون .. سند وأمان .. كان لها كل شيء.
انسابت دموعها من جديد وقالت بقهر: لم يحدث وأن منحني فرصة حتى، ولا أدري إن كان سيفعل عندما يعود.
ابتسم براق وقال مطمئنًا: سيفعل .. عندما يعود ويكون قد حل كل شيء سيبدأ بمحاولاته لعيش الحياة التي حرم منها .. الآن ما علينا سوى أن ندعو الله أن يعيده لنا سالمًا.
أومأت له هيلين إيجابًا وهي تمسح دموعها، ثم أردف قائلًا: هيا ادخلي فالجو بات باردًا.
سارت بخطواتها نحو البيت في حين رفع براق رأسه للسماء وقال: يا رب .. ما لنا سواك.